علوم

بعد اختفاء الطائرة الماليزية

كيف يمكن فقدان طائرة؟

STS-115_Shuttle_(White)_Flight_Control_Roomعلى الرغم من مرور أكثر من ستة أشهر على الحادثة، لا يزال لغز اختفاء طائرة رحلة الخطوط الماليزية 370 في 8 مارس 2014 محيراً، بل ومثيراً للاستفزاز. لأنه يشكِّل تحدياً لكبريائنا التقني. لكن التأمل في بعض خفايا وتفاصيل عالم الطيران التجاري قد يفسّر لنا شيئاً من أسباب الحيرة التي يمثلها لنا هذا الحادث ويبصّرنا بالتغيرات التي يجدر أن تمر بها إجراءات سلامة النقل الجوي. على الرغم من أن الأرقام تثبت أن الطيران يظل أحد وسائل التنقل الأكثر أمناً، مقارنة بالسيارات التي تودي حوادثها بحياة الآلاف سنوياً.

في 8 مارس 2014م، اختفت من على شاشات المتابعة الجوية طائرة “بوينغ 777” تابعة للخطوط الجوية الماليزية، في الرحلة الاعتيادية MH370 بين كوالالمبور وبكين. وبعد أيام من البحث المضني المدعم بكل الخبرات التقنية والبشرية المتاحة، أعلنت الشركة في 24 مارس، تأكيد فقدان الطائرة، واعتبرت أن جميع الركاب والطاقم البالغ عددهم 239 شخصاً هم في عداد الأموات. مع التأكيد على أن أي أثر أو جزء من حطام الطائرة المفقودة لم يتم العثور عليه حتى تاريخه!

27لوهلة، يبدو حدث «ضياع» طائرة هائلة الضخامة زنتها 250 طناً وتكلفتها 260 مليون دولار، فضلاً عمّن تحملهم من أنفس بشرية حيّة، حدثاً غرائبياً عصياً على التصديق. ما يدفع كثيرين لتبنّي نظريات مؤامراتية أو افتراض وجود تفاصيل خفيّة تم التستر عليها عنوة في هذه القصة. إذ كيف يمكن أن تختفي طائرة فلا يُعثر لها على أثر ونحن في خضم القرن الحادي والعشرين؟ وفيما العالم يكتظّ بنظم الرصد والاتصال السلكي واللاسلكي على اختلاف أنواعها؟

ما يزيد الطين بلّة، أن طائرة (بوينغ) من طراز 777 بالذات مجهّزة بجهازين اثنين مخصصين للاستجابة للذبذبة الرادارية، وثلاثة أجهزة لبث الموجات ذات التردد العالي جداً (VHF)، للمسافات القصيرة، وجهازي راديو بالتردد العالي (HF)، للمسافات البعيدة، وجهاز اتصال مع الأقمار الصناعية، إضافة إلى الهواتف الجوالة والأجهزة الذكية التي يحملها الركاب (وهي بالطبع غير قادرة على بث رسائل تصل إلى محطات الاتصال الأرضية، على مسافة لا تقل عن ارتفاع تحليق الطائرة، أي 10 كيلومترات).

كيف اختفت الطائرة من شاشات الرادار إذاً؟ وإذا كانت قد تحطمت أو انفجرت مثلاً، فَلِمَ لم يعثر على أثر لحطامها حتى الآن. صحيح أن تيارات المحيط الهندي حيث اختفت الطائرة قوية ومياهه بالغة العمق، لكن كثيراً من أجزاء الطائرات مصممة كي تظل طافية احتساباً لمواقف كهذه. وإذا كانت الطائرة قد انفجرت، فكيف لم تخلّف أثراً رادارياً يدل على انفجارها أو يرصد القذيفة الافتراضية التي أسقطتها.. لو كان هذا ما حدث؟

أسئلة كثيرة تطرح نفسها في هذا السياق. ولعل البحث عن إجاباتها سيكشف لنا بعضاً من الجوانب الأكثر إثارة للدهشة في تفاصيل عالم النقل الجوي.

باديء ذي بدء، لا بد من الإدراك بأن الطائرات المدنية لا تحظى باتصال مستمر ولا بتغطية رادارية طوال رحلاتها، وفي كل المواقع على الكرة الأرضية. ويمكن تعليل هذه الثغرة العجيبة في الاتصال من منطلقات تقنية ومالية أيضاً.

سماء حافلة بالثقوب!
26الحقيقة تقول إن التغطية الرادارية للمجال الجوي في كل أنحاء الكرة الأرضية، محدودة في أماكن عديدة. وحدها المناطق التي تحظى بالحركة الجوية الأكثر اكتظاظاً، تحظى بشبكات كاملة للمتابعة اللاسلكية والرادارية، وهي شبكات باهظة الثمن.

على سبيل المثال، فإن الأجواء الفرنسية تحظى بالتغطية الرادارية الكاملة، حتى مع وجود جبال تعيق البث. فإذا تعطّل جهاز الذبذبة الرادارية في الطائرة أو انقطع بثه، مثلما حصل مع الطائرة الماليزية المنكوبة، تظهر الطائرة باللّون البرتقالي على شاشات مراقبة نظام الملاحة الفرنسي، ويتم الانتقال فوراً لنظم الرادارات العسكرية. فالأجهزة العسكرية تملك تقنيات لكشف صدى أي كتلة طائرة وإن لم تكشف هويتها.

لكن وفي المقابل، لا يوجد أي رادار مدني يغطي المناطق النائية فوق القارة الأسترالية، أو أقصى الشمال الكندي، أو أطراف غابات الأمازون، ولا سيما فوق المحيطات الشاسعة. والباع الأقصى الذي تملكه الرادارات الأرضية المخصصة لشركات الخطوط الجوية، لا يتجاوز الـخمسمائة كيلومتر.

والنتيجة أنه في سفرة معتادة بين باريس ونيويورك تمتد عادة لنحو 8 ساعات، فإن الطائرة ستحلّق في مجال «غير راداري» فوق المحيط الأطلسي لمدة لا تقل عن الساعات الثلاث! ويُضطرّ الطيارون حينئذ، كلما قطعوا عشر درجات من درجات الطول، أي كل ساعة تقريباً، إلى الاتصال بالمراقب الأرضي، لإعلامه بموقع الطائرة شفهياً.

طيّار الطائرة الماليزية المفقودة لم يَردّ أبداً (عمداً؟) على هذه الاتصالات الدورية. وبين مواضع الاتصال هذه يخيم صمت راداري كبير. وهو صمت قد يمتد في المناطق الشمالية من الكرة الأرضية، حين تشتد العواصف المغناطيسية وتعطّل موجات الراديو العالية التردد، ففي الوقت نفسه لا تصل موجات بث الأقمار الصناعية «الثابتة» في مداراتها، إلى الارتفاع الذي تطير عنده الطائرات.

مسألة تـكلفة
MALAYSIA-CHINA-VIETNAM-MALAYSIAAIRLINES-TRANSPORT-ACCIDENTفي الحالات العادية، لا يعني هذا الصمت، أن الطائرة منقطعة عن العالم: فنظام ACAR الخاص باتصال الطائرة بشركتها مباشرة ليمدها ببيانات عن سير الرحلة، يوفر للطائرة وسيلة إرسال معلومات تقنية إلى الأرض، بالراديو أو الأقمار الصناعية، من أجل توقّع حدوث أمر ما يوجب الصيانة عند انتهاء الرحلة. لكن المشكلة أن هذه الاتصالات متفرقة وقليلة جداً ومحدودة، بالنظر إلى تكلفة الاتصال بالأقمار الصناعية. وكثير من شركات الطيران تختار ألا ترسل سوى معلومات عن المحركات، مرة عند الإقلاع، ومرة أخرى في أثناء التحليق، وغرض هذه الرسائل ليس سلامة الرحلة، بل معرفة معلومات تخص صيانة الطائرات. والواقع أن هذه الرسائل بالأقمار الصناعية، قلما يتلقاها المراقبون الجويون، وهي في أي حال لا تفصح عن موقع الطائرة على الدوام بنظام تحديد المواقع العالمي GPS. ولا يتسنّى للمحققين أن يتفحّصوا هذه المعلومات القليلة، إضافة إلى الرسائل الاختبارية التي ترسَل بنظام ACAR، إلا بعد وقوع حوادث.

جزء من الإشكالية إذاً هو في اعتماد نظم اتصالات عتيقة تم تطويرها في خمسينيات القرن الماضي. ويتوقع أن يكلف مشروع ترقية نظم اتصالات الملاحة الجوية إلى أحدث المعايير حوالي السبعين مليار دولار ، وهو مبلغ لا يسع سوق الطيران التجاري أن تتحمله.

لكن الخبراء يقولون إن الطائرة الماليزية المنكوبة، حتى لو كانت مرتبطة كلياً بشبكة الأقمار الصناعية GPS، فإن ذلك كان سيعطينا تصوراً أفضل عن آخر موقع وجدت به قبل أن تختفي.. لكنه لم يكن ليفسر اختفاءها.

ثمة مشاريع للمتابعة الجوية المستمرة تحت الدراسة، كاستخدام الاتصال بالطائرات القريبة، من أجل إيصال المعلومات المطلوبة، من طائرة إلى طائرة وصولاً إلى المراقب الجوي. غير أن أحداً لا يبدي حماسة لتحمّل تكاليف هذه الحلول، خصوصاً مع التقدّم الذي أحرزته سلامة حركة الطيران في العالم. إذ تقول شبكة سلامة الطيران، إن النقل الجوي لم يؤدّ إلا إلى 265 وفاة، في سنة 2013، بوقوع 29 حادثة، 4 حوادث منها فقط لطائرات نفاثة تجارية، وهذا من أصل 31 مليون رحلة جوية في السنة.

وفي المحصلة، إذا كانت تقع حوادث فقدان طائرة من وقت لآخر، فإن الكثرة الساحقة من الرحلات تصل بسلامة إلى بر الأمان.

إبرة.. وألف كومة قش
Jeffrey-Milstein-Flight-Recorder-1قد يكون التعذّر بالتكلفة المادية مبتذلاً إذا ما قورن بأهمية المحافظة على أرواح المسافرين التي لا تقدَّر بثمن. لكن حل لغز الطائرة الماليزية ليس معقوداً بعقدة المال وحسب. ذلك أن البحث عن أي طائرة مختفية هو علم له خبراؤه المدركون تماماً للتفاصيل الكثيرة والدقيقة التي تحكم مسار أي مركبة طائرة.

الدلائل من النبضات الدورية بين الطائرة وشبكة الأقمار الصناعية تشير إلى أن الطائرة قد استمرت بالتحليق –في منطقة مجهولة- لفترة تصل إلى خمس ساعات بعد اختفائها عن الرادار. هذه معلومة تعني أن مجال البحث عن الطائرة قد يمتد ليشمل دائرة قطرها 2500 ميل، أو تصل مساحتها إلى 20 مليون ميل مربع. هذا الامتداد الهائل يمثل عُشر مساحة الكوكب ويغطي شبه القارة الهندية كلها وأطراف اليابان وأستراليا كذلك. والبحث عن محض مركبة صغيرة في تلك المساحة قد يستغرق أعواماً! على افتراض أنها لا تزال سليمة وركابها أحياء.

ماذا عن المصفوفات الرادارية الخاصة بالدول في تلك المنطقة التقديرية. الواقع يقول إن تحليل قراءات الرادار الخاصة بكل المؤسسات المدنية والعسكرية هي مسألة خاضعة للبيروقراطية والكفاءة الإدارية للبشر الذين ينفذون مثل هذه التحليلات. وعلى سبيل المثال، فقد ركزت السلطات الماليزية بحثها خلال الأيام الأولى على المنطقة الواقعة غربي مسار الطائرة ناحية مضيق مالقة، لتتقدم السلطات التايلندية بعد ذلك بتحليلات معاكسة تماماً مبنية على تسجيلاتها الرادارية الخاصة. وهذه حال من التخبط تضافرت فيها كل المعوقات المالية والفنية المذكورة سابقاً.

البعض يتساءل عن جدوى ما يعرف بالصندوق الأسود على هذه الطائرات، الذي هو بمنزلة القلب النابض الذي يسجل الأحداث، ويرسل ما يدل على موقعه باستمرار. لهؤلاء نذكر أن هذا «الصندوق» كي يعمل يحتاج لمصدر طاقة. بطاريته الخاصة مصممة لتعمل لمدة 30 يوماً.، وبعد ذلك فإنه سيموت ويصمت للأبد. وغني عن الذكر أن تلك المهلة قد انقضت دون أن يعثر على أي جزء من الطائرة أو أي أثر لركابها.

قد تكون الطائرة الماليزية سليمة في مكان ما، وقد تكون تحطمت بركابها على قمة جبل أو ابتلعها المحيط. لقد استغرق العثور على حطام السفينة الأشهر (تايتانيك) سبعة عقود إلى أن تم تطوير التقنيات المناسبة للبحث في أعماق الأطلسي السحيقة. ولعل تقنيات ستظهر لسبر أغوار المحيط الهندي والعثور على حطام الطائرة الماليزية. في أغسطس 2014 عمّدت الحكومة الأسترالية شركة هولندية لمسح قاع البحر بموجات (السونار) للتأكد من عدم وجود حطام غارق. كما أن مصفوفات المراقبة بالأقمار الصناعية لا تزال تزود فرق المراقبة بصور لأجزاء «محتملة» من الطائرة. كل ذلك يتم تحليله ونفيه لاحقاً. لكن ذلك لن يقدم أي عزاء لذوي ركابها.. وقد لا يهدئ من مخاوف بعضنا على الرغم من أن الأرقام تثبت أن مشواراً اعتيادياً بالسيارة في شوارع مدننا هو أخطر بكثير من أي رحلة طيران تجارية حول العالم.

أضف تعليق

التعليقات

عبدالله محمد الغامدي

أعتقد أن الأبحاث العلمية قادرة بإذن الله على توفير حلول لهذه الإشكالية، غير مكلفة كثيراً؛ لكن تحتاج إلى الدعم المالي المطلوب.