من أشهر الفنَّانين الذين تناولوا السجن في لوحاتهم الفنَّان فرانشيسكو دي غويا، الرسّام الأشهر في إسبانيا خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين. فهو الذي تبنى الفنّ باعتباره سرداً تاريخياً مرة، وفعلاً جماعياً للتحرر مرة، وإبداعاً حيوياً للكينونة مرات أخرى. فالفن حسب غويا هو فقط ما يحصّن العالم من السقوط في العدم والفراغ من المعنى الذي تخلّفه الصراعات والحروب التي استنزفت البشرية.
رسم غويا ثمانين لوحة نقدية بعنوان “النزوات”، وهي عبارة عن سلسلة من اثنين وثمانين نقشاً أنتجها ما بين عامي 1810 و1820، فناضل بريشته فيها ضد كل الانتهاكات التي تقع على الإنسان في زمانه الذي كان مشتعلاً بالحروب وعنف محاكم التفتيش الإسبانية، التي لم يفوِّت غويا فرصةً لتصويرها بكل بشاعتها في أعماله. إن المتتبّع للحياة الفنية لهذا الرسّام سيعرف مدى الواقعية في أعماله، واقعية تاريخية فلسفها على طريقته الذاتية في الفن، فلوحة واحدة لغويا تروي حدثاً تاريخياً متكاملاً. فنشاهد اللوحة الفنية كعمل روائي من مئة صفحة على الأقل، فيه حضور واعٍ أو غير واعٍ لمشاعر وآلام قابلة لأن نتواصل معها رغم المسافة التاريخية بيننا وبينها. ويهرب غويا في غالب أعماله باتجاه تخليد
الحدث، شرط أن يرويه كما يراه هو حتى ولو صنع من خلاله أبشع لوحة عرفتها البشرية، ألا وهي لوحة “زحل يأكل أبناءه”، التي أنجزها عام 1819.
مشهدان في السجن
بعدما أصيب غويا بالصمم، انقلبت حياته رأساً على عقب، حتى إن النقَّاد يقسّمون حياته الفنية إلى قسمين، ما قبل المرض وما بعده. وهاتان اللوحتان اللتان سماهما “مشهد السجن 1808-1814” كانتا في فترة ما بعد الصمم. تصوّر اللوحتان بمنتهى الواقعية آلام العزلة في السجن وعذابات القيد والسلاسل. وفي هاتين اللوحتين أيضاً، نلاحظ أنه رغم إقبال كلا الرجلين في حجرة السجن نحو مركز الرؤية في العمل، إلا أننا لا نكاد نرى ملامح واضحة لهما، عدا تلك الإيحاءات المنكسرة للجسد، التي تتمثل أيضاً في نظرات غامضة نحو الأرض، لا تبدو الأعين ولا تفاصيل الوجه فيها واضحة، في حين يبدو المشهد دراماتيكياً جداً وهو يصوّر مدى زيف عصر الأنوار الذي اهتم بالإنسان ادعاءً لا حقيقة، فالأغلال والسلاسل التي يرسمها غويا بوضوحٍ متعمدٍ تجعله عصراً لا يختلف عن غيره من عصور الظلام التي سبقته، كما كتب تزفيتان تودورف عن فضح غويا لهذا العصر. وبالنظر إلى اللوحتين، نجد أن الظلال، والضوء، والعتمة المسيطرة على كلا العملين تكاد أن تكون أبرز ما يميّز أعمال غويا عموماً، وهي التي تصنع القلق الذي يجعل الفن متصلاً بمجمل أنظمة الإحساس وكل ما هو مرئي ولا مرئي. ذلك أن القصة المروية عن كوارث الحرب في اللوحتين تعيد تشكيل الحزن ليكون ظاهرة جمالية تتكرّر مرتين في كلا المشهدين. لعلها المأساة التي يتعمد غويا أن يُظهر فيها رفضه للعقوبات التي كانت تطبق في السجن، كالسلاسل التي تقيّد قدمي الرجل. كما يُظهر غويا في اللوحتين أيضاً هؤلاء الرجال الساقطين على الأرض تعباً، في صورة تجعل للسلب أو القبح والعذاب جماليته الخاصة كما يسميه أدورنو.
أجساد مائلة نحو الأرض
في عملين يكادان يتشابهان في الموضوع، يرسم غويا في اللوحتين بالأعلى الرجال مقيدين بسلاسل بارزة، وبألوان محايدة، وظلال تميل لإبداء حالة التعذيب والقسوة التي كانت تشهدها سجون إسبانيا في ذلك العصر. والسجين هو العنوان هذه المرة أكثر من السجن. إذ يرسم الفنان جسداً بلا تفاصيل كثيرة، مائلاً نحو الأرض لشدة تعذيبه وآلامه، ويتقن رسم أيدٍ مكبلة بالسلاسل، فقيود محكمة على الأرجل، وأجساد مربوطة على صخر أو معلقة في جدار.
ومن أعمال غويا وأعمال فنية أخرى نتأكد من محورية السجن كموضوع فني تسلل إلى كل تلك التفاصيل المجهولة عنا في زمن ما، التفاصيل التي لا يعرفها أحد بشكل مباشر ومرئي كجرائم محاكم التفتيش الإسبانية مثلاً. فقد كان للسجن إذاً نصيبٌ في ذاكرة الفن التشكيلي عبر التاريخ، فالفنان أرّخ بحواسه الخمس وفنّه تلك الحياة خلف القضبان وعالجها بجدارة في حالات كثيرة، كهموم سياسية واجتماعية تشغل وجوده وتهدّده. فقصّ لنا الفنان بمنتهى الجماليــة الفنيــة في أعمـال كثيرة الوضعيات القصـوى لعذابــات وآلام الجنـس البشــري في السجـون، وأنزل أخلاقياته وأحكامه عليها حسبما رآه كل فنان في عصره.