إنها قصة ملحمة، قد تبدو بسيطة، تتردّد ببراءة مع أصوات الأطفال في مدارس الروضة: ألف باء تاء... لكنها في حقيقة الأمر، واحدة من أعظم ملاحم التطوّر البشري على الإطلاق. فمنها وبفضلها كتبوا التاريخ، وعلّموا العلماء، وقرضوا الشعر، وسطّروا علوم الحساب والفيزياء والكيمياء والفلك، ورووا أسفارهم في بلاد بعيدة، وعمّموها حتى على بسطاء الناس... فبات يستحيل أن نتصوّر تقدّماً حضارياً، من غير الأبجدية.
نسمّيها الأبجديّة، لأن حروفها الثمانية والعشرين كما نعرفها، تبدأ بأبجد هوّز. ويسمّيها الغربيّون الألفباء، لأنَّ نظام الحروف التي استوردوها من الفينيقيّين، يبدأ هو الآخر بحرفي ألف وباء. لكنَّ النظامين، الأبجدية والألفباء، وُلدا في رحلة تطور حضاري بدأت قبل آلاف السنين في مصر الفرعونية وسومر في بلاد ما بين النهرين، ومرَّت بأوغاريت عند سواحل بلاد الشام، حتى بلغت لاحقاً الغرب الأوروبي وكافة أرجاء المعمورة.
في هذا الملف، يروي فريق القافلة قصة هذا الاختراع العظيم، ورحلته عبر التاريخ من الألف إلى الياء.
قديماً قيل: ومعظم النار من مستصغَر الشرر. فقد كان ظهور الكتابة بالرسوم قبل سبعة آلاف سنة، وتطوّرها إلى الكتابة الهيروغليفيّة المصريّة والمسماريّة السومريّة، ثم السينائيّة، فالأوغاريتيّة وصولاً إلى الفينيقيّة، تلك الشرارة التي كان منها جانب أساسي من نار الحضارات، التي سرّعت تقدّم البشرية. فما هي قصّة هذه الشرارة التي أضاءت على العالم؟ وما هي الحاجة التي حدت البشر إلى اختراع الأبجدية، هذه الوسيلة المدهشة، التي تعبّر عن أعقد الأفكار الفلسفيّة، والتي يقرأ فيها المؤمن النصوص المقدّسة، والتي تكتب لنا أعظم العلوم التي اهتدى إليها الفكر البشري وتحفظها، والتي تتوارثها الأجيال بعد موت واضعيها، فتخلد إلى ما شاء لها الله.
في البدء كان الصوت والكلام والمشاهدة المباشرة، هي السبل الوحيدة للتفاهم بين البشر، في العائلة الواحدة، وبين الناس عموماً. والصوت نسمعه، ثم يضيع ذبذبات في الهواء، لا نستطيع استعادتها. هكذا كانت حياة البشر الأوائل، لا تقوى على مغالبة الأيام والسنين، بل تحيا يومها، بانتظار يوم آخر، ليس له أمس، إلا ما بقي منه في ذاكرة تذوي مع الأيام، لتضيع في محيط واسع اسمه النسيان. لا سجل، ولا تاريخ، ولا تراكم خبرات، ولا تطوّر، ولا تعليم إلا بالمشاهدة المباشرة.
ومع تنامي الحياة الاجتماعيّة، ومعها الأفكار، صار التاجر بحاجة إلى وسيلة يحفظ بها سجلّ ما له وما عليه، من حساب دائن ومدين. وصار الكاهن بحاجة إلى كتابة فكره الغيبيّ الماورائي، لتتعلّمه الأجيال المدعوّة إلى الإيمان به. وصار الملوك بحاجة إلى كتابة ما اجترحوه من منجزات عسكريّة وإداريّة، وظهرت عندهم الحاجة إلى القوانين التي يتساوى أمامها الرعايا، ليستقيم الحكم وتنتشر العدالة. كان لا بدّ إذاً من الكتابة، ولكن كيف؟ إنها قصة اسمها تاريخ ظهور الأبجدية.
الكتابة الهيروغليفية والمسماريّة
أقدم ما بقي لنا من آثار دالة على الكتابة، أن قدماء المصريّين في وادي النيل، والسومريّين في بلاد ما بين النهرين، بدأوا يكتبون كتابة تصويريّة أو مقطعية، أي إن الرسم الكتابي لم يكن يمثّل حرفاً، بل رسماً أو مقطعاً من الكلمة، مثل رسم العين أو البيت أو الطير، أو مقاطع: كا، وكو، وكي، وكان لكل من هذه المقاطع رسم خاص، ولم يكن لحرف الكاف مثلاً، رسم خاص به، ولذا كان على الكتبة أن يعرفوا رسم ما لا يقل عن مئات الأشكال المختلفة (وفي أقوال بعض العلماء، ألوف الأشكال)، في مقابل أن عامة الناس في يومنا هذا يعرفون قراءة اللغة العربيّة مثلاً، بفضل الأبجدية العربيّة التي تتضمن 28 حرفاً فقط، كافية تماماً لكتابة كل ألفاظ لغة الضاد، وكل كلماتها. ولما كانت الكتابة الهيروغليفيّة والسومريّة تصويريّة ومقطعية إذاً، كانتا وقفاً على علماء فيها، فلا يعرف عامّة الشعب الكتابة أو القراءة. ولذلك كانت العلوم والمعرفة من الأمور العزيزة غير المتاحة للعموم، مثلما تتاح الكتابة والقراءة اليوم لمعظم الناس.
وقد اكتشف الهيروغليفيّة وأصوات رموزها وقرأها العالِم الفرنسي شامبليون، الذي كان عضواً في البعثة العلميّة التي رافقت نابليون بونابرت في غزوه مصر في سنة 1798م. وتمكّن شامبليون من فكّ رموزها لدى اكتشاف حجر رشيد، الذي نُقشت عليه كتابة بالهيروغليفية وترجمتها بالإغريقيّة، فعمل في تحليل النصّين ومقارنتهما، ونجح في هذا الكشف العظيم الذي فتح المجال لمعرفة اللغة المصريّة القديمة، وما ترويه في نصوصها التاريخيّة المنقوشة على أعمدة الهياكل والمعابد أو المكتوبة على أوراق البردي القديمة. وهي نظام كتابي استُعمل لكتابة تاريخ الملوك الفراعنة على جدران وأعمدة الهياكل والقصور، ولتسجيل النصوص الرسمية والدينيّة وسجلات الحساب وما شابه. وأقدم ما بقي إلى يومنا مكتوباً بالهيروغليفيّة مخطوط يعود إلى 3300 عام ق.م، وفيه تصوير لأصوات الكلمات، التي تمثّل ما رآه المصري القديم
في بيئته، من حيوان ونبات، أو ما لاحظه من أعضاء في الجسم البشري كالعين واليد والرجل والفم. لكن رسوم هذه الكلمات كانت مقطعية، أي إنها تمثل أكثر من لفظ حرف واحد، مثل: را، التي تعني الفم، و: يري، التي تعني العين، وهكذا. فإذا كان ثمة كلمة فيها لفظة را، كانت تُكتَب (أي تُرسَم) إلى جانب كتابة المقاطع الأخرى التي تكوّن هذه الكلمة. وهي إذاً كتابة معقّدة جداً، لم يكن يتقنها سوى الكتبة، الذين تبوأوا مكانة رفيعة في المجتمع الفرعوني. لكون مهنتهم تقتضي هذا القدر الرفيع من المعرفة، غير المتاحة لعامة الشعب.
كذلك تمكّن علماء الآثار، لا سيما في مطلع القرن العشرين، من فك رموز الكتابة المسماريّة، فكان ذلك من أعظم المكتشفات التاريخيّة، مع تمكين الباحثين والعلماء من قراءة نص ملحمة غلغامش، أو نص قوانين حمورابي، أو النصوص التي تروي فتوحات الملوك وأعمالهم وتعاقبهم على العروش، وما إلى ذلك من سطور التاريخ القديم.
وقد تفنّن المصريّون القدماء في نقش كتاباتهم في المقابر والمعابد، حتى صارت الكتابة عنصراً من عناصر التزويق، مثل فن كتابة الخط العربي في المساجد والمخطوطات.
وكان من أهم الكتابات عند المصريّين القدماء كتابة أسمائهم، وأسماء الأب والأم والأخوات، لأنهم كانوا يعتقدون بالبعث في الحياة الآخرة وأن لا بدّ من المحافظة على اسم الشخص إلى جانب المحافظة على جثمانه بالتحنيط، فضياع الاسم هو بمنزلة الفناء الكامل. وكانوا يكتبون كذلك وظائفهم بحانب أسمائهم، مثل رئيس الكتّاب أمنمحعت الذي كانوا يكتبون اسمه ووظيفته كالآتي: "أمير-شس أمنمحعت، ماع خرو" أي رئيس الكتّاب أمنمحعت، الصادق في كلامه (أمام الآلهة يوم الحساب)، كمثل قولنا: المغفور له.
وقد كُتِبت اللغة المصرية القديمة في خطّها الهيروغليفي أفقياً وعمودياً من اليمين إلى اليسار، فيما عدا الحالات التي تحتّم تغيير اتجاه الكتابة لتتّفق مع اتجاه مشهد معيّن أو نص معيّن على عنصر معماري ذي طبيعة خاصة. كذلك استدعى التنسيق والشكل الجمالي في
بعض الأحيان أن تُكتَب بعض النصوص من اليسار إلى اليمين. وأما الهيراطيقية والديموطيقية، وهما نمطان آخران من كتابة اللغة المصرية القديمة، غير الهيروغليفيّة، فكانتا تُكتبان دوماً من اليمين إلى اليسار، مثل اللغات الساميّة. ويمكن تحديد اتجاه النص بالنسبة للكتابة الهيروغليفيّة حسب اتجاه الرسوم ذات الوجه والظهر مثل رسوم الإنسان والحيوان والطير والزواحف. فإذا كانت أوجه الطير والإنسان متجهة إلى اليمين قُرئت النقوش من اليمين إلى اليسار.
وفي لوحات كثيرة يبدو فرعون يقدّم قرباناً لأحد الآلهة، فنجد ما يقوله فرعون مكتوباً فوق رأسه على ناحيته، بينما ما يقوله الإله لفرعون يكون مكتوباً فوق رأسه أيضاً ولكن على الناحية الأخرى. وأحياناً يُكتب دعاء فرعون أمامه من أعلى إلى أسفل.
الأبجدية السينائية
في الطور التاريخي الذي يلي الكتابة بالهيروغليفية، وجد العلماء في بعض الآثار القديمة في شبه جزيرة سيناء، كتابات تَستخدم أبجدية أوليّة، مطوّرة عن الكتابة الهيروغليفيّة، فسمّوها الأبجدية السينائيّة، كان يستخدمها بعض الشعوب الساميّة التي قطنت في شبه جزيرة سيناء. هذا الخط السينائي الأوحد (Proto-Sinaitic) عثر عليه وليام فلندرز بتري في شتاء 1904 - 1905 في سرابيط الخادم بسيناء، وقُدّر تاريخه فيما بين 1500 - 2000 ق.م. وهذه الآثار الباقية، مكوّنة من مجموعة من النقوش (25 نقشاً) وُجِدَتْ بالقرب من مناجم الفيروز التي استثمرها الفراعنة هناك، وتتضمَّن علامات كانت غير معروفة حتى ذلك الحين، وبعض هذه الرسوم تشبه الهيروغليفيّة المصريّة. وبعد الدرس والتحليل تمكّن الخبراء من تمييز 23 حرفاً تشكّل أبجدية كاملة قريبة جداً من الأبجديات الساميّة الأخرى، إذ إنها تضم حروف
الأبجديّة الاثنين والعشرين، التي شاعت وتطوّرت فيما بعد لدى الشعوب السامية الشمالية الغربيّة، الكنعانيّين والفينيقيّين والأشوريّين. ومنها ظهرت أبجديّة أوغاريت سنة 1400 ق.م، ثم الأبجدية الفينيقيّة التي نقلها اليونان إلى الغرب نحو سنة 800 ق.م، واعتمدوها أبجدية لهم.
وقدّر العلماء لهذه الكتابة السينائية بأنها ظهرت في سيناء نحو 1700 ق.م، أي منذ نحو 3700 سنة من أيامنا هذه. ولاحظوا أن الحروف السينائية تُبدي مظاهر تشبه بعض الرموز الكتابيّة الهيروغليفيّة، فاستنتجوا أن ثمّة علاقة بين الكتابتين، حوّلت بعض رموز الكتابة الهيروغليفيّة الأقرب إلى الرسوم، إلى كتابة أبجدية شبه خالصة، لا سيما أن سيناء كانت على الدوام ممراً يربط مصر ببر الشام، في أقصى الغرب الآسيوي.
ولادة أبجديّات العالم
لقد كانت الأبجدية السينائية منطلق أبجديات معظم اللغات في العالم اليوم، فمن الأبجديات الحديثة المعروفة، التي تطوّرت عبر القرون، انطلاقاً من أصلها الأول، أي الأبجديّة الفينيقيّة المطوّرة عن الأوغاريتية والسينائيّة، الإغريقيّة (اليونانيّة) واللاتينيّة والكيريليّة (الروسيّة) والعربيّة والأمازيغيّة، وحتى المغوليّة. بل يعتقد بعض العلماء أن الكتابة بأبجدية هانغول الكوريّة، مستمدّة أيضاً من هذا الأصل السامي للأبجدية السينائية. ولا يشذّ عن هذا الأصل السينائي في الكتابة في يومنا هذا، سوى الكتابة الصينيّة، والكتابة اليابانيّة، اللتين تعتمدان رسم الكلمة، لا رسم الحرف، في منطق كتابيّ مختلف تماماً، يقوم على أن لكل كلمة رسماً كتابياً خاصاً، فيما يقوم منطق الأبجدية على أن لكل صوت رسماً كتابياً هو الحرف.
تردُّد الحروف الأبجدية في العربيّة
ليست كل الحروف، في أي أبجدية كانت، متساوية في التردّد. ذلك أن ثمة حروفاً كثيرة التردّد، وحروفاً لا تتردّد إلا قليلاً. وهذه حقيقة تصحّ في كلّ لغات العالم التي تُكتَب بحروف أبجديّة. فما هي الحروف التي يكثر تردادها في اللغة العربيّة، والحروف التي يقلّ تردادها؟لهذه الغاية، فلننظر مثلاً في القرآن الكريم إلى الآيات الاثنتي عشرة الأولى من سورة إبراهيم، ولنتوقف في تعداد الحروف، عند الحرف الأَلْف.
في هذا الجدول أدناه، ترتيب الحروف التقليدي، (أبجد هوّز)، وبقرب كل حرف عدد مرات ترداده في النص القرآني المذكور:ويتبيّن من إحصاء الحروف أن حرف الألف تكرر هنا 188 مرة، فيما تكرَّر حرف اللام 126 مرة، وهما الحرفان الأبجديان اللذان يتصدّران بلا منازع ترتيب الحروف في اللغة العربية، من حيث كثرة تردادهما. وهذا منطقي، ذلك أن أل التعريف كثيرة الورود في النص العربي، كما أن الألف قد تكون همزة أَ، أو ألفاً ا، أو ألفاً مقصورة ى. ولذا فهي متنوعة الكتابة، كثيرة الترداد.في أحرف الصف الثاني من حيث الترداد، النون (88) والميم (86) والواو (74) والياء (66). ثم في الصف الثالث، أحرف الكاف (39) والراء (38) والباء (38) والهاء (36) والتاء (32)... وهكذا، إلى أن نصل إلى الأحرف الأقل تردداً في اللغة العربية، وهي الضاد (5) والصاد (4) والطاء (4) والظاء (3) والثاء (3) والغين (3).
والملاحظ الذي قد يبدو غريباً، هو أن يكون ترداد حرف الضاد قليلاً، في لغة نسميها لغة الضاد. ذلك أن التسمية ليست مستندة على ما يبدو إلى مسألة كثرة ترداد الحرف في النصوص العربيّة، بل إلى أن الضاد وخمسة أحرف أخرى، (ث خ ذ ظ غ) هي أحرف تنفرد بها اللغة العربية عن باقي اللغات السامية القديمة، التي لم تكن أبجديتها تضم 28 حرفاً، بل 22 فقط. ولعل تسمية لغة الضاد، استحقتها لغتنا العربية لانفرادها بهذه الأحرف الستة، ومنها الضاد.
عند إعادة تكرار تجربة إحصاء الحروف وتردادها، في نصوص نختارها كما نشاء، من: كتاب أغاني الأصفهاني (فيه نصوص من العصر الجاهلي) ومن مقدمة ابن خلدون (من القرن الرابع عشر الميلادي) ومن بعض نصوص أمين الريحاني (القرن العشرين)، نتبيّن أن الأحرف الكثيرة الترداد، تتردّد في كل هذه النصوص بالنسب نفسها تقريباً، فيما الأحرف القليلة الترداد تبقى كذلك في النصوص الأربعة. وهذا يعني أن حصة الحروف في اللغة العربية شبه ثابتة على امتداد قرون عديدة.
أبجديّة أوغاريت
في منتصف الألف الثاني ق.م، شهد العالَمْ إحدى أعظم ثوراته العلميّة، حين بدأ التحوّل في أساليب الكتابة التي كانت سائدة، ولا سيما الهيروغليفية والمسماريّة. فقد كانت هاتان الكتابتان الأوسع انتشاراً، معقّدتين لا يتقنهما عامة الناس، فكلاهما تصويريّة ومقطعيّة، وفي كليهما ألوف الأشكال المختلفة.
وتدلّ آخر المكتشفات الأثرية حتى الآن، وهي مكتشفات بدأت تتوالى من سنة 1920، على أن سواحل بر الشام التي كان يقطنها الكنعانيون الشماليون والفينيقيّون، شهدت ظهور أقدم أبجديّة معروفة في أيامنا تعتمد الحرف، لا الرسم ولا المقطع في الكتابة. فالحرف يمثّل لفظة من ألفاظ الكلام، مثل الباء والجيم والألف والميم، وما إليها، مجردةً عن بقيّة الكلمة.
وكان علماء الآثار قد اكتشفوا بداية أن جبيل، على الساحل الفينيقي، كانت مهد ظهور أول أبجدية، لكن مكتشفات أوغاريت الأثرية استحوذت فيما بعد على قصب السبق، إذ إن عمرها يعود إلى عهد ملك أوغاريت الأشهر نقماد الثاني بين سنتي 1340 و1370 ق م. وقد تبيّن بالدراسة المقارنة أن أبجدية جبيل الأحدث ظهوراً، شبيهة بأبجدية أوغاريت، على نحو يوحي أنها متأثرة مباشرة بها، فيما يؤكد عالم الآثار السوري الراحل راؤول فيتالي، أن أبجدية أوغاريت كانت نتاجاً محلياً، لا تظهر عليه دلائل التأثر بأي كتابة سابقة لذلك العصر.
وتضم أبجدية أوغاريت ثلاثين حرفاً، مرتبة حسب ترتيب الأبجدية العربية المعروف: أبجد هوّز... وهي لا تختلف عن الأبجدية العربية، إلا بأنها لا تتضمن حرف الضاد، وفيها حرفا سين، بدلاً من الحرف الواحد.
ومع أن الكتابة بالأبجدية الأوغاريتية سهّلت أمري الكتابة والقراءة مبدئياً، إلا أن مهنة الكاتب ظلت في ذلك الزمن مهنة مقدّسة تُطلَب فيها عناية الآلهة. ففي نص من رأس شمرا صلاة يطلب فيها المصلّي اهتمام أحد الآلهة بكاتب مستجدّ، إذ جاء في النص: "للقضيّة التي أستعطفك من أجلها، لا تُظهر في عظمتك عدم الاهتمام بهذا التلميذ الفتيّ الجالس أمامك... أي سرّ أكشف له، العدّ، المحاسبة. أي حل أكشف له الكتابة السريّة، أكشف له القصب المبريّ والجلد، الدهن والفخّار... إذاً من كل ما يتصل بفن الكتابة، لا تهمل شيئاً".
ويتضح من هذا النص أنهم كانوا يكتبون بالقصب المبري، وعلى الجلد ويحفرون الكتابة على الفخّار. وكان كل هذا من ضمن مهنة الكتابة "السريّة". وقد وُجدَت في قصرٍ ملكيٍ مجموعة أضابير (ملفّات) وعدة أقلام كانت تُستخدَم لحفر الكلمات المسمارية على الفخّار. كذلك عُثر على نص يتضمّن أربعة أحرف هجائية بينها خطوط صغيرة عموديّة، ثم كلمة مركّبة من هذه الأحرف، مما يوحي أن الكتابة هذه كانت تمريناً لتلميذ على كتابة الكلمات تركيباً من أحرفها.
في لوحات كثيرة يبدو فرعون يقدّم قرباناً لأحد الآلهة، فنجد ما يقوله فرعون مكتوباً فوق رأسه على ناحيته، بينما ما يقوله الإله لفرعون يكون مكتوباً فوق رأسه أيضاً ولكن على الناحية الأخرى. وأحياناً يُكتب دعاء فرعون أمامه من أعلى إلى أسفل.
ويدل وجود أدوات الكتابة المسماريّة على الفخّار، كما يقول المؤرّخ جبرائيل سعادة، أن ذلك العصر كان عصر الانتقال من تلك الكتابة السومرية البابلية الأشورية الأكاديّة، إلى الكتابة الأوغاريتيّة الأبجديّة الجديدة. ويتابع سعادة قائلاً: "إنه لأمر يبعث على التأثّر أن نرى الأطفال اليوم، في عدد كبير من بلدان المعمورة، يتعلّمون استظهار الأبجدية بالترتيب الذي اختاره لها كاتب من أوغاريت، منذ أربعة وثلاثين قرناً من الزمن". وقد وجد علماء الآثار فيما وجدوا رُقُماً مكتوبة، لا تحتوي إلا على الحروف الأبجديّة بخط جميل. وهذا يعني أن هذه الرُقُم كانت مخصّصة لتعليم الأطفال أو الكتّاب الجدد نظام الكتابة الجديد، ليستظهروه، بترتيب الحروف نفسه، مثلما يفعل أطفال اليوم في العالم، حين يبدأون تعلّم الكتابة والقراءة. ومن بين الرُقُم الأثريّة المكتشفة، ثمة رُقُم فيها تفاوت في جودة الكتابة، بين الجيدة والرديئة. وقد يوحي هذا أن الأستاذ كان يعلّم تلميذه الكتابة، فيدلّه على الطريقة الصحيحة، ويطلب منه أن يجرّب بنفسه كتابة النص.
عندما تصبح الأبجدية قضية هوية وطنية
أكثر من مرة، حتى خلال التاريخ الحديث، كانت الأبجدية محور صراع سياسي وثقافي بسبب دورها البارز في حسم الهويات الوطنية حيثما تطلبت هذه الهويات مزيداً من الوضوح في تحديدها.
في شبه القارة الهندية
عندما أحكم البريطانيون سيطرتهم على شبه القارة الهندية، كانت اللغة الرسمية فيها هي الفارسية التي فرضها المغول، غير أن اللغة الأولى فيها من حيث الرواج كانت "الهندوستانية"، التي تتحدر من السنسكريتية القديمة والمطعمة بكثير من المفردات العربية والفارسية. وفي إطار محاربة النفوذ الفارسي، قرر الحكم البريطاني في عام 1837م، جعل الهندوستانية اللغة الرسمية. فطالب الهندوس يقودهم البراهمانيون في شمال شرق الهند بأن تُكتب الهندوستانية بالأبجدية الوطنية والتاريخية المعروفة باسم "الديفاناغاري"، فيما أصر المسلمون على كتابتها بالأبجدية العربية. ومن هذا الانقسام في اختيار أبجدية معيَّنة لكتابة اللغة الواحدة، ظهرت لغتان: "الهندية" الحديثة التي تكتب بالديفاناغاري، و"الأوردية" التي تكتب بالأبجدية العربية. واستمر هذا الانقسام حاضراً في شبه القارة الهندية حتى تقسيمها رسمياً في عام 1947م، فأصبحت الأوردية لغة رسمية إلى جانب الإنجليزية في باكستان، أما في الهند فاقتصر حضورها الرسمي على بعض الولايات، حيث أصبحت الهندية الحديثة اللغة الرسمية الأولى في البلاد بأسرها.
تركيا: تغيير الأبجدية "لتحديث" البلادغير أن أشهر الأمثلة على استبدال أبجدية بأخرى في العصر الحديث، يأتي من تركيا.
والواقع أن الزعيم التركي مصطفى كمال أتاتورك لم يكن أول من فكر باستبدال الأبجدية العربية التي كانت اللغة التركية تكتب بها لأكثر من ألف سنة خلت بالأبجدية اللاتينية. فقد ظهرت هذه الفكرة أولاً في عام 1862، عند أحد السياسيين ويدعى منيف باشا، وتجدَّدت على أيدي بعض المثقفين في بدايات القرن العشرين، ومن ثم عام 1923 خلال أحد مؤتمرات حركة "تركيا الفتاة". وكانت هذه الدعوات تجابه بمعارضة المحافظين ورجال الدين الذين رأوا أنها ستؤدي إلى عزل تركيا عن العالم الإسلامي وحتى عن تراثها الثقافي والأدبي.
كما عارضها آخرون لأسباب أخرى، منها أن اللاتينية لا تتضمَّن الأحرف الكافية للتعبير عن كل الأحرف التركية. غير أن أتاتورك استطاع إزاحة كافة المعارضات من طريقه، وشكل في يوليو 1928م لجنة "لإصلاح" الأبجدية التركية وإحلال اللاتينية محل العربية، تماشياً مع طموحاته بجعل تركيا أقرب إلى أوروبا منها إلى العالم الإسلامي. وضمَّت اللجنة ثلاثة لغويين، وثلاثة مدرِّسين، وثلاثة كتّاب وأعضاء في البرلمان، وترأسها الأرمني هاغوب مارتايان.
وخلال أشهر معدودة، كانت اللجنة قد أكملت "تطبيق" الأبجدية اللاتينية لتلائم كتابة التركية، بحيث صارت هذه الأبجدية تتألَّف من 29 حرفاً، منها سبعة أحرف أضيفت إليها نقاط أو حركات غير موجودة في الأصل اللاتيني لتعبِّر بدقة أكبر عن لفظ بعض الحروف بالتركية. وفي نوفمبر من العام نفسه، أقرَّ البرلمان اعتماد الأبجدية الجديدة، وأصبح قانونها سارياً منذ مطلع العام 1929م.
وتجدر الإشارة هنا، إلى أن الحالة التركية لم تكن فريدة من نوعها آنذاك. ففي العام 1926، ومن دون أي ضجيج إعلامي، كانت الجمهوريات التركية المنضوية في الاتحاد السوفياتي قد أبدلت أبجديتها العربية بالأبجدية اللاتينية.
الكردية، أبجدية وفق سياسة البيئة الضيقة!
تتألَّف اللغة الكردية من ثلاث لهجات رئيسة شديدة الاختلاف عن بعضها بعضاً، إلى حدٍّ يصنفها البعض بإنها مجموعة لغات مختلفة. أكبرها هي "الكرمنج" الرائجة في المناطق الكردية الشمالية، و"السوراني" في المناطق الوسطى، و"الباليواني" في المناطق الجنوبية، إضافة إلى تحدث الأكراد في شمال غرب إيران بمجموعة لغات غير كردية الأصل تعرف باسم "الزازا – غوراني". وبعدما كان كل التراث الكردي (ومعظمه من الشعر وفي الدين والتاريخ) يكتب بالأبجدية العربية حتى العقود الأولى من القرن العشرين. بدأ الأكراد في تركيا باعتماد الأبجدية اللاتينية منذ ثلاثينيات القرن الميلادي الماضي، وامتد ذلك إلى أكراد سوريا، لتصبح هذه الأبجدية هي السائدة لكتابة "الكرمنج". أما أكراد المناطق الوسطى (كردستان العراق) والجنوبية، فيستمرون حتى يومنا هذا بكتابة لهجاتهم العديدة بالأبجدية العربية.
وبعض المحاولات الفاشلة عربياً
ويذكر الذين عايشوا الحياة الثقافية العربية في ستينيات وسبعينيات القرن الميلادي الماضي، بعض الدعوات التي أطلقت إلى استبدال الأبجدية العربية باللاتينية في كتابة اللغة العربية، بدعوى "التحديث والانفتاح"، وكانت خلفياتها كما بات معلوماً سياسية بالدرجة الأولى فجاءت بعض محاولات كتابة العربية بالأحرف اللاتينية فاشلة حتى الإضحاك وانتهت تلك الدعوات إلى غير رجعة.
الأبجدية الفينيقية
الفينيقيون هم الذين نقلوا أبجديّتهم إلى الإغريق ليكتبوا لغتهم الخاصة ومن ثم يعمّموا استعمال هذه الحروف على معظم أرجاء العالم. وتتحدّث أسطورة الأميرة أوروبا عن رحلة أخيها قدموس الفينيقي إلى اليونان حاملاً نظام الكتابة بالأبجدية، الذي عرضه على الإغريق في مقابل الحصول على معلومات بشأن خطف شقيقته. وتتناسب هذه الأسطورة مع الواقع التاريخي الذي ذكره المؤرخ اليوناني هيرودوتس، حين أشار إلى أن الفينيقيّين وصلوا إلى اليونان مع قدموس وروّجوا الأبجديّة عند الإغريق، ولم يكن هؤلاء من قبل، على علم بها.
يقول ريمون ويل: "يبدو أن فكرة هذا الاختراع (الأبجديّة) نضجت في بلد متوسطيّ وساميّ متحضّر، وظهر المبدأ في كل أنحاء المنطقة السريانيّة الفلسطينيّة
وبعد عدة قرون، في العصر الروماني، ذكر المؤرخ بليني هذا الموضوع نفسه قائلاً إن للشعب الفينيقي مجد اختراع الحروف الأبجدية. لكن بعض العلماء ومؤرخي العصور القديمة عارضوا رأي بليني، وقالوا إن دور الشعب الفينيقي كان تعميم الأبجدية، وإن هذه الأبجدية كانت من ابتداع الكنعانيين الشماليين. غير أن هذا الاعتراض يُضعِفه أن الفينيقيّين، في تصنيف علماء التاريخ القديم، يُعَدّون من الكنعانيين الشماليين أيضاً، وكانوا يقطنون على امتداد ساحل بلاد الشام، من اللاذقية (اليوم) إلى مشارف يافا في فلسطين.
وعلى اختلاف الآراء، إلا أن أحداً من هؤلاء العلماء لا ينكر للفينيقيّين أن لهم الفضل في نقل الأبجديّة إلى العالم، بدليل قاطع وهو التشابه القريب من التطابق بين الأبجديّة الإغريقيّة، أول أبجديّة ظهرت في الغرب، والأبجديّة الفينيقيّة.
ثم إن المدن الفينيقيّة، في تلك العصور، كمعظم الساحل الشرقي من البحر الأبيض المتوسّط، كانت حيناً تحت السيطرة المصريّة وأحياناً تحت حكم حضارات بلاد ما بين النهرين. مع هذا الوضع، تعرّضت المنطقة إلى تأثيرات ثقافيّة مختلفة حسب الوجود العسكري أو النفوذ السياسي، فقد وُجِدَ في الآثار الفينيقيّة عدد من الوثائق المكتوبة بالخط المسماري أو المصري يعود تاريخها إلى الألفية الثالثة ق.م. وفي القرون الأولى من الألفيّة الثانية، ونتيجة الوضع السياسي في المنطقة، حصلت المدن هناك، على بعض الاستقلال والحكم الذاتي، فسعت إلى تطوير نظام خاص للكتابة أقل تعقيداً وصعوبة في التعليم.
ولا يمكن إنكار أن الأبجديّة الفينيقيّة كانت تطوراً طبيعياً للأنظمة الثلاثة التي سبقتها (المصرية والبابليّة والأوغاريتيّة) مع كثير من التحسين، لتصبح هجائيّة لا تصويريّة، بعدد أقل من الحروف يجعلها سهلة باستعمالها وترويجها.
ويقول ريمون ويل: "يبدو أن فكرة هذا الاختراع (الأبجديّة) نضجت في بلد متوسطيّ وساميّ متحضّر، وظهر المبدأ في كل أنحاء المنطقة السريانيّة الفلسطينيّة، وأن هذه الأنظمة كانت على وشك أن ترى النور من دون انتظار، كل واحد بدوره، في نقاط مختلفة، على أشكال متنوّعة حسب الظروف والتأثيرات المحليّة ووفقاً لبراعة هؤلاء المخترعين وخيالهم".
وتتكوّن الأبجديّة الفينيفيّة من 22 حرفاً (أبجد هوّز حطي كلمن سعفص قرشت)، وهي تخلو مثل كل الأبجديات الساميّة من الأحرف الستة الإضافيّة التي في الأبجدية العربيّة (ثخذ ضظغ). وتُكتَب من اليمين إلى اليسار، مثل العربية. وقد اكتشف رموز اللغة الفينيقيّة الأب بارثولوميو في سنة 1758، حين درس بالمقارنة نصوصاً إغريقيّة وفينيقيّة منقوشة معاً، في جزيرة مالطة.
وبين أشهر النصوص المكتشَفة نقوش حيرام الملك الفينيقي، المحفورة في العام 1000 ق.م. نقشها ابنه على ناووس الملك. ويستخدم هذا النقش باللغة الفينيقيّة، 19 حرفاً من الأبجدية.
ومع احتلال الإسكندر المقدوني المدن الفينيقيّة، في القرن الرابع ق.م، حلّت اللغة اليونانيّة لغةً مكتوبة بالأبجديّة الإغريقيّة، على حساب الكتابة بالأبجديّة واللغة الفينيقيّة. لكن عدداً قليلاً من النصوص النادرة تشهد على استمرار استخدام الأبجديّة الفينيقيّة حتى القرنين الثاني والثالث الميلاديّين ومواصلة نقش أسماء المدن على العملات الفينيقيّة بها.
ونظراً لسهولة الكتابة بالإبجديّة الفينيقيّة، انتشرت، ولم يقتصر انتشارها على الإغريق، ثم الرومان، بل اعتمدتها الشعوب المجاورة لنقوشهم ولكتابتهم الخاصّة: الآراميون والأنباط، ثم نشرها الفرس في وقت لاحق، في جميع أنحاء غرب إمبراطوريّتهم. كذلك انتشرت في مصر وساحل الأناضول حتى بلاد بابل. وشكّلت خلال عدة قرون، الكتابة الأبجديّة المشتركة في المنطقة، قبل أن تحلّ محلها الكتابة الأبجديّة العربيّة مع الفتح الإسلامي.
لوحة مفاتيح الطباعة
لقد كان لترداد الحروف في اللغة أثر يبدو جلياً في لوحة مفاتيح الطباعة، على الحواسيب وآلات الطباعة باللغة العربيّة. فالأصول في ممارسة الطباعة أن يضع الطابِع إصبعي السبابتين على حرفي التاء والباء، وهما من الحروف المتوسطة الترداد، لكنهما مجاوران للحرفين الأكثر تردداً: الألف واللام. ونجد في الصف الذي توضَع عليه أصابع الطباعة الثمانية، أن أحرف هذه الصف كثيرة التردد. أما الصاد والضاد، والطاء والظاء، والزين والذال، فهي عند الأطراف، أو في الصفين الأعلى والأسفل من الحروف، لأنها قليلة التردد. ولعل مَن صمّموا لوحة الطباعة وضعوا الأمر في حسبانهم، حين بدأت صناعة الآلات الطابعة باللغة العربيّة، تسهيلاً لحركة الأصابع على المفاتيح أثناء الطباعة.
أ ب ج د A B C D
ما نزال نلحظ في ترتيب حروف الأبجدية العربية، وترتيب الحروف الألفبائية (alphabetic) اللاتينية، كثيراً من الشبه الذي ينمّ عن تاريخ الحروف، على نحو يؤكد الأصل "السامي" للأبجدية كما تعرفها الشعوب الأوروبية الغربية عموماً، وكثير من شعوب العالم اليوم.
فإذا طالعنا الترتيب حسب التصنيف العربي التقليدي (أبجد هوّز...) والتصنيف اللاتيني للحروف، فسنجد أولاً أن البداية تضع أربعة أحرف بالترتيب نفسه: أ ب ج د – A B C D. وحرف ج G اللاتيني أصله من حرف C، مضافاً إليه عكفة. فإذا نظرنا، فسنجد في ما بعد ستة أحرف، لا يبدو فيها شبه بين الترتيبين، ولوجدنا: ك ل م ن – K L M N في مقابلها، على نحو كامل التطابق. وبعد أربعة أحرف لا يبدو بينها تشابه واضح، نجد: ق ر ش ت – Q R S T. هنا أيضاً التطابق كامل، بالنظر إلى أن الحرف اللاتيني S يُلفظ ش، إذا لحقه حرف H، بالإنجليزية مثلاً، أو إذا لحقه حرفا CH باللغة الألمانية مثلاً.
أما إذا عدنا إلى أحرف هوّز، فإن الواو تقابل حرف F، وقد لا يبدوان متطابقين، إلاَّ أن حرف W الذي يشابه لفظه في عديد من اللغات لفظ حرف الواو، إنما يُلفَظ في عدد من اللغات، مثل لفظ حرف V، الذي يلفظ بالألمانية فاء. ثمة إذاً علاقة مباشرة بين حرف الواو، وحرف F، ولو أنَّ تطور العلاقة عبر اللغات الأوروبية غير واضح المعالم للوهلة الأولى.
في الأحرف الثلاثة التالية: ح ط ي، نجد أن حرف H يقابل الحاء، التي لا وجود للفظتها في اللغات الأوروبية، لكن أقرب الحروف إليها هو حرف H، من حيث مخارج الحروف. وقد يسأل البعض: لماذا تقابل الياء حرف J. إن هذا الحرف الأوروبي يُلفظ ياء في بعض لغات أوروبا الوسطى والشمالية، ومنها الألمانية، كما في كلمة Ja، التي تُلفَظ: يا، أي: نعم.
طالب الهندوس يقودهم البراهمانيون في شمال شرق الهند بأن تُكتب الهندوستانية بالأبجدية الوطنية والتاريخية المعروفة باسم "الديفاناغاري"، فيما أصرَّ المسلمون على كتابتها بالأبجدية العربية.
بعد حرف س، يتقابل الحرفان ع وo، وهنا أيضاً قد لا يبدو التطابق واضحاً. غير أن تاريخ انتقال الأبجدية من الفينيقيّة إلى الإغريقيّة، يشير إلى أن حرف العين في الأصل كان رسماً دائرياً، تشبيهاً بالعين البشرية. فنقله الإغريق من حرف عين تعلوه ضمّة لفظه: عو، واعتمدوه للفظة O. يلي ذلك حرف ف، الذي يقابله حرف P، والعلاقة واضحة، ففي كثير من اللغات الأوروبية، يُلفَظ هذا الحرف فاء، إذا لحقه حرف H.
بذلك نجد أن ترتيب الأبجدية العربية وترتيب الألفبائية الأوروبية يتطابقان إلى هذا الحد أو ذاك، في ثمانية عشر حرفاً هي معظم الحروف. أما الباقي منها، فلا شك في أن اختلاف اللغات أفضى إلى اختلاف في عدد من الأحرف، مثل أحرف ث وذ وغ وض وظ. فيما تخلو اللغة العربية من لفظ V أو X.
خمس أبجديات في طور الانقراض
شهد العالَمْ خلال تاريخه نشوء عدد كبير من الأبجديات ومن ثم اندثارها تحت تأثير عوامل مختلفة. وكانت أكبر موجة اندثار للأبجديات المختلفة خلال العصر الروماني. فقد عمل الرومان على فرض أبجديتهم اللاتينية على كل الشعوب التي بسطوا حكمهم عليها، ومن الأبجديات التي انقرضت آنذاك، الفينيقية، والهيروغليفية التي كانت بقيت مستعملة في الكتابة في مصر حتى عصر البطالسة. ويشهد العالَمْ اليوم موجة جديدة من الأبجديات المهدَّدة بالاندثار، قد تكون الأكبر منذ ذلك الحين، وتشمل خمساً، هي:
1 – البورمية
تتألَّف الأبجدية البورمية بأسرها من دوائر وأنصاف دوائر وأقواس، وقد تشكَّلت على هذا النحو لأن ورق النخيل الذي كانت تكتب عليه تاريخياً يتمزق إذا تم الضغط عليه وفق خطوط مستقيمة. وقد تكون البورمية الأقل تعرضاً لخطر الاندثار في هذه اللائحة، ولكن منذ انفتاح بورما (ميانمار) على العالم الخارجي، بات استخدام هذه الأبجدية شبه منحصر في الكتابات الدينية. أما في الحياة اليومية، فقد بدأ يشيع استخدام الهندية بالدرجة الأولى، والإنجليزية بدرجة أقل.
2 – التاغالوغ (الفيليبين)
تتحدَّر هذه الأبجدية من الكتابات الهندية الأوروبية القديمة، وكانت مستخدمة في الفيليبين على نطاق واسع حتى بداية الاستعمار الإسباني للأرخبيل. فغير الإسبان أولاً في بعض حروفها، وبعدما كانت تكتب من الأسفل باتجاه الأعلى، صارت تكتب أفقياً من اليسار إلى اليمين، وانقلبت بعض الأحرف بزاوية 90 درجة. ولكن بعد ذلك، أصبحت الإسبانية لغة البلاد الرسمية، الأمر الذي شكَّل بداية احتضار أبجدية التاغالوغ.فعلى الرغم من الإعلان عام 1972م أن الفيليبينية هي لغة البلاد الرسمية، فإن كتابتها تحوَّلت من التاغالوغ إلى اللاتينية. وتقول السلطات اليوم إن التاغالوغ لا تزال موجودة ومستخدمة، ولكن من المرجِّح أن مصيرها النهائي سيكون مشابهاً لمصير 120 لغة محلية كانت محكية في البلاد، واندثرت كلها بشكل تام.
3 – الهاناكاراكا (إندونيسيا)
تطورت هذه الأبجدية أولاً في جزيرة جاوا لكتابة لغتها، ومن ثم راجت في معظم جزر إندونيسيا. ومع ظهور الطباعة، حاولت السلطات في القرنين التاسع عشر والعشرين وضع تصاميم لهذه الأبجدية لتلائم التقنية الجديدة، غير أن الحرب العالمية الثانية وضعت حداً لهذه الجهود، إذ منع اليابانيون استخدام هذه الأبجدية لدى احتلالهم لإندونيسيا. ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية، تم اعتماد الأبجدية اللاتينية، بحيث لم يبق للهاناكاراكا من مكان للاستخدام غير بعض إشارات السير في الشوارع، وحرص الحكومة على تدريسها في المدارس الحكومية، في ما يشبه الترف الثقافي، الذي يكاد يعدم أي تطبيق عملي في الحياة الحديثة وعالم الأعمال.
4 – السينهالية (سريلانكا)
واحدة من أكبر الأبجديات لاحتوائها على 50 حرفاً، يستخدم منها 38 حرفاً فقط في الكتابة المعاصرة، والباقي ينحصر استخدامه في الكتابات الدينية والمدارس. وعلى الرغم من أن السينهالية هي اللغة الأم لنحو نصف سكان سريلانكا، ومن المرجح أنها ستصمد لبعض الوقت، فإن استخدامها وتعلمها محصور في الجزيرة المعزولة، وبات مهدَّداً من العولمة والحاجة إلى إتقان لغة تواصل مع العالم.
5 – الجورجية (جورجيا)
لجمهورية جورجيا المحصورة بين تركيا وروسيا أبجديتها الجميلة الخاصة بها. ولكن ترسيم الحدود ما بين جمهوريات آسيا الوسطى غداة انهيار الاتحاد السوفياتي، ألحق بروسيا كثيراً من المناطق التي كانت تتحدَّث الجورجية وتكتب بأبجديتها، وهذا يعني أن السيريلية الروسية حلَّت محلّ الجورجية في التدريس والكتابة الرسمية، حيث إنَّ عدد القوقازيين الذين يتقنون الجورجية بات يتناقص باستمرار. وإلى هذا يضاف ضعف المناعة الذي تعاني منه بوصفها أبجدية معزولة عن العالم الخارجي، خاصة بعد تزايد الصلات السياسية والثقافية ما بين جورجيا وأوروبا الغربية وأمريكا في السنوات الأخيرة، وتقدَّم الأبجدية اللاتينية المصاحب لذلك.
ترتيب حروف الهجاء العربيّة
ويعرف التلميذ العربي، وهو يدرس مبادئ لغته الأولى، ترتيبين للحروف العربيّة: الأول هو أبجد هوّز حطي كلمن...، والثاني: أ ب ت ث ج ح خ... فما سبب هذا الازدواج، في ترتيب الأبجدية، التي نسميها أبجديّة، نسبة إلى الترتيب الأول، ولا ننسبها إلى الترتيب الثاني لنسمّيها أبتثيّة.
الأصل في الأبجدية حين وُلدت في العصور القديمة، أن ترتيبها كان: أبجد هوّز، كما نعرفه. وقد نقل الإغريق عن الفينيقيّين الأبجدية بالترتيب نفسه، إلَّا بعض الاختلاف، مع إضافة أحرف أوروبيّة لا وجود لها في اللغات "الساميّة"، كما سلف.
أما الترتيب الثاني، فيسمّيه البعض ألفبائي، مع أن هذه التسمية قد تصحّ أيضاً للترتيب الأول الذي يبدأ هو الآخر بحرفي ألف وباء. ويلاحَظ أن الكلمة الأوروبيّة للحروف الهجائية، هي ALPHABET، لأن ترتيب الحروف الأوروبية يبدأ أيضاً بحرفي a وb (ألفا بيتا، باليونانية).
هذا الترتيب الثاني للحروف العربيّة الهجائيّة، ظهر في عصر الخليفة عبد الملك ابن مروان (26-86 هـ، 646-705 م)، وضعه نصر بن عاصم الليثي (توفي عام 89 هـ) ويحيى بن يعمُر العدواني (توفي قبل عام 90 هـ). وسبب ذلك أنهما لاحظا أن ثمة عدداً من الحروف العربية متشابهة بالرسم، لكنها تختلف بالتنقيط، فبدأ الترتيب بحرف ألف، تليه الباء، ثم التاء والثاء اللذان يشبهان الباء رسماً، ولا يختلفان عنها إلّا بالنقط. ثم تلا حرف ج ثم حاء وخاء، لتشابهها... وهكذا. ويلاحظ هذا الأمر بوضوح، حين ننظر في الترتيب الكامل:
أ. ب. ت. ث. ج. ح. خ. د. ذ. ر. ز. س. ش. ص. ض. ط. ظ. ع. غ. ف. ق. ك. ل. م. ن. هـ. و. ي.
حتى نصل إلى الكاف واللام والميم والنون، التي لا يشبه أي منها حرفاً آخر. وينتهي الترتيب بحرف الهاء ثم بحرفي العلة الواو والياء.
وإذا عدنا إلى الترتيب الأبجدي، فإن المشرق العربي يعتمده على النحو التالي: أبجد هوّز حطي كلمن سعفص قرشت ثخذ ضظغ. أما الترتيب الأبجدي للحروف العربية في المغرب فهو كالتالي: أبجد هوّز حطي كلمن صعفض قرست ثخذ ظغش، وسبب هذا الاختلاف بين المشارقة والمغاربة في الترتيب الأبجدي هو أن المغاربة يروون الترتيب الأبجدي عن الأمم القديمة وبخاصة الأمم الساميّة، على غير ما يرويه عنهم المشارقة.
في الأحرف الثلاثة التالية: ح ط ي، نجد أن حرف H يقابل الحاء، التي لا وجود للفظتها في اللغات الأوروبية، لكن أقرب الحروف إليها هو حرف H، من حيث مخارج الحروف.
الأصل في الأبجدية حين وُلدت في العصور القديمة، أن ترتيبها كان: أبجد هوّز، كما نعرفه. وقد نقل الإغريق عن الفينيقيّين الأبجدية بالترتيب نفسه، مع بعض الاختلاف، وإضافة أحرف أوروبيّة لا وجود لها في اللغات "الساميّة".
ولا بدّ في حديث ترتيب الحروف العربية، من الإشارة إلى الترتيب الذي وضع به الخليل بن أحمد الفراهيدي معجمه للغة العربية، الذي سمّاه: معجم العين. فقد بدأ الفراهيدي معجمه استناداً إلى مخارج الحروف، بدءاً بالعين، لأن مخرَج هذا الحرف هو البلعوم، أي أعمق المخارج في حروف اللغة العربية. ثم جاء في ترتيبه، حرف الحاء، وهي الأقرب مخرجاً إلى العين، ثم الهاء... وهكذا إلى أن انتهى إلى الميم والباء، وهما حرفان شفويان، ثم أحرف العلّة الثلاثة والهمزة.
الأبجدية فناً
في عام 2012، أقام متحف الفن الحديث في نيويورك معرضاً بعنوان "أبجدية الفنَّانين"، ضم 26 مطبوعة (من كتب وملصقات)، وكان كل عمل مخصصاً لحرف واحد من أحرف الأبجدية اللاتينية، وكلها تحمل تواقيع عدد من كبار الفنَّانين المعاصرين.. وكانت الغاية من المعرض إظهار الإبداع الممكن في رسم حروف الأبجدية بشكل يتجاوز إلى حدٍ بعيد إمتاع الطفولة المدرسية.
والواقع أنَّ مجرد رسم الصوت برمز مرئي هو في الواقع شكل من أشكال الفن. ولأن كل الثقافات استساغت الكتابة الحسنة التي تسهل قراءتها، أصبح الخط الجميل مهارة، تكتسب أساسياتها خلال التعليم الابتدائي. ولكن ما من ثقافة ارتقت بحسن الكتابة إلى مستوى أرقى أشكال الفنون الجميلة كما هو حال الثقافة العربية الإسلامية.
فقد وفَّرت الخصوصية الشكلية للأبجدية العربية مادة خصبة للفنَّانين ليصوغوها بأشكال وطرز تختلف عن بعضها كل الاختلاف، إنه فن الخط العربي الذي نعرفه جميعاً، ولا مجال هنا للتوسع في الحديث عن مذاهبه ومدارسه، التي ترواحت في الغايات التي توختها وأسلوب كتابتها، ما بين سهولة القراءة حيثما السهولة مطلوبة، ويلبيها خط النسخ وخط التعليق على سبيل المثال، وبين الأبهة، حيث الأبهة والتعبير عن العظمة هما المطلوبان، كما هو حال خط الثلث في العمارة، وصولاً إلى صيغة عصية على القراءة مثل الخط البنغالي الذي ابتكر في شمال شرق الهند في عصر السلطنات، واستخدم للزينة فقط على النقود والزخارف المعمارية.
وعندما أتى الأوروبيون إلى الشرق في الحروب الصليبية، واكتشفوا فن الخط العربي والمنمنمات في المخطوطات، حاولوا إيجاد تطبيق مشابه في صناعة كتبهم، التي صاروا
يزينوها برسوم مستوحاة في أسلوبها من المنمنمات الإسلامية. ولما بدا لهم أن أبجديتهم اللاتينية غير مطواعة لاستنباط مذاهب فنية في كتابتها مشابهة للعربية، ابتكروا منهجهم الخاص في تعظيم الحرف الأول من أول كلمة في بداية كل فصل، وذلك من رسمه أضخم من باقي أحرف الكلمة نفسها بعدة مرات، ووضعه ضمن إطار خاص، وتوريقه وتلوينه وتذهيبه.
وفي العصر الحديث، وتحديداً بعد ظهور التجريد في الفن، تكاثر عدد الفنَّانين الذين اعتمدوا أشكال الحروف الأبجدية كمواضع لأعمالهم التشكيلية. وظهرت تيارات فنية عديدة في الرسم والتصوير الفوتوغرافي تعتمد الحروفية، والمواقع الإلكترونية التي تستعرضها أكثر من أن تحصى.
وإلى ذلك، بات تصميم الأحرف الأبجدية في كل لغات العالم اختصاصاً جامعياً وفناً قائماً بحد ذاته، ويتطلَّب مهارات شديدة التعقيد لتطبيق الكتابة به للطباعة، وخاصة الكمبيوترية منها.