حياتنا اليوم

هل هناك مستقبل

للكتابة باليد؟

في العشرين من شهر أغسطس عام 2016، نشرت الكاتبة “آن تروبيك” مقالة في صحيفة نيويورك تايمز، بعنوان “الكتابة باليد غير مهمة”، ولم تنقضِ عدة أيام إلا والصحيفة نفسها تنشر عدداً من الردود والأفكار المخالفة من القرّاء، الذين أصروا على أهمية الكتابة، وبذلك كانت المقالة الجامعة لهذه الآراء بعنوان “لماذا لا تزال الكتابة باليد مهمة؟”

وبالرجوع إلى مقالة “تروبيك”، نجد أنها اعتمدت في حجّتها على أن استخدام الطباعة على الكمبيوتر أو غيره من الأجهزة الإلكترونية، يمنح الكاتب فرصة أكبر لكتابة كلمات أكثر مما تفعله الكتابة بالقلم. فالنقطة الأساسية في مقالتها كانت الفاعلية العملية الأكبر في استخدام الوسائل الحديثة للطباعة، مقارنة بالكتابة اليدوية.
تقول “تروبيك” في مقالتها: “إن الهدف من التعليم العام هو تهيئة الطلاب ليصبحوا بالغين ناجحين، وقابلين للتوظيف في سوق العمل”، وبناءً على ذلك، فإن الطباعة “ودون قابلية للجدل، أنجح عملياً من الكتابة”، ولذلك فهي تطالب باستبدال تعليم الطلاب في المدارس الكتابة، بتعليمهم الطباعة بشكل أسرع وأكثر إتقاناً. وبعيداً عمّا إذا كان ربط التعليم بسوق العمل أمراً إيجابياً أو لا، يبقى السؤال مطروحاً؛ عن مستقبل الكتابة في ظل الثورة الرقمية.

تاريخ الكتابة باليد
ولفهم أكبر للمسألة، يمكننا الانطلاق من تاريخ الكتابة، وتطوره عبر السنين، التي يمكن تقسيمها إلى حِقب واضحة المعالم، مختلفة تماماً عن بعضها بعضاً. فإن أول فعلٍ للكتابة قابل للتأريخ، يعود إلى بلاد الرافدين، قبل الميلاد بخمسين قرناً تقريباً، حيث ظهرت اللغة المسمارية، التي كانت تُكتب، بل تُنحت، على ألواح الطين.
أما الحقبة الثانية للكتابة، فيمكن إرجاعها إلى مصر القديمة مع اللغة الهيروغليفية. فقد قام المصريون باستخدام الورقة والقلم، لأول مرة في التاريخ، للتدوين. كما أن رموز اللغة الهيروغليفية، بُسِّطت مع مرور الزمن، وكانت بذلك رموزاً أكثر حداثة، مقاربة في الشكل للأبجديات التي ظهرت بعد ذلك.

بالنسبة إلى آلية الكتابة، فقد طرأت تغيرات كبيرة على الريشة إلى أقلام الحبر السائل، وصولاً إلى الشكل الذي نعرفه اليوم للأقلام.

في عصر بداية الأبجديات، كانت الفكرة الأساس لذلك، هي الترميز لكل صوت بشكل معيّن، لتكون عملية الترميز هذه فعلاً أبسط من فعل الرسم. وظهر عدد من الأبجديات المختلفة، مثل؛ الأوغاريتية، الفينيقية، تيفيناغ، والأنكا والأزتك. وقد تشابكت هذه اللغات، وتفاعلت مع بعضها بعضاً، إثر عوامل سلمية، كالتجارة مثلاً، وأخرى أكثر عنفاً كالحرب والاحتلال.
خلاصة القول، إن هذه اللغات وغيرها قد تشابكت على مر العصور، فأُنتجت لغات مستحدثة، واندثرت لغات أخريات، وهكذا دواليك، حتى العصر الذي نعيشه الآن.
أما بالنسبة إلى آلية الكتابة، فقد طرأت تغيرات كبيرة على الريشة إلى أقلام الحبر السائل، وصولاً إلى الشكل الذي نعرفه اليوم للأقلام. وفي القرن الخامس عشر للميلاد، ظهرت الآلة الكاتبة، أو آلة الطباعة، الأولى على يد الألماني “يوهان جوتنبرج”. وهنا تشكَّل مصطلح “الطباعة” لأول مرة، حيث إن المرء لم يعد بحاجة إلى استخدام يده بشكل مباشر لأجل الكتابة، وإنما أضحت العملية تُفعل عن طريق آلة معينة لأول مرة.

الثورة الرقمية وتأثيرها
مروراً باختراع آلة الطباعة إلى فترة قريبة من الزمن، بقيت للكتابة سيادتها، كوسيلة التدوين الأولى. إلا أن الثورة الرقمية، التي نعاصرها، من شأنها أن تهدِّد تلك السيادة. فانتشار الكمبيوترات، والهواتف الذكية، والإنترنت، الذي قدّم لنا خدمتين أساسيتين هما البريد الإلكتروني والتدوين، كل ذلك جعل الطباعة أكثر رواجاً من الكتابة بشكل كبير. وأضحت الكتابة، برأي الكثير، مجرد ضرورة تعليمية أكاديمية غالب الوقت، وموضة قديمة يتمسك بها البعض، من حين لآخر، كشكل من أشكال الهواية.
وبالإضافة إلى المدونات، التي انبثقت منها وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة، فإن هذا التطوّر قد ألغى أشكالاً كثيرة من الكتابة، مثل الرسائل الورقية، فلن تجد مثلاً ما يشابه رسائل الروائي الأمريكي الشهير”سكوت فيتزجيرالد” وزوجته الكاتبة زيلدا فيتزجيرالد، أو رسائل الأديب العالمي “جبران خليل جبران” مع الكاتبة “مي زيادة” ومع الأديب “ميخائيل نعيمة”. ويمكن فعلاً إعلان احتضار أدب الرسائل، ما عدا رسائل الكاتبين “بول أوستر” و”جي إم كوتزي”، التي يُمكن إرجاعها إلى عدم تصالح “أوستر” مع الكمبيوترات والتقنيات الحديثة. إذاً، فالأثر الأكبر لهذه الثورة الرقمية، هو اختفاء أشكال من الكتابة، مثل الرسائل، وظهور أشكال أخرى من الطباعة، مثل المدونات ووسائل التواصل الاجتماعي.

هل تغيرت أساليب الكتابة مع الطباعة؟
هل تأثرت أساليب الكتابة عند تحوّلها إلى طباعة؟ يسعى كثير من الدراسات إلى الإجابة عن هذا السؤال، ولكن الإجابة الأحق تؤخذ من أهل الكتابة. ففي لقاء أجرته صحيفة “باريس ريفيو” الشهيرة مع الروائي البرتغالي “خوزيه ساراماغو” في عام 1998، سُئِل الروائي إذا ما كان يستخدم الكمبيوتر، فأجاب: “نعم أفعل ذلك. آخر كتاب كتبته على الآلة الكاتبة كان “قصة حصار لشبونة”. الحقيقة هي، أنني لم أجد صعوبة في التأقلم على لوحة المفاتيح إطلاقاً. مخالفاً لما يُقال بأن الحاسوب يجعل من أسلوب الكتابة أقل جودة، فأنا لا أعتقد بأنه يقلل من جودة أي شيء، على الأقل إذا ما استخدم بالطريقة التي أستخدمه بها، كآلة طباعة. ما أفعله على الحاسوب هو نفسه ما كنت أفعله على آلة الطباعة، التي لا أزال أمتلكها. الفارق الوحيد هو أنه أكثر نظافة، وراحة، وأكثر سرعة، وأفضل من جميع النواحي. وبالنسبة إلى ما يُقال عن الانتقال من الكتابة إلى الطباعة، من شأنها تغيير أسلوب الكاتب، فأنا لا أؤمن بذلك. إذا كان للشخص أسلوبه الخاص، وكلماته الخاصة، فكيف من الممكن للحاسوب أن يغيّر من ذلك؟”.

“ما أفعله على الحاسوب هو نفسه ما كنت أفعله على آلة الطباعة، التي ما زلت أمتلكها. الفارق الوحيد هو أنه أكثر نظافة، وراحة، وأكثر سرعة، وأفضل من جميع النواحي”.

ولأجل التأكيد على إجابته، يمكن الإشارة إلى أن “ساراماغو” قد كتب روايته “قصة حصار لشبونة” في عام 1989 مستخدماً وسائل الطباعة الحديثة، بينما نُشرت أشهر أعماله؛ “العمى”، “كل الأسماء”، و”انقطاعات الموت”، في الأعوام 1995، 1997، و2005، على التوالي. كما أن حصوله على جائزة نوبل للآداب كان في عام 1995. وليس ساراماغو وحيداً في استخدامه الوسائل الحديثة في إنتاج أعماله الأدبية، يمكن الإشارة إلى الكثير غيره. ويبقى، في النهاية، لكل كاتب أسلوبه وطريقته في الكتابة، التي لن تغيّر الوسيلة من جودتها أو مكانتها. ويبقى التدوين الأدبي، سواء كان كتابة أم طباعة، حاجة بشرية، مثلها مثل جميع أشكال الفنون الأخرى.
لا يمكن نكران الخدمات العظيمة التي تقدِّمها الثورة الرقمية، ابتداءً من النصوص التفاعلية، مثل ويكيبديا الذي يتيح للجميع تعديل النص، وبناء نص متكامل. أو إمكانية التعديل على كتاباتك الخاصة من عدة أجهزة، أو خفة هذه الأجهزة مقارنة بالكتب. ولكن هل ستكون هذه المميزات سبباً لتهديد مكانة الكتابة بشكل كامل؟ أو تهديد مكانة الكتب الورقية بالكتب الإلكترونية أو الصوتية؟

بقيت للكتب الورقية مكانتها كما ستبقى للكتابة باليد مكانتها
في لقاء صحفي، أجرته الصحافية اللبنانية جمانة حداد، نشرته في كتابها “صحبة لصوص النار” مع الفيلسوف الروائي الإيطالي “أمبيرتو إيكو”، سألته عن تهديد الكتب الإلكترونية للكتب الورقية، وعن الآفاق الجديدة للنصوص الرقمية بعيداً عن الطباعة على الورق. أجابها إيكو: “طبعاً يجب ألا نتجاهل أهمية بعض العناصر الإيجابية التي ستتجسد قريباً في مجال النشر الإلكتروني، على غرار إمكان مراجعة كاتالوج دار النشر على الإنترنت ومن ثم طباعة الكتاب المختار “على الطلب”، وبالمواصفات والخط والتصاميم المرغوبة. ذلك أمر سوف يغيّر دون شك معالم قطاع نشر الكتب، كما أنه سيهدد وجود المكتبات إذ سيصبح العرض والتخزين إلكترونيين، أي أقل مساحة وأكثر فعالية وسرعة. أما الكتاب الإلكتروني في ذاته، أي ذاك الذي يتوجّب الاطلاع عليه من خلال شاشة الكمبيوتر، فلا حظوظ كبيرة لنجاحه في رأيي؛ هل تتخيلين شخصاً يقرأ “الكوميديا الإلهية” على شاشة كمبيوتر؟ يا للهول! الأوراق ضرورية للتأمل في النص. وماذا عن الكتب التي نحب قراءتها في السرير قبل النوم؟ أو تلك التي يحلو لنا تصفحها في حضن كرسينا الهزاز الأثير؟ لا، إنها في رأيي مخاوف غير مبرّرة، علماً أنه كثيراً ما يُطرح عليّ هذا السؤال وتفاجئني النظرة الخائبة واليابسة في عيني الصحافي السائل إذ أجيبه: “لا، الكتب لن تختفي”. سبب الخيبة طبعاً هو أنني أحرمه بجوابي “الخبطة”، أو السبق. فالموت دائماً أكثر إثارة للاهتمام من البقاء على قيد الحياة. مثلاً، إذا نشرت خبر وفاة أحد حائزي جائزة نوبل، سيكون ذلك خبراً مثيراً وجاذباً بالتأكيد. أما إذا كتبت مقالاً مفاده أن ذاك الرجل بصحة جيدة ولم يزل حياً يرزق، لن تلفتي كثيراً من الأنظار، باستثناء أنظاره هو، على ما أفترض!”.
فنوعية الكتاب وحاجتنا إلى تأمله، تحدِّد بشكل كبير، إمكانية تحوّل الكتاب الورقي إلى شكل رقمي، سواء ككتاب إلكتروني أو كتاب صوتي أو غيره. وفي النهاية، لا يمكن التنبؤ بموت الكتابة بشكل كامل، ولا أستبدال مكانتها بالطباعة. بل وعلى أكثر تقدير، ستسير الطباعة والكتابة، جنباً إلى جنب، بالتوازي. وسيكون لكل قارئ، وكاتب، وأي طرف في عملية إنتاج النصوص، تفضيل شخصي لشكل معيَّن من أشكال النصوص. بالطبع، ستختلف أشكال النصوص، وستندثر أشكال من الكتابة وتظهر أخريات، كما هو الحال مع اللغات، على مر السنين.

 

 

أضف تعليق

التعليقات