تتجه أنظار العالم بأسره هذا الصيف إلى العاصمة اليونانية أثينا لمتابعة الألعاب الأولمبية التي صارت حدثاً عالمياً يُحتفل به كل أربع سنوات. وعودة الألعاب في دورتها الحالية إلى البلاد التي انطلقت منها قبل أكثر من خمسة وعشرين قرناً، يشكّل مناسبة لإلقاء الضوء على ما كانت عليه هذه الألعاب عند نشأتها، وما كانت تختلف فيه عن صيغتها المعاصرة التي أعيد إحياؤها عام 1896م.
الباحثة هدى بتروبولوس تمد هذا الجسر صوب الماضي، يساعدها على ذلك اللقاء الذي أجرته مع الأكاديمي المتقاعد والرياضي النشأة الدكتور نيكولاس يالوريس الذي عمل في الآثار اليونانية، وكان أيضاً نائباً فخرياً للكلية الأولمبية العالمية.
واكبت الألعاب الأولمبية القديمة تحولاً تاريخياً في الحضارة اليونانية. فبدايتها تعتبر الحد الفاصل ما بين عصرين في تلك المنطقة، العصر القديم الأول والعصر التاريخي. وما يعتبر عادة عصراً تاريخياً يبدأ عام 776 ق.م.، أي مع أول دورة أولمبية سجلت فيها أسماء الفائزين، وكانت تلك المعرفة هي الأولى لأسماء تاريخية حقيقية وغير أسطورية. ويقول الدكتور يالوريس: “جميع الأحداث في الفترة التاريخية كانت مؤرخة حسب روزنامة الألعاب الأولمبية، فيشار مثلاً إلى أن هذا الأمر حدث في السنة الأولى أو الثانية أو الثالثة من الدورة الخمسين أو الستين أو غيرها للألعاب، كما نفعل اليوم في تاريخنا ونعود إلى السنة الميلادية أو الهجرية”.
وكان للألعاب الأولمبية، في هذا التحول الذي شهد نشأة المدينة-الدولة على أساس مواطنين أحرار، وظيفة سياسية وثقافية، فهي ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بما اعتبر “الهدنة المقدّسة” بين هذه المدن، أي وقف كل المعارك بينها في فترة الأولمبياد وما قبلها وبعدها، وهذا ما تم احترامه، مع بعض الإستثناءات، ضمن مسار تاريخي طويل. وكانت المباريات الرياضية تترافق مع مباريات ثقافية وموسيقية في المراكز الدينية التي عرف منها إلى جانب “أولمبيا”، “دفني” و”نعمي” و”إيسموث”. لكن أولمبيا كانت مركز التبارز الرياضي بامتياز. ويؤكد يالوريس أهمية أولمبيا بالإشارة إلى أن مدينة بكاملها تدعى “إيليس” – تبعد عنها 60 كلم شمالاً – كانت وظيفتها فقط رعاية تنظيم الألعاب كل أربع سنوات والعناية بالمركز الديني، وقيام مدينة-دولة على وظيفة واحدة وهي تنظيم الألعاب يمثل حالة شاذة في تاريخ اليونان القديم. إلا أن الألعاب الأولمبية لم تأتِ من لا شيء. فالرياضة في المجتمع اليوناني ما قبل التاريخي كان لها دور متميز بشكل لم تعرفه حضارة أخرى. ولم يكن اليونانيون أول من اخترع الفنون الرياضية. فقد سبقتهم إلى ذلك الحضارات الشرقية الأقدم، كما تبين الأدلة عن عدد من الرياضات التي مارسها المصريون القدماء ومنها المصارعة والملاكمة. وقد انتقلت هذه الفنون إلى اليونان عبر حضارة جزيرة كريت الوسيطة، إلا أن قدماء اليونان أصبغوها بطابعهم، كما فعلوا على نطاق واسع من المعرفة التي انتقلت إليهم أيضاً من الشرق.
فالرياضة كانت قد اخترقت جميع جوانب الحياة العامة واليومية في المجتمع اليوناني الذي تصفه ملحمتا هوميروس “الإلياذة” و”الأوديسية” في العصر السابق عن الفترة التاريخية. وتأسس منذ آنذاك مثال الرياضي على شاكلة “أوديسي” الذي لم يستطع أن يرفض التحدي عندما عُيّر بأنه لا يعرف الرياضة. كما كان هناك مثال رياضي آخر هو “أخيل” الذي لُقّب بذي القدم السريعة، حيث كانت القدرة على الركض تشكل أحد أهم الصفات. وقد وصف الشعراء بدقة المباريات الرياضية وتقنياتها المتقدمة، التي كانت تقام إما في الجنائز أو تكريماً لشخصيات بطولية أو ترافق احتفالات دينية.
وتكتمل في المجتمع الذي وصفه هوميروس معظم الرياضات التي عرفتها في ما بعد الألعاب الأولمبية، كالركض ورمي القرص والرمح والقفز وسباق العربات والأحصنة، ومن حينها لم تعد المباريات الرياضية حكراً على مشاهير الأبطال بل تقام أيضاً بين شخصيات من الحياة الإجتماعية.
تحوّلات في المثل الرياضية..
“الأثليت” كتعبير
المثال الرياضي الأهم الذي تركه قدماء الإغريق هو مثال “الأثلوس”. بدأ مثال “الأثلوس” في الأساطير الدينية وتطور ليأخذ بعداً أخلاقياً يرتبط بالممارسة في جميع الحقول وليس فقط الرياضية. فهو العمل الفردي المتميّز والفذ أو الشاق الذي يصقل الروح والجسد وينمّيهما، وفي الوقت نفسه يؤدي عملاً عاماً مفيداً. مكانته معنوية وليست مادية. وينطبق ذلك على كل ممارسة، سواء أكانت في الرياضة أو في المهنة أو في التعليم والتربية أو كتابة بحث.
كانت الشخصية الأسطورية لهرقل البطل الذي ارتبط به مثال الأثلوس، ومآثره الإثني عشر، تُسمى “الأثلي”، وكلمة رياضي “أثليتس” (Athlete) اشتقت منها. كان لأعمال هرقل دور في خدمة البشرية ونقلها من التوحش إلى التمدن. هذا المثال الرياضي اكتمل في القرن السابع ق.م. ويقول يالوريس عن هذا التحوّل: “من دون شك حصل ذلك في ارتباط وثيق بممارسة “الأثلتيكس” (Atheletics). وبالأثلتيكس لا نعني تمرين الجسم بل أكثر من ذلك. الفيلسوف أفلاطون كان “أثليت” وشارك في مباريات نعمي. أهم الفلاسفة لا ينسون أن يذهبوا مراراً وتكراراً إلى ألعاب تقام في دلفي أو أولمبيا أو نعمي. كانوا يفهمون الأمر كواجب من أجل دعم نشاطات تشكل جمعاً متناسقاً لجميع الجهود. ومن الأمور التي قلّما ننتبه إليها أن هرقل كان مثالاً ليس بسبب قوته ونزعته دون كلل ليقوم دائماً بعمل شيء ما، بل أيضا في العودة إلى فكرة ممارسة “الأثليتس” من أجل البشرية. كل أعماله كانت مقدمة للحضارة البشرية لكي تكون بعيدة عن التوحش”.
ويضيف: “إن مثال البطل في الحضارة الميسانية ما قبل التاريخ (قبيل حروب طروادة حوالي 1200 ق.م.) كان مختلفاً. وروح المنافسة كانت مختلفة. كان حماس الرياضيين للفوز هو من أجل مكافأة مادية مثل المال والمجد والذهب، ولكن ذلك تغيّر منذ أول دورة ألعاب أولمبية جرى تنظيمها برعاية المركز الديني في دلفي، حيث قيل إنه يجب على اليونانيين تنظيم الألعاب وأن لا ينتظروا أية مكافأة غير إكليل من ورق الزيتون البري أو الغار. كانت هذه العظات تأتي من أفواه النساء، فالحكمة كانت على نحو صارم مرتبطة بالنساء”.
لقد درج بعض الكتّاب على الوقوف على أمثلة مغايرة لا تعود إلى مفهوم “الأثلوس” بل إلى المثال الهوميري للبطل “أخيل” والشعار “دائماً تفّوق وتغلّب على الآخرين”، أو إلى الشعار الروماني “الأعلى والأقوى والأفضل”، على الرغم من أن الألعاب في العصر الروماني عرفت انحطاطاً واضحاً نحو استعراضات على نطاق ضخم لم تخلُ من أنواع البشاعة كالمبارزات الدامية بين “الكلاديترز” أو مصارعة الحيوانات المفترسة. ويميل عدد واسع من الباحثين اليوم إلى التصدي لهذا الأمر ومعارضته. ويعودون في ذلك إلى الفيلسوف أفلاطون الذي ذهب أكثر من غيره في محاولة التخلص من عقدة “أخيل” وتخطي المثال التنافسي الذي شد اليونانيين إليه.
الرياضة للجميع: اللاعب والمشاهد
“الرياضة للجميع” هو الشعار الذي رفعته اللجنة الأولمبية العالمية في إحيائها الألعاب الأولمبية المعاصرة عام 1896م وهو شعار لمرحلة سبقتها بـ 3000 سنة. فأسماء الفائزين في دورات العصر القديم كان من بينها طبّاخ ومزارع وراعي غنم وغيرهم، وعلى غير عادات اليوم، كان الجميع رياضيين، وبالتالي فإن جمهور المشاهدين لم يكن من الهواة.
يقول يالوريس: “إن الزائرين المشاهدين في أولمبيا كانوا في وقت من أوقاتهم “أثليتس” (رياضيين). ويقارن الفرق بين الرياضيين والمشاهدين في العصر القديم واليوم: “في وقتنا الحاضر المشاهدون هم أنصار أو معجبون لم يطأوا ساحة المدرج في حياتهم. في العصر القديم كان عدد كبير من الفائزين في المباريات أناساً عاديين. من بين الأولمبيين أيضاً كان هناك أفلاطون، كما أن بعض الفائزين لعبوا في ما بعد دوراً مهماً في السياسة وشؤون البلد. المثقفون والكتاب اليوم لا يهتمون بالذهاب إلى نشاطات رياضية، والأمر كان على عكس ذلك في العصر القديم، فجميع الفلاسفة ذهبوا إلى أولمبيا ودلفي ونعمي، رغم أن المواصلات كانت صعبة جداً ووقت الألعاب كان في أحر أيام الصيف. وأذكر في هذا المجال أحد الحكماء السبعة، ثايلز من ميليتوس في آسيا الوسطى، الذي توفي عن عمر متقدم أثناء حضوره الألعاب بسبب شدة الحر”. كما أن معركة الماراثون مع الفرس تشهد على “رياضية” مواطني أثينا، “فكل مواطنيها كانوا “أثليتس”، أي كان هناك 10,000 رياضي”، يقول لنا يالوريس.
التعليم والحدود والقياس
كان للرياضة في العصر القديم موقع في إطار حياة الإنسان المدنية ككل، وشكلت جزءاً متكاملاً من تعليمه. ولا يمكن قراءة أي كتاب يتعلق بأولمبياد العصر القديم إلا ويبرز موضوع تعليم الشبّان بشكل رئيس. كان هناك تقدير لشمولية التعليم، بحيث لا يهدف إلى تحسين قدرة واحدة للمرء قد تجعله بطلاً غير قادر على العمل في حقول أخرى. ويؤكد محاورنا هذه الفكرة على الشكل التالي: “يجب أن نعرف أولاً أن الألعاب لم تكن فقط من أجل التسلية، كما تدّل عليه كلمة رياضة اليوم. ولذلك أنا أفضِّل كلمة “أثليت” لكي يبقى حاضراً في ذهننا المثال خلف كل نشاط إنساني في الزراعة أو البحث أو في محاولة تطوير قدرة ما للجسم. إن التخصص بنشاط وحيد كان مرفوضاً جداً. لقد عمل سقراط وأفلاطون وغيرهما من أجل التمرين الشامل لكل قدرات الإنسان وليس فقط لشيء واحد يمكن أن يؤدي إلى تشوهات في عقلية البشرية”.
والمسألة الأخرى هي تدريب الإنسان على معرفة حدود طاقته والحاجة إلى العمل بالقياس في كل مهام يقوم بها. وكلمة “هوبريس” اليونانية القديمة تعني فقدان القياس ومرادفها الإنجليزي الغطرسة. و”الهوبريس”، أو الاعتقاد بامتلاك إمكانيات أكثر مما لدى المرء كان من أسوأ الصفات بالنسبة للمرء في ذلك العصر. والمثال على ذلك كانت صورة البطل الأولمبي دياغورس الذي تقدم به السن وحمله ولداه وهما أيضاً بطلان أولمبيان إلى المدرج وواجهته أصوات من الحضور تقول “ستموت ولن يمكنك أن تصل إلى أوليمبوس”.
لقد واجه الفلاسفة في عصرهم التغيير الذي طرأ على الألعاب الأولمبية نحو التحول إلى احتراف في أواخر القرن الرابع. فقد عارض أفلاطون التدريب الوحيد الجانب للجسد معتبراً أن الرياضيين الذين تدربوا بشكل تعسفي من أجل المنافسة وقعوا في حالة من التخدير في ما تبقى من حياتهم. وكذلك اعتبر أرسطو أن التعليم البدني لا يجوز أن يقود إلى عدم الاعتدال لأن ذلك سيحطم تناسق الجسم، وأن التعليم البدني هو علم يأخذ في الاعتبار أي نوع من التدريب ملائم لمعظم الناس، ولجميع الناس بشكل مثالي، بما أن الهدف منه هو تعليم الجميع.
وارتبط التعليم في اليونان القديمة بمكان “الجمنازيوم” الذي كانت تجري فيه التمارين الرياضية على أنواعها، ولا يمكن تصّور مدينة من دونه، كما هو حال المدرج والمسرح والهيكل. وكان هناك أيضاً “الباليسترا” (وهو مكان للمصارعة أصغر حجماً) و”الهيبودروم” لسباق الخيل. والجمنازيوم كما يقول يالوريس: “هو أصلاً مكان قرب نهر أو نبع يلتقي فيه الشبان مع رجال أكبر سناً يقومون بمهام النظّار والمراقبين، وما لبث أن تحوّل إلى مبنى في القرن السابع ق.م. ولم يكن الجمنازيوم مكاناً لتمرين الجسم فقط، بل أيضاً للتعليم، ومعروف أن سقراط كان متحدثاً دائماً في جيمناز أثينا”.
الحاضر في ظلال الماضي
نخرج من حديثنا مع الدكتور يالوريس بثلاث محطات تخص الحالة الأولمبية اليوم بعد رسم بعض معالم من الماضي. فهناك ضياع لكلمة “أثليتيكس” (Atheletics) بعد استحداث كلمة “سبورت” (Sport) في القاموس المعاصر منذ أواخر القرن التاسع عشر. “إذا أردنا أن نعدل”، يقول محاورنا، “يجب أن ننسى كلمة “سبورت” ونركّز على كلمة “أثلوس” و”أثليت”. فالـ “سبورت” هو فقط للّهو وملء الفراغ في وقتنا الحر. وأثلتيكس هو الجهد من أجل التحسين والتطوير لصالح البشرية”. أما المسألة الأخرى فهي موضوع “الرقم القياسي” في أولمبياد اليوم، أي محاولات القفز فوق الحدود والقياس، و”هي مسألة خاطئة لأنهم بذلك يصنعون من أنفسهم آلة تقاس قوتها بالأحصنة”.
أما المشكلة الأساسية التي تهدد جوهر الفلسفة الأولمبية اليوم فهي “تَتْجير” الألعاب، أي تحويل الحدث من أجل التجارة والربح. وفي هذا المجال يقول يالوريس عن نفسه إنه “صوت يصرخ في الصحراء” لأن معظم الأشخاص الذين هم في موقع السلطة على الرياضة هم أيضاً رجال أعمال وسياسيون. ويقدم مثالاً لهذا الوضع الصعب ألعاب أطلنطا في 1996م التي اختزلتها دعاية واحدة للكوكاكولا. إلا أنه يأمل بالتعاون مع الأكاديميين الذين يشاركون في المؤتمرات السنوية أن ينجحوا في مواجهة الإغراءات والمنافع، إذ تسعى هذه المؤتمرات إلى “صقل روح التعاون الوّدي بين الأمم والشعوب، وهو أمر لن نكف عنه”، حسب قوله.
ويختتم يالوريس حديثه بالقول: “الألعاب القديمة لم تخلُ من العيوب. العديد من الأمور كانت خاطئة، لكن الأخطاء كانت استثناءات وليست قاعدة. كانت هناك رشوة، وكانت تدفع مبالغ من المال للخصوم لكي يتخلوا عن الفوز. وكان هناك بعض الأمور المسموح بها كتوجيه ضربة في الملاكمة ما دون البطن. لكن بقي هناك مثال يجب تحقيقه… المساهمة الكبيرة لليونانيين القدماء هو هذا المثال كيف تصبح متكاملاً وحراً وسعيداً”.
——————————————-
كادر
أولمبيات 1
..من أولمبيا
يقول أشهر شعراء الأولمبياد القدامى بندير: “لا يمكن أن نغني لتباري أعظم من أولمبيا… فكما هو الماء من أغلى العناصر، وكما الذهب من أكثر البضائع قيمة، وكما الشمس تلمع أكثر من أي نجم آخر، هكذا تشرق أولمبيا واضعة جميع الألعاب الأخرى في الظل”. والمكان الذي كانت تجري فيه المباريات في أولمبيا لم يكن مدينة أو قرية، بل كان مقاماً دينياً وثقافياً، في غرب البولوبنيز، ويبعد 10 كلم عن البحر بين نهري ألفيو – وكليديو.
وفي زمن الألعاب الأولمبية كانت تعود رعاية المقام كما الألعاب إلى “الإيلياس” الذين بنوا على بعد عشرات الكليومترات من المقام مدينتهم التي عرفت باسمهم، وتألفت من المدرج الرياضي وهيكل ديوس والجمناز للتدريب وقاعة اجتماعات كبيرة للمجلس التحكيمي وميدان المصارعة وميدان لسباق الخيل. وحتى اليوم لم يضف إلى ذلك سوى بعض الأبنية والمحلات والمقاهي السياحية لخدمة الآثار، لا بل إن مقاطعة الإلياس ككل تكاد تخلو من الكثافة السكانية، ولا يزال جزء منها غابات صغيرة وتلالاً خضراء لم تعبث بها يد البشر.
ويمكن أن نتصوّر كثافة الزائرين أثناء الألعاب الأولمبية ومن مختلف المناطق اليونانية ومنهم الرياضيون والرسميون والفلاسفة والفنانون. وكان هناك أبطال ذاع صيتهم حتى أن بعضهم صُنّف في مرتبة أعلى من البشر. ويقال إنه في استقبالهم لم تكن تفتح أبواب المدينة، بل يكسر حائطها ليعبروا من خلاله.
ومن أجل تحديد وقت الألعاب كل أربع سنوات كان يجري اتباع السنة القمرية، وتحصل الألعاب دائماً في ليلة اكتمال القمر بعد أطول نهار في السنة (21 يونيو في التقويم الشمسي) وعادة ما تكون هذه الليلة في شهر يوليو.
أولمبيات 2
سجلّ الألعاب القديم
ترك لنا قدماء اليونان سجلاً مهماً للمباريات الرياضية التي كانت تحصل في أولمبيا كل أربع سنوات، وهو يتألف من أسماء الفائزين في المباريات التي دوّنت منذ عام 776 ق.م. وتضمنت أيضاً الرسومات على الأواني الفخارية إفادات عن الألعاب واللاعبين، وساهم الفلاسفة والكتاب والشعراء بإلقاء مزيد من الضوء حول موضوع كانت له مكانة مركزية في الحياة الثقافية واليومية لذلك العصر.
ويدل هذا السجل على أن الألعاب تطورت من مباراة واحدة في سباق العدو المنفرد (بين الدورة الأولى والثالثة عشرة من عام 776 ولغاية 728 ق.م.) لتشمل في بدايات العصر الإغريقي الكلاسيكي ثماني عشرة مباراة وازدادت فترة الألعاب من يوم إلى خمسة أيام.
وأضيف سباق العدو المزدوج في الدورة الرابعة عشرة (724 ق.م.)، وسباق العدو الطويل في الدورة الخامسة عشرة (720 ق.م.)، والرياضة الخماسية “بنتاثليون” في الدورة الثامنة عشرة (708 ق.م.)، والملاكمة في الدورة الثالثة والعشرين (688 ق. م.)، وسباق عربات الأحصنة الرباعية في الدورة الخامسة والعشرين (680 ق.م.)، وسباق الأحصنة و”البانغراتون” (وهي مزيج من الملاكمة والمصارعة) في الدورة الثالثة والثلاثين (648 ق.م.).
وبعد العصر الكلاسيكي ومع بداية العصر الهيليني وفتوحات الإسكندر المقدوني نقلت الحضارة اليونانية ثقافتها الأولمبية الرياضية إلى مناطق مختلفة من العالم، ولم تعد المباريات حصراً على اليونانيين. ومع ذلك بقيت “أولمبيا” مركزاً مهماً لكنها فقدت الكثير من بريقها السابق، واستمرت هذه المسيرة بتراجع في العصر الروماني إلى أن قام الإمبراطور ثيوخسيوس بإنهائها رسمياً عام 393 ميلادي.
أولمبيات 3
الهدنة الأولمبية شرط وقاعدة
لم يكن للألعاب الأولمبية أن تحصل وأن يأتي لمشاهدتها أعداد مؤلفة من جميع أنحاء اليونان لولا القاعدة الأساسية التي استندت إليها، وهي الهدنة الأولمبية بين جميع المدن اليونانية. والهدنة تكون فاعلة في وقت قصير سابق ولاحق على الألعاب، وهو الوقت الذي لا يسمح خلاله بأي شكل من أشكال الصراعات العسكرية. وكذلك لا يسمح للمسلحين بدخول مقاطعة الإلياس التي تقع فيها أولمبيا. وهذه الهدنة التي اختلف في تقديرها بين شهر وثلاثة أشهر وحتى عشرة، تسمح للرياضيين والمشاهدين بالانتقال دون مخاوف حتى داخل أراضي أعدائهم.
أولمبيات 4
الألعاب الأولمبية في معرض القدح
في عام 388 ق.م.، في دورة الألعاب الأولمبية الثمانية والتسعين سجلت أول رشوة حصلت في الألعاب، وهناك أيضاً عدد آخر من الحالات التي سجلت بعد ذلك التاريخ. وكانت عقوبة المرتشي غرامة مالية تخصص لإقامة تمثال نحاسي، عرف باسم “زان”، عادة ما تكتب عليها الفعلة، وعبارة تقول مثلاً: “الرياضي الذي يجب تتويجه هو الأسرع والأقوى في الجسم وليس من يدفع رشوة”. ولا تزال قواعد تلك التماثيل موجودة في الآثار الأولمبية ويستطيع الزائرون اليوم أن يروها عند مدخل المدرج الرياضي وفي الممر الذي كان يعبره الرياضيون عادة.
وهذه الإغراءات الفردية شجّعتها شهرة الألعاب الأولمبية والاهتمام الشعبي بها، بحيث باتت تدر منفعة شخصية على اللاعبين بما يُغدق عليهم من تشجيع وهدايا، كما أنها شكلت فرصة للأغنياء والملوك ليزيدوا من مقامهم وشعبيتهم. لكنها أيضاً عكست التحول في طبيعة الألعاب نحو مزيد من الاحتراف في الربع الأخير من القرن الخامس. وفي الوقت نفسه بدأ المقام يتأثر بالمنافسة السياسية بين المدن، ووصل ذروته مع فيليب المقدوني وابنه الإسكندر اللذين أقاما نصباً تذكارياً للعائلة ضمن الهيكل.
أولمبيات 5
الإنسان العاقل والجميل
على الرغم من الدور المركزي للرياضة في حضارة اليونان، فإن الرياضة لم تكن حالة منفصلة، بل جزءاً من صقل وتهذيب قدرات المرء بشكل عام، ومنها قدراته الذهنية أيضاً. والألعاب الرياضية لم تكن الشكل الوحيد للمنافسة، بل حصلت إلى جانبها مباريات في الموسيقى، وحيث كان المدرج الرياضي والمسرح لا غنى عنهما كما الهيكل والمذبح. وكان للدين واللغة موقع جامع لعموم اليونانيين المتفرقين
في المدن-الدول المستقلة، حيث كانت تجري المباريات الرياضية والموسيقية وغيرها من الفنون لعموم اليونانيين.
وعكست هذه الثقافة الجامعة روح حرية العصر وديموقراطيته، بما أنها تجعل المرء قادراً على العيش مع حريته ومسؤولياته المتأتية عنها وعلى الإيمان بنفسه جسماً وعقلاً. مثال المرء حينها كانت تختصره كلمتا “كالوس كاغاثوس” اللتان تقاربان معنى “الجيد/العاقل والجميل”. ويصعب اليوم فهمها بشكل فعلي خارج عصرها، تماماً كما لا يمكن فهم مثال الفارس خارج مضمون القرون الوسطى في أوروبا. إلا أن أولويات التعليم اختلفت بين مدينة وأخرى. فسبارتا التي عرفت بميولها العسكرية هدفت إلى خلق المحارب الأمثل، بينما رعت مدينة أثينا، التي امتازت بديموقراطيتها، هدف بناء الإنسان “العاقل والجميل”. ويختصره بيريكليس الممثل السياسي لأثينا كالتالي: “حب الجمال من دون مبالغة وحب الحكمة من دون أن تكون ضعيفاً”. وكان التعليم الموسيقي يرافق الرياضي للتركيز على الإيقاع والتجانس. فالموسيقى شكّلت الرابط بين النشاط الجسدي والذهني، وتواصل الرقص بالتمرين الرياضي والأغنية بالشعر.
أولمبيات 6
النساء والألعاب
كان من قوانين الألعاب الأولمبية عدم السماح بمشاركة النساء لا في المباريات ولا في المشاهدة. لكن كان هناك بعض الاستثناءات مثل حضور كاهنات الهيكل الديني، وفي الرياضات الأرستقراطية مثل سباق الأحصنة وعرباتها، حين تكون ملكية العربية أو الحصان عائدة إلى امرأة. كما أن العذارى لم يمنعن من المشاهدة. ونعرف فقط حالة واحدة شذّت فيها امرأة عن القاعدة، وهي رغيلا، التي لم تعاقب لمشاركتها تقديراً لعائلتها، فوالدها وزوجها وأولادها كانوا أبطالاً رياضيين.
إلا أن النساء مارسن الرياضة بشكل مستقل. وكانت تجري مباريات نسائية خاصة في سباق الركض والقفز في إطار ديني مماثل لمباريات الرجال. وهناك تماثيل ورسومات تظهر بعض النساء أثناء قيامهن بهذه الرياضات. ويختلف الأمر من منطقة لأخرى، فمدينة سبارتا عملت على تشجيع نسائها على الرياضة والتباري أكثر من أية مدينة أخرى.