يفوتني، في أثناء ما أكتب، أن أتذكر إلى أية درجة يمكن للقارئ أن يكون ملولاً. أنا نفسي، حين أقرأ، لا أتوقف عن حساب الصفحات المتبقية من الكتاب، مقارناً بين سماكتها وسماكة ما سبق أن قرأته منها. كأننا نرغب في الإسراع بوضع الكتاب جانباً والقول، بيننا وبين أنفسنا، بأن هذا كتاب آخر قرأناه. لا ينفي ذلك استغراقنا أحياناً في تلك المتعة التي تأتي بها القراءة، تلك التي لا يكف الاستعداد للملل عن ملازمتها. ثم إن الكتاب، أي كتاب، ليس ممتعاً كله. وإن شئت أن أكون أكثر صراحة أقول إن الكتاب لا يبلغ روعته إلا في صفحات قليلة، أو ربما في مقاطع قليلة.
الجلوس للقراءة، فعل الجلوس ذاته إلى طاولة أو على كنبة،متكوّن من ذلك المزيج المختلط من الاندفاع والانكفاء، من التهيوء لإطالة الجلوس والرغبة في القيام. لا لنفعل شيئاً غير القراءة، بل لنفعل لا شيء. كأن نتوجه إلى الشرفة مثلاً لننظر منها لغير هدف، أو أن نذهب إلى البرّاد لنأكل شيئاً مما فيه. ولا أعرف أي المقاطع هي التي يقرر عندها من يقرأ أن يقوم. هل هي الصعوبة التي تحتاج إلى تركيز لا طاقة لنا على توليده في تلك اللحظات؟ هل هي المقاطع التي تبدو فيها حركة الأحداث قد توقفت تماماً، إن كان الكتاب الذي نقرأه رواية؟ هل هي المقاطع الجميلة، تلك التي قال عنها الفرنسي رولاند بارت مرة بأنها هي التي تدفعه إلى إغلاق الكتاب للاحتفاظ بها للوقت الذي يحتاجه الاستمتاع بها.؟
يفوتني، في أثناء ما أكتب، أن أتذكر مللي، قارئاً. في أحيانٍ أقول إن ما يشوّق هو السطحي، المتسارع الذي لا تحتاج قراءته إلى التفكير. المشوِّق هو ذلك النوع من الكتابة التي لا تخفي شيئاً تحتها أو بين سطورها. أنا في كتابتي أؤثر التمهل على الإسراع. ذاك أنني أفكر أن كل جملة يجب أن تقول شيئاً هي بنفسها، وتقريباً دون مساعدة من الجملة التي سبقتها ومن تلك التي تلتها. هنا أراني أفرّق أو أفصل بين ما يريده القارئ وما يريده الكاتب. الملل يأتي الكاتب من الاسترخاء في الكتابة. من توقف ذلك الإلحاح الذي يحثّه، مع كل كلمة أو جملة، على أن يقول شيئاً يغبطه قوله. ما أحسبه توقف الكتابة ليس أن يضع الكاتب قلمه جانباً ويطوي أوراقه، بل أن يستمر في خط سطوره من دون أن يتردد أو يقلق أو يعارض نفسه ويشاكسها قبل أن ينزل القلم إلى الورقة.
ولا أستطيع إلا أن أكون كذلك. الجملة يجب أن تكتمل في رأسي مثل ثمرة قبل أن أكتبها. وهي، في تلك الثواني القليلة التي تسبق تحوّلها كلاماً مكتوباً، تمر بامتحانات لا أزعم أنها تتلقى علامات جيدة على الكثير من مكوناتها. إنها الأفضل بين أخريات وليس الاحتمال المطلق الوحيد الذي لا احتمال آخر سواه. أحياناً أراني أصيب ذلك التجلي الذي يقول عنه الشعراء إنه سمة كتابتهم كله. لكن ذلك نادر، وإذ يحصل لي أظل أتذكر، أو أتذكر سطره أو مقطعه، حتى بعد أن تنقضي سنوات على نشر الرواية.
أنا، ككاتب إذن، أكتب ما لا أحب أن أقرأه. لكنني، من ناحية أخرى، لا أضع نفسي في مكان القارئ ذاك. لا أقول مثلاً أنني هنا أمللته ويجب أن أفعل شيئاً لأسليه. أغلب الظن أن كتابتي هي لي وليست له. حين يقول ذلك كتّاب عن أنفسهم نميل إلى اتهامهم بالتبجح، لكن هذه أكثر مزاعمهم صحة. لا أقول إنني أمللت القارئ ويجب أن أفعل شيئاً لأعيده إليّ. هذه، إن فعلتها، تكون صناعة وليست كتابة. كُتّاب الروايات الأكثر مبيعاً هم الذين يفعلون ذلك. السينما التي تهجس بشباك التذاكر هي التي تفعل ذلك أيضاً بل هي، فوق ذلك، تجري الإحصاءات والدراسات حوله.
الكتابة شيء آخر أقول. إنها، وهذا قد يبدو مثقلاً بالغرور، أن أجيء بالقارئ، إليّ لا أن أذهب أنا إليه. يعجبني كثيراً أن يقول لي قارئ: أنت صعب لكنك لست مملاً.