صباح يوم الخميس, آخر أيام شهر يوليو المنصرم، اشتريت الصحف اليومية كعادتي، ولكن مشاغل كثيرةً حالت دون أن أتمكن من قراءتها، وفي صباح يوم الجمعة قررت أن أطالع صحف يوم الخميس بسرعة، وعلى الرغم من السعادة الغامرة التي كنت أعيشها في ذلك اليوم تحديداً، لأسبابٍ خاصة، فإن شعوراً عميقاً بالحزن اجتاحني وأنا أقرأ خبر وفاة الأستاذ، العلّامة، المحقق، الناقد، الأديب، الشاعر، المفكر إحسان عباس، واسمحوا لي أن أتحفظ على جميع هذه الألقابٍ لأنني لا أجد في أيٍّ منها ما يوازي ارتفاع هامته ومكانته العلمية، ولا عمق وثراء عطاءاته الفكرية.
بوفاة إحسان عباس يترجّل عن حصانه فارسٌ آخر من فرسان الأدب والفكر والثقافة والتراث العربي، ويرحل عن دنيانا ذلك الراعي الذي أمضى في الغربة قرابة ستة عقودٍ كان طوال سنيها أميناً على رعيته، مخلصاً لرسالته وفياً لفكره ولتراث أمته.
فقد إحسان عباس وطنه في سني شبابه بما يكاد يشبه حادثة الاغتيال، إذ فقده وهو بعيدٌ عنه، ولكن نفسه الكبيرة أبت إلا أن تحوّل هذه المأساة العظيمة والجرح الغائر إلى وقود دافع يرتقي بها في سماء العطاء والإنتاج:
وإذا كـانـت الـنفـوس كبـاراً
تعبـت في مرادهـا الأجسـام
ففضلاً عن تدريس الأدب والنقد الأدبي والتاريخ والحضارة في العديد من الجامعات العربية، وفضلاً عن الجوائز والأوسمة التي حازها كفاء
ما قدمه من خدماتٍ جليلةٍ لفكر وأدب وتراث أمته، يقف أكثر من خمسةٍ وعشرين مؤلَّفاً، وأكثر من اثني عشر كتاباً مترجماً، وأكثر من خمسين كتاباً تراثياً محققاً أدلةً وشواهد على المكانة المتميزة التي تبوأها إحسان عباس يبن أقطاب الفكر والأدب والتراث العربي على مر عصوره عموماً وفي العصر الحاضر على وجه الخصوص.
ومع كل هذا، فإن ما يجعل إحسان عباس متميزاً بحق ليس غزارة الإنتاج، ولا جودته، ولا تنوعه فحسب، وإنما هو تلك العقلية المنفتحة المستنيرة التي جعلت منه واحداً من أبرز حراس التراث وحماته ومحققيه في نفس الوقت الذي أتاحت له أن يتذوق نتاج أقطاب الحداثة ويدبج فيهم الدراسات والبحوث، إن منفرداً أو مشتركاً مع آخرين. وبنظرةٍ عجلى على الثروة الهائلة التي خلفها إحسان عباس، إذا كان مثل هذه النظرة ممكناً، نرى أنه مع حرصه على تحقيق وتوثيق التراث ممثلاً في بعض أبرز رموزه، ككتاب وفيات الأعيان لابن خلكان وكتاب الخراج لأبي يوسف وكتاب نفح الطيب للمقّري، إلا أن نفسه كانت دائمة التوق لدراسة وتحليل كل إرهاصات أو ظواهر التجديد و”الخروج على المألوف” في الفكر والأدب العربي ومن ذلك دراساته وتحقيقاته عن شعر أبي العلاء المعري، وكتابات أبي حيان التوحيدي، ورسائل وأفكار ابن حزم، و دواوين عبدالوهاب البياتي وبدر شاكر السياب.
وهكذا نرى أن إحسان عباس جمع في قلبه الرحب وفكره النيّر بين الأصالة والتجديد، وبين العراقة والتطور، وبين حب الماضي والانتماء إليه والتطلع إلى المستقبل والانطلاق نحوه. وهي سمات لابد لكل من أراد أن يسبر غور عوالم الفكر الإنساني أن يتحلى بها. وليس أدل على أن إحسان عباس كان عاشقاً لدراسة كل جديدٍ والتعمق فيه، من الحزن الذي يستشفه القارئ عند اطلاعه على مذكراته التي نشرها تحت عنوان “غربة الراعي” حيث نسمعه يعبر بصراحةٍ عن عدم تمكنه من متابعة ما استجد في حركة النقد الحديثة مما أفرزته البنيوية والتفكيكية والحداثة وما بعد الحداثة وغيرها، حيث يشير بأسىً واضحٍ إلى أن كل هذه الأفكار والاتجاهات جدت بعد الفترة التي كان هو ورصفاؤه من روادها ومعاصريها، وأنه ليس بمقدورهم أن يعيشوا عصرهم وعصر من يلونهم، وأكاد أجزم هنا بأنه لم يكن يتوق إلى مجرد الاطلاع على محتوى هذه التوجهات والتيارات الجديدة وإنما كان مشتاقاً إلى المشاركة فيها بنفس الفاعلية التي شارك بها في التيارات التجديدية التي سبقتها. ولا شك أن من نافلة القول إن من المزايا التي يتسم بها إحسان عباس ويتميز بها عن كثيرٍ ممن حوله من زملاء ومريدين هو أسلوبه الأدبي الرشيق الجذاب الذي يحيل النصوص والطروحات النقدية الجافة والعسيرة على الهضم نصوصاً مفعمةً بالحياة وبالجاذبية والقرب من القارئ.
لقد أتيحت لي فرصة لقاء إحسان عباس مرتين فقط، وكانا لقائين قصيرين ضمن جمعٍ من الناس في مناسباتٍ رسمية، ومع هذا فقد أتاح لي هذان اللقاءان أن أتعرف، من كثبٍ، إلى عملاقٍ عرفته لسنواتٍ طويلةٍ من عمري عبر كتبه ودراساته وتحقيقاته، وتابعت بشغفٍ كل أو جل ما نشره في الصحافة أو قاله للإذاعة أو التلفزيون، وأصبح اسمه مقترناً في ذهني بأسماء مثل شوقي ضيف وشكري عياد ونقولا زيادة وحسن ظاظا وحمد الجاسر وغيرهم من منارات الفكر والأدب والتراث التي أضاءت مسيرة الجيل الذي أنتمي إليه. كذلك، أتيحت لي الفرصة لأتعرف، بحكم العمل، إلى شقيقه بكر عباس -الذي عمل لسنواتٍ طويلةٍ في قسم الترجمة بشركة أرامكو السعودية- فوجدته غصناً وارفاً من نفس الدوحة الظليلة التي أنبتت إحسان عباس، فقد كان كاتباً مجيداً ومترجماً جهبذاً لايشق له غبار، ولست أبالغ حين أقول أنني تعلمت من بكر عباس، ومن جلسة عملٍ واحدةٍ فقط، واحداً من أثمن الدروس التي تعلمتها فيما يتعلق بالترجمة وقواعدها.
لقد تعلمت، وتعلم جيلي، من إحسان عباس أن حب التراث والانتماء إليه لا يعني عدم التطلع إلى المستقبل أو رفض كل جديد، وأن الدنيا وعقول الناس وقلوبهم يمكن أن تتسع لأكثر من فكرةٍ وأكثر من رأي تكون، على اختلافها، عناصر إثراءٍ لا عوامل إضعاف، ولهذا فإنني أتساءل الآن، وقد نعى إلينا الناعي إحسان عباس، ودبج الكتاب والنقاد في رثائه وتأبينه المقالات والخطب، أتساءل: هل مات إحسان عباس فعلاً ؟؟؟
الأمر الذي لا شك فيه عندي هو أن إحسان عباس، وقد أفضى إلى ما قدّم وقدِم على ربٍّ
لا يبخس الناس أشياءهم، باقٍ في ذاكرتنا وذاكرة هذه الأمة العظيمة بقاء الإنجازات المتميزة التي قدمها لنا وللتاريخ عبر سني عمره، وإذا كان إحسان عباس قد رحل عنا بجسمه وصورته فذلك هو تماماً ما حدث لكثيرٍ من العظماء الذين حُفرت أسماؤهم وأعمالهم في ذاكرة الأمة بأحرفٍ من نور.
السؤال الآن هو: من سيحمل المشعل، مشعل الفكر الأصيل والثقافة الرصينة والإخلاص للماضي مع الانطلاق نحو المستقبل، بعد إحسان عباس وأقرانه الذين نفقدهم واحداً بعد الآخر؟؟؟ الجواب، مع الأسف الشديد، ليس مريحاً إلى الحد الذي نأمله، أوعلى الأقل الذي آمله!!!