المهرجان الوطني للتراث والثقافة الجنادرية أعطى الكثير والكثير لثقافة هذه البلاد وتراثها ومنجزها الحضاري. وعلى مدى عقدين من الزمن كانت فعالياته وبرامجه جزءاً من الأعمال الثقافية المضيئة التي وثقت المسيرة الثقافية، وفتحت أبواب التحاور الفكري البناء الذي كشف عن ملامح مهمة في الوجه الحضاري في هذه البلاد.
ومهما يكن؛ فإن هذا المشروع الثقافي الكبير لا يُنتظر منه ـ بطبيعة الحال ـ أن يكون غاية في الكمال؛ ولن يبلغ عملٌ بشري مرتبة الكمال مهما أخلص المخلصون…!
ومشروع ثقافي بمستوى الجنادرية شأنه شأن أي نشاط بشري؛ قابل للمرور بمواسم قوة وضعف، وتجدد وتكرار. وليست هذه هي المشكلة في جوهر العمل. إن المشكلة تكمن فيما لو لم يكن القائمون على إنجاز هذا المشروع في موقع الاستعداد لتخطي مراحل الضعف إلى مراحل قوة، وتخطي مواقع التكرار إلى مواقع تجدد.. ففي حالة كهذه؛ تفقد الجنادرية وهجها، وربما عشاقها ومجايليها..!!
إن عشرين عاماً من العمل كافية لوعي التجربة التي يمكن أن ترقى من كونها فعلاً مبرمجاً على نحو موسمي إلى مستوى أكثر امتداداً وأشمل عطاءً وأوسع أبعاداً، لكي تكون عملاً ثقافياً متصفاً بشموليته واتساع قاعدة المتعاملين معه. وإذا التفتنا إلى التوقيت الزمني لهذه الأنشطة والبرامج؛ فإننا نلاحظ المحدودية في الزمان والمكان معاً، وهو ما يضع حاجزاً بيّناً بينها وبين جمهورها الذي ينحصر في الزائرين الموسميين ، في حين يقف الآخرون، مواطنين ومقيمين، من وراء الشاشة الفضية أو تغطيات الصحافة.. والإنترنت..!
إنها ثمار موسمية يبقى قاطفوها محدودين ومضغوطين في هامش أيام تمرّ سراعاً وملأى بالأمسيات والندوات والفعاليات التي لا يتمكن أكثر زائريها نشاطاً من اللحاق بما يجري في القاعات والمعارض..!
وقياساً بما تمتلكه أرض الجنادرية من استعداد لتحقيق الاستمرارية على مدار العام؛ فإنه بات من الجدير التفكير في تحويل الأنشطة الموسمية إلى سلسلة برامج متواصلة على مدار العام، بحيث تبقى الجنادرية نابضة وحيوية، ومفتوحة الأبواب لمن أراد تصفح الواقع الحضاري لهذه البلاد، على ما هو عليه من تباين واختلاف وانفتاح، سواءً من خلال الأنشطة المنبرية أو من خلال المعارض التراثية.
ولعلّ في مدينة أصيلة نموذجاً ناجحاً لالتقاء الماضي بالحاضر، والثقافة بالتراث. وفوق ذلك؛ فإن النشاط الثقافي في تلك المدينة المغربية لا ينحصر في أعمال موسمية، ولا يحتاج منظمو فعالياتها إلى جهود مضاعفة وميزانيات كبيرة لاستقبال الضيوف والسياح والأيدي والعقول المبدعة.
لقد أنجزت الجنادرية الكثير وقدمت العديد من البرامج، وأكدت هوية هذه البلاد الثقافية القائمة على تفعيل دور الملتقيات الفكرية وصناعة فعل ثقافي شاركت فيه عقول عربية وعالمية، ناهيك عن العقول المحلية. إلا أن ذلك لا ينفي حاجة هذا المعلم الثقافي إلى تطوير جديد يتناسب مع تطور الحياة، واحتياجات الثقافة والتراث في عالم متجدد. وفي مقدمة أعمال التطوير ضخ دماء جديدة في أوردتها وأفكار جديدة.
لقد حظيت الجنادرية بمن يعمل بجد وإخلاص وتفانٍ، وهذا كافٍ لأن تواصل الارتقاء والارتقاء.