من دواعي الفخر والاعتداد أن تُعلن عاصمة بلادك عاصمة للثقافة العربية لعام كامل، لكننا لم نتساءل يوماً عن الآليات المتبعة لاختيار العواصم الثقافية وماهيّة روافد المشهد الثقافي المتوافرة فيها بوجه عام! هل هناك ما يوجب اختيار العاصمة الفعلية أم مقوّمات مدينة ثانية بالبلد نفسه قد تتغلب عليها ثقافياً؟ يعرّج بنا د. زيد الفضيل بين أروقة العواصم الثقافية العربية وأزقة المثالب التي تعتري بعض الاختيارات، والمميّزات التي يمكن أن ترشح مدينة دون غيرها حتى في البلد نفسه.
بدأت فكرة الاحتفاء باختيار مدن عربية مُحددة، ليتم إعلانها كعاصمة للثقافة العربية طوال عام كامل في عام 1995م، وكان اختيار القاهرة سنة 1996م إيذاناً بتدشين أول عاصمة للثقافة العربية، ثم تمَّ اختيار مدينة تونس كعاصمة للثقافة العربية سنة 1997م، ثم الشارقة سنة 1998م، وبيروت سنة 1999م، ثم الرياض بالمملكة العربية السعودية سنة 2000م، فمدينة الكويت سنة 2001م، ثم عمَّان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية سنة 2002م، فمدينة الرباط بالمملكة المغربية سنة 2003م، ثم صنعاء بالجمهورية اليمنية سنة 2004م، فالخرطوم في السودان سنة 2005م، ثم تم اختيار مسقط عاصمة السلطنة العُمانية لتكون عاصمة للثقافة العربية سنة 2006م، فمدينة الجزائر بالجمهورية الجزائرية سنة 2007م، ثم دمشق في الجمهورية السورية سنة 2008م، فالرياض مرة أخرى سنة 2009م، ثم مدينة الدوحة بدولة قطر سنة 2010م، فمدينة سرت بالجماهيرية الليبية سنة 2011م، مروراً بالمنامة بمملكة البحرين عام 2012م، ووصولاً إلى العاصمة العراقية بغداد التي من المفترض أن تكون عاصمة للثقافة العربية لسنة 2013م.
هكذا كما يلاحظ فقد توالى اختيار العواصم السياسية ليتم الاحتفاء بها كعواصم للثقافة العربية، كما أخذ الاحتفاء شكلاً دورياً بين مختلف تلك العواصم بمنأى عن مدى جاهزية المدينة المختارة لتكون عاصمة للثقافة العربية أم لا. وواقع الحال فإن كان ذلك معيباً في أصل هيكلية أسس الفعالية، لكنه من الناحية المبدئية متوافق مع أهداف ورسالة الفكرة الرئيسة التي تهدف إلى «تنشيط المبادرات الخلاّقة وتنمية الرصيد الثقافي والمخزون الفكري والحضاري، وذلك عبر إبراز القيمة الحضارية للمدينة المستضيفة لفعاليات تظاهرة عاصمة الثقافة وتنمية ما تقوم به من دور رئيس في دعم الإبداع الفكري والثقافي، تعميقاً للحوار الثقافي والانفتاح على ثقافات وحضارات الشعوب وتعزيزاً لمنظومة القيم والتآخي والتسامح واحترام الخصوصية الثقافية».
تجدر الإشارة إلى أن أصل الفعالية قد ابتدأ نشوؤها سنة 1983م حين قدَّمت وزيرة الثقافة اليونانية مشروعاً للاتحاد الأوروبي يقضي باختيار مدينة معينة ليتم الاحتفاء بها كمدينة للثقافة الأوروبية، بهدف تأصيل التعارف والتمازج الثقافي ضمن أرجاء المشهد الأوروبي. وكان ابتداء تنفيذها في العام 1985م، ثم تطورت آلياتها لديهم ليتم تغيير المسمى سنة 1999م من مدينة الثقافة الأوروبية إلى عاصمة الثقافة الأوروبية. وخلال ذلك تم إجراء التوأمة في الاحتفال الثقافي بين عديد من المدن الأوروبية في العديد من البلدان، بحيث تم اختيار مدينتين في بلدين مختلفين في سنة واحدة.
وهو ما لم يحدث حتى اليوم في محيطنا العربي على الرغم من وحدة الثقافة والقيم والعادات واللغة بل واللهجة أيضاً، كما هو الحال في دول المغرب العربي، ودول مجلس التعاون الخليجي وشبه الجزيرة العربية بوجه عام. الأمر الذي يفرض تساؤلاً وجودياً حول مدى الفائدة المرتجاة من إقامة مثل هذه الفعالية وحجم تأثيرها الثقافي بالدرجة الرئيسة، علاوة على تأثيرها الاقتصادي ودورها في توثيق عرى الروابط السياسية والاجتماعية أيضاً بين مختلف الأقطار العربية إجمالاً.
وبوضوح أكثر يمكن أن يبرز التساؤل التالي وهو: ما الفائدة الجوهرية التي حصدتها المدن العربية خلال فترة اختيارها عاصمة للثقافة العربية؟ وما القيمة الجوهرية التي اكتسبها العالم العربي على مختلف شرائحه الاجتماعية وفئاته الثقافية من تصدر تلك المدينة للثقافة العربية طوال سنة بأكملها؟
في ظني أن واقع الحال المعاش يُنبئ عن الإجابة بوضوح لا لبس فيه، إذ أكاد أجزم بأن كثيراً من أبناء أمتنا العربية لم يهتم بمتابعة البرامج الثقافية المنبثقة عن اختيار أي مدينة لتكون عاصمة للثقافة العربية، ناهيك عن جهل قطاع كبير من أبناء المدينة المختارة نفسها في بعض البلدان لكثير من أوجه النشاط والفعاليات الثقافية بمناسبة اختيار مدينته عاصمة للثقافة العربية. ولاشك أن لذلك أسباباً عديدة يمكن بسطها بالبحث والنقاش تفصيلاً، وتتبع بواطن السلب والإيجاب فيها وفق نسق علمي دقيق، على أني وكمقدمة لذلك أرى بأن الإشكال يتمثل إجمالاً في أمرين:
ثانيهما يكمن في غياب المفهوم الدقيق لفكرة الفعالية، مما أدى إلى ضبابية الرؤية لدى عديد من القائمين على تنفيذ مشروع الاحتفاء في بعض المدن العربية المختارة، وهو ما انعكس سلباً على نمط الفعاليات المقامة التي نحت منحى نخبوياً في جانب، واقتصر الاهتمام فيها على بعض أوجه النشاط كطباعة الكتب وإقامة عديد من المحاضرات النوعية، إلى غير ذلك من كافة النشاط الخاصة في محيطها ونطاق بيئتها المعاشة.
أما أولها فقد تمحور في طبيعة تكوين برامج الاحتفال نفسها، التي لم تهتم بالتلامس مع هوية الشارع بمختلف تفاصيله، وبالتالي فلم تهتم بنقل المشهد الثقافي من حيِّزه النخبوي البسيط إلى آفاق واسعة فسيحة، تلك التي يمكن أن تسمح بدخول الفعل الثقافي من حيث الاهتمام والمتابعة والرعاية إلى حيز سلطة البازار، وأقصد به هنا البعد المعنوي للسوق الشعبي، الذي يرتكز على قاعدة تبادل المنفعة بين جميع الفئات العاملة من مختلف أطياف المجتمع، وبالتالي فإن تلامس المشهد الثقافي مع مشهد حركة البازار سيؤدي إلى ولادة مشهد كرنفالي كبير، يشترك في صناعته ورعايته جميع فئات المجتمع، وهو ما سيُغير النسق الاحتفالي من حالته النخبوية الخاصة إلى حالته الشعبوية العامة، ليصبح الحدث من حيث المتابعة شبيهاً بمختلف الكرنفالات الرياضية مثلاً، التي تجد فيها الحكومات فرصة لتعزيز النماء الاقتصادي بوجه عام.
هذا ما يجب أن تحرص عليه الحكومات حين ترشيحها لتكون إحدى مدنها عاصمة للثقافة العربية طوال عام كامل، على أن كل ذلك ما كان ليحدث في ظل ما نعيشه من تغييب لدور المثقف العضوي الفاعل، ووضع العوائق البيروقراطية أمامه، فلا يتمكن من رعاية وتنظيم كثير من فعاليات الاحتفال بشكل يقوم على حركية التفاعل مع الجمهور، في مقابل تسيد المثقف الموظف لعرى المشهد، الأمر الذي أدى إلى حدوث مثل هذا النكوص الثقافي المعاش في بعض البلدان العربية على الصعيد الجماهيري بوجه خاص.
من جانب آخر، فإذا كانت الفعاليات في دورتها الأولى الحالية قد حققت الحد الأدنى من أهدافها ورسالتها، من واقع تسليط الضوء عربياً ومحلياً على أهمية تنمية الحراك الثقافي بوجه عام، وكان لبعض منها الدور البيِّن في التعريف بإسهامات المدينة في إطار الجانب الثقافي والمعرفي عبر طباعة عديد من البحوث والمؤلفات، فإن الحال يجب أن يأخذ منحى جديداً في الدورة الثانية لاختيار عواصم الثقافة العربية، إذ ليس من المقبول اليوم أن يتم اختيار مدينة معينة لتكون عاصمة للثقافة العربية دون أن تكتمل فيها أهم العناصر الرئيسية لأي فعل ثقافي كتوفر نشاط مسرحي قومي، ومعاهد متخصصة لدراسة الفنون الموسيقية والتصويرية، ناهيك عن وجود دور مجهزة لتنظيم مختلف تلك الفعاليات المسرحية والموسيقية والسينمائية، الأمر الذي يفرض استحداث معايير دقيقة مستقبلاً لقبول ترشح أي مدينة لمسابقة عاصمة الثقافة العربية؛ ولو تم ذلك في قابل الأيام لتغيّر نسق الاحتفال كلياً، حيث سيبرز دور تلك النشاطات على ساحة الاحتفال بوجه عام.
وفي حينه سيُحدث اختيار أي مدينة وفقاً لذلك كعاصمة للثقافة العربية نقلة نوعية في النسق الثقافي ضمن إطار محيطنا الاجتماعي، لكونها ستصبح مدار اهتمام كل فئات المجتمع وستكون المدينة جرَّاء ذلك أحد مدارات اهتمام سلطة البازار المعنوية، وهي السلطة التي تقوم كما ذكرنا على تبادل المنافع بين مختلف الفئات العاملة في المجتمع.
وعليه ووفقاً لذلك فستدخل المدن في منافسة مع بعضها البعض لنيل اللقب وتنظيم الفعالية، وسيكون للمثقف دوره الفاعل في التخطيط وتنظيم مختلف الفعاليات وأوجه النشاط الثقافية الذي سيحرص على أن يتلامس ثقافياً مع جميع القواعد المجتمعية، عبر نقل مختلف الفعاليات من حيزها المغلق إلى نطاقها المفتوح. كما سيحرص على أن تترك مدينته بصمتها الخاصة في أذهان كل مرتاديها خلال سنة الاحتفال خاصة عبر تقديم مختلف العروض المميزة لأنواع عديدة من الفنون التراثية والفلكلورية، علاوة على بقية الفنون التشكيلية وفنون التصوير الضوئي، وعروض المنولوج أو ما يعرف بـ «stand up show»، إلى غير ذلك من أشكال اللوحات الفنية التي يتم عرضها أمام مختلف الجموع في إحدى ساحات المدينة الواسعة أو ضمن أحد أروقتها الفسيحة، وعلى طول أحد شوارعها المنيرة، وهو ما يفتح الباب لحضور جماهيري كبير وزيادة تفاعلهم مع مختلف تلك الفعاليات، أسوة بفعاليات الأولمبياد الرياضية تلك التي يحرص على تنظيمها ويهتم لنجاح فعالياتها الصغير قبل الكبير، ويجد فيها العامل غايته ومراده قبل المسؤول، مما يرفع من شأنها لتكون قضية وطنية جامعة، فهل آن الأوان لأن نجعل من الثقافة هماً وطنياً جامعاً ؟