في عام 1999م كرّمت الجامعة العربية عبدالله الجشي في مهرجان تكريم الروّاد العرب الذي شمل العشرات من أدباء العالم العربي.
وفي عام 2002م، حظي الجشي بحفل تكريم شعبي في مسقط رأسه «القطيف» شارك فيه نخبة من مثقفي المملكة العربية السعودية.
وقبل أيام وقف الجشي على منصة التكريم في المهرجان الوطني للتراث والثقافة «الجنادرية» بوصفه شخصية العام الثقافية، وواحداً من رُواد العمل الثقافي في هذا الوطن..
الزميل حبيب محمود يُعيد، هنا، قراءة شخصية عبدالله الجشي، دارساً المرحلة الثقافية التي ظهر فيها وانعكاسها على إنتاجه..
يُشار إلى عبدالله الجشي بوصفه «شاعراً وأديباً». ويصنّفه دارسو الأدب السعودي الحديث ضمن أدباء الجيل الثاني الذين ظهروا منذ الأربعينيات من القرن الميلادي الماضي. ويكاد لا يُعرف، في الوقت الراهن، إلا بهذه الصفة الأدبية التي وضعته بين قائمة طويلة من أدباء ذلك الجيل في المنطقة الشرقية من البلاد السعودية.
أحمد المبارك، والشيخ عبدالحميد الخطي، وعبدالرحمن المنصور، ويوسف بو سعد، وسعد البواردي، وعبدالله شباط، وعبدالرحمن العبيد، ومحمد سعيد المسلم، ومحمد سعيد الخنيزي، وأسماء أخرى شكلت جيلاً ثقافياً جديداً في مرحلة مفصلية من التنمية الثقافية في البلاد. وقد ظهر هذا الجيل متزامناً مع بوادر ظهور النفط واتصاله بواقع الحياة في المملكة عموماً، وحركة الحياة في المنطقة الشرقية على وجه خاص. فقد أدى اكتشاف هذه الثروة إلى صناعة تغيير تاريخي في المنطقة تغيّرت، بفعله، الحقائق الجغرافية والسكانية والاقتصادية والثقافية؛ لتنشأ مدنٌ جديدة، وتُستقبـَل موجات بشرية متتالية، وتُستحدث وسائل حياةٍ لم تكن موجودة من قبل، وتُلازم هذه التغيرات أنماط حياة مختلفة ومرتبطة بمتطلبات النمو المتسارع الذي راح يلاحق المدن والقرى، ويعيد صياغة تكوينها العمراني والسكاني.
الثقافة.. تتأثر بالنفط..!
ولم تكن الأحوال الثقافية بعيدة عمّا يجري بطبيعة الحال. وعلى الرغم من أن حواضر المنطقة التاريخية، كالأحساء والقطيف، كانت تستند إلى تاريخ ثقافي عريق جسّدته أنشطة علمية دينية وأدبية متوارثة في صيَغ أسرية على الغالب، فإن عوائد النفط الاقتصادية سرعان ما انعكست على القاعدة الشعبية من خلال نشوء المدارس وظهور الصحافة التي صنعت طريقاً مُختصراً إلى مصادر الوعي والمعرفة، بعد أن كانت المصادر محصورة في فرص التعليم التقليدي، وهي فرص غالباً ما كانت تُستنفد بمجرد بلوغ الصبيّ ـ أو الفتاة ـ واحتياج أسرته إلى مساندتها عبر العمل..!
بطبيعة الحال، كانت فرص التعليم في «الكُتّاب» ضئيلة، ولا يمكن أن تُستثمر إلا من قبل القادرين على الاستمرار في التحصيل العلمي الذي لم يكن ليتجاوز العلوم الدينية والعربية التقليدية، إلا أن مجرد الاستمرار في الدراسة يعني الانضمام إلى (أو البقاء في) واحدة من أكثر الطبقات أهمية في المجتمع، في تلك الحقبة المتواضعة ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً.
ثقافة مزدوجة
ظهر عبدالله الجشي في الحياة الأدبية أثناء مرحلة مبكرة جداً من مراحل البناء. وعلى وجه الدقة إبان التباشير الأولى لتأثير النفط في حياة المنطقة، أوائل عقد الخمسينيات. كان عائداً للتوّ من دراسته العلمية في العراق التي سافر إليها عام 1935م، برفقة والده الفقيه الشيخ علي الجشي، رحمه الله.
عاد الجشي برفقة والده مُحمّلاً بثقافة مزدوجة الاتجاه. فمن جهة تشرّب الدروس التقليدية المتركزة في علوم العربية، والفقه وأصوله، المنطق وعلم الكلام، وما يُمهد لهذه العلوم من حساب وخط ومبادىء متنوّعة.
وكان كافياً لحصيلة علمية كهذه أن تُبقي عليه «طالب علم» بين عشرات «الشيوخ» في القطيف. إلا أنه جمع إلى ذلك حصيلة ثقافية أخرى حديثة تشكّلت، أيضاً، في العراق، وتمثّلت في اطلاعه على الآداب العربية الحديثة، وخوضه التجربة الصحافية، ومعايشته للأحداث التي شهدتها الأمة العربية معايشة نفسية وأدبية.
غادر عبدالله الجشي البلاد بعد أقل من عامين على اكتشاف النفط، وعاد في وقتٍ كانت فيه البلاد تدشن أولى مراحل النموّ متأثرة بالعوائد الأولية لهذه الثروة التي غيّرت كلّ شيء في مراحل لاحقة. ليكون، بعودته عام 1948م، واحداً من الأصوات الثقافية التي تركتْ أثراً ما في الحياة الثقافية في المنطقة الشرقية، على وجه خاص.
وإبّان عودته راحت ثقافته «المزدوجة» تتفاعل في جدول يومه. فمن جهة كان إعداده العلمي التقليدي يفرض عليه الاستمرار على النسق الأسري الذي جعل من آل «الجشي» واحدة من الأسر العلمية، خاصة أن والده وصل إلى منصب القضاء الشرعي في القطيف. ومن جهة أخرى كان تطلعه الأدبي والثقافي يستفزّه للمشاركة في إرهاصات الحياة الأدبية الحديثة التي راحت تُعبّر عن نفسها في مشاريع النماء المختلفة، وتجتذب إليها الطاقات الثقافية، من سائر أنحاء البلاد السعودية.
صحافة وتيارات..!
عقد الخمسينيات شهد نشأة الصحافة في المنطقة الشرقية، رافقتها تيارات فكرية، فأخذت المدارس تتأسس إلى جانب المرافق الحكومية. كانت المنطقة أشبه بـ «ورشة بشرية» يتدفق عليها الباحثون عن فرص العمل في شركة النفط الناشئة آنذاك «أرامكو السعودية»، والأجهزة الحكومية.
وكان بعضهم ممن مُسّ بهاجس ثقافي، مثل الشاعر محمد حسن فقي الذي عُيّن مديراً لإدارة المرور في المنطقة الشرقية قادماً من مكة المكرمة، و القاص إبراهيم الناصر الحميدان من المنطقة الوسطى، والأديب عبدالكريم الجهيمان من القصيم، والكاتب سعد البواردي، والشاعر عبدالرحمن المنصور، وأدباء لا حصر لهم وفدوا إلى المنطقة، برهة من الزمن، لأهداف معيشية، وبعضهم استقرّ فيها، وآخرون انتقلوا إلى غيرها.
هذا التدفق البشري، مضافاً إلى الوجود السكاني في المنطقة، مهد لحيوية حياة ثقافية، فظهرت الصحف على يد أفراد، كـ «أخبار الظهران» التي رأس تحريرها عبدالكريم الجهيمان، و «الفجر الجديد» ليوسف الشيخ يعقوب، و«الإشعاع» لسعد البواردي، و «الخليج العربي» لعبدالله شباط.
كان كل ذلك يعني دخول المنطقة في مرحلة حداثة جدية تمس كل مناحي الحياة. وأمام تلك المستجدات وقف عبدالله الجشي على قدمين اثنتين: إحداهما في التراث والأخرى في الحداثة، كما يُعبّر البعض. وهذا هو عين ما رآه في إحدى قصائده المعروفة حين أنشد:
هذي بلادي وهي ماضٍ عامرٌ
مجدَاً، وآتٍ ـ بالمشيئة ـ أعمرُ
عبّر هذا البيتُ عن استشراف لمستقبل البلاد وهي تؤسس برامج تنميتها في مطلع الخمسينيات من القرن الماضي. ووفق هذه الرؤية تفاعل الجشي/ الأديب الحديث (بمفاهيم تلك المرحلة) مع واقعه الثقافي الواعد. وراح يشارك في بناء مبادىء أدبية حديثة على مستوى المجتمع الثقافي آنذاك.
وانشغل، بمعية عدد من أبناء جيله، في تشكيل تيار أدبي مختلف عن التيار التقليدي السائد. ففي الوقت الذي كان شعر المناسبات، مثلاً، يراهنُ على تكرار اللغة وإعادة تقديم المضمون على الشكل المتوارث في المدائح والمراثي، اعتنى الجشي بجعل شعر المناسبات أكثر واقعية وأشد التصاقاً بالقضية التي يتناولها. لقد أفاد من خبرته العراقية ذات الحس الخطابي والحماسيّ الرنّان، ونقلها إلى الشعر المنبري سواءً في ذلك الشعر الذي قدمه في مناسبات مسقط رأسه، القطيف، أو الذي كتبه متفاعلاً مع الأحداث.
بين الواقعية والرومانسية
كانت الواقعية تياراً أدبياً صنع لنفسه جمهوراً مهمّاً في المجتمع العربي، وبالطبع، غلب الصراع العربي الإسرائيلي على كثير من نتاج الشعراء العرب. والجشي واحدٌ من أوائل الشعراء العرب الذين أهمّتهم هذه القضية. وحين صدر قرار التقسيم عام 1948م؛ واجه الشعراءُ السياسات الدولية بالكلمات.. وقال الجشي:
أيها التاريخ حدّث علّها
تفقد الأفئدة الصمّاء قولا
إن يوم الرعب قد أيقظنا
فإذا بالقدس أشلاءٌ وقتلى
وعصابات رمى الغرب بها
مهد عيسى ساخراً ثمّ تخلاّ
أحياداً ومُداهم فوقنا
ترتوي من دمنا علاًّ ونهْلا.؟
أيها الغربُ إذا لم تستطع
نُصرة الحق، فدع للسيف أهلا
وفي موضوعات الحب والوجدانيات جرّب الجشي اللغة المهجرية في تعبيريتها الهامسة، الرقيقة والعذبة. وهي لغة عرفها الشعر السعودي منذ بزوغ فجر الحداثة على يد محمد حسن عوّاد ورفاقه من شعراء الجيل الأول، وقد صمدت هذه اللغة الحميمة عقوداً طويلة. وعلى الرغم من ظهور حداثة جديدة، مطلع السبعينيات، فإن شعراء التيار الرومانسي لا يزالون يتكاثرون على نحو واضح في الساحة الثقافية السعودية.
هذا النوع من الشعر استطرب الألم المخبوء في الذات، وحوّل الجراح والإحباطات الخاصة إلى صور معبّرة بإحساس لذة شفاف.. يقول الجشي:
غرستُ على ضفتيْ مقلتيَّ
مروجاً من الشوك لا تذبلُ
تسيل دموعي بأعراقها
ويُثمر، من غرسها، الحنظلُ
ربيع حياتيَ خصبُ الشجون
يغازلهُ الفأسُ والمنجلُ
كما أخصبت بالضحايا رُبىً
وسال، بفيض دمٍ، جدولُ
إذا ما أطلّ عليه الخريفُ
ولاح له المشهدُ المُعوِلُ
أحس بخيبة آمالهِ
وأبصر أحلامه تُمحلُ..!
وحتى حين يُحب الشاعر، فإنه يحبّ بحزن، وحين يسألُ فإن القلق يستحوذ على تأمّلاته في خطاب الحبيبة:
لا تسأليني كيف مات الحبُّ في حجر الأصيلِ..؟
وتسللت للعطر، في أكمامه، أفعى الذبولِ..؟
وسلي جفونك كيف أطفأ سحرَها عصف الذهولِ..؟
وتحجرتْ في روض قلبك زهرة الأملِ الخضيلِ..!
المعنى في ذلك، هو أن عبدالله الجشي أسهم، بوضوح، في خروج الأدب السعودي، في المنطقة الشرقية، من شكله الكلاسيكي القديم إلى شكل ملائم لمرحلة النهضة الثقافية، ومن ثم أسهم في التمهيد للأجيال اللاحقة لصناعة تطلعاتها بنفسها. وإسهامه الواضح يضعه بين جيل الرواد بالتأكيد، ذلك أن تنوعه الأسلوبي والموضوعي، وكثافة مشاركاته، وتعدد اهتماماته الثقافية.. كل ذلك يكشف عن دور رياديٍّ في مرحلة ثقافية كانت تفتقر إلى مبدعين متنورين، وقادرين على تجاوز المألوف.
ولعلّ ذلك ما دعا عبدالرحمن العبيّد، حين وضع أول مصنّف تناول الأدب في المنطقة الشرقية (الأدب في الخليج العربي 1957م ـ 1377هـ) ، إلى الاستعانة بعبدالله الجشي في كتابة مقدمة الكتاب، والتنبيه، في المقدمة، على إشكالية تطوير الأدب والحياة.
رائد تاريخي..!
فضلاً عن ذلك؛ لم يكن الجشي رائداً في أدبه وشعره فحسب، فعلى نحو جازم يمكننا القول: إنه أول باحث سعودي اهتمّ بتاريخ المنطقة الشرقية وحضارتها. وفي بحوثه التي نشرتها «الغري» العراقية، و«صوت البحرين» البحرينية، و«الخليج العربي»، ولاحقاً «العرب» السعوديتان، قدّم أولى التحقيقات التاريخية التي تناولت حضارة المنطقة وأحداثها وآدابها.
ومن المدهش، حقاً، ألا يعرف الكثيرون هذه الحقيقة التي لا يعترف بها حتى أولئك الباحثون الذي أفادوا من خطواته البحثية المبكرة ومراجعه الأولى، وطوّروا منهجيتهم في البحوث والدراسات التاريخية؛ فملأت كتباً ومصنّفاتٍ في مراحل لاحقة.
وقبل أن ينشر الجشي أبحاثه التاريخية والأدبية، لم يكن أحد يذكر «الفينيقيين» أو «الجرهائيين» أو«عبدالقيس» أو «القرامطة» على النحو البحثي الذي حدث بعد نشر أبحاثه. وهذا جانبٌ رياديٌّ لم يلتفت إليه أحد من دارسي حياته وأدبه حتى يومنا هذا. والغريب أن الجشي، نفسه، لا يهتمّ بهذا الواقع في سيرته الذاتية، ويكتفي بالحديث عن نشره بحوثاً تاريخية في بعض المطبوعات العربية..!
اهتمام الجشي بالتاريخ واحتفاله بدراسة حضارات «بلاد البحرين» أملى عليه استغلال مهاراته في الشعر؛ فأعدّ أراجيز تلخص بعض المعلومات التاريخية مدفوعاً بحماسة أفقدت التجربة الفنية كثيراً من قيمتها.. ومن ذلك هذه القطعة التي تمثل نموذجاً من مطوّلة:
قد كانت البحرين مذ كان الزمنْ
وقبل أن تأهلَ نجدٌ وعدنْ
كذا ذوو الآثار طراً قرروا
من بعدما قد نقبوا وفكروا
وأوردوا من بعد ذاك أنها
أصل الحضارات فكل دونها
ففي شواطيها الحياة ازدهرت
وفي شواطيها القلاعُ نُشرت
تكريس منعطف
وعبر الممارسة الثقافية والنشاط الاجتماعي والوظيفة الحكومية حدثت الانعطافة في حياة الشاعر الرومانسي/ الواقعي الذي اتجه، خاصة بعد وفاة ولده، إلى مسرح الحياة مشاركاً في البناء كفرد من المجتمع الذي كان يخطو صوب التحديث والتطوير..!
وحين حصل خرّيج «الحوزة» على وظيفته الحكومية في «مصلحة العمل» وجد في هذا الحقل ميداناً للاستفادة من مواهبه المتعددة. كانت مقالاته في «أخبار الظهران» تتناول قضايا العمل والعمّال، وتبحث في مشكلات العمالة على نحو جريء، مستفيداً من اتساع هامش الحرية الشائع في الخمسينيات. وأثناء ذلك مثّل جهة عمله في بعض جلسات مجلس الشورى، في تلك الفترة؛ ليحض المشرّعين، في المجلس، على تحسين أوضاع العمّال في الشركات التي يعملون فيها.
كان متنوّراً بما يكفي للفت النظر إلى تطلعاته في هذا الميدان. الأمر الذي دفع برؤسائه إلى انتدابه للمشاركة في وضع التصورات والأفكار لتطوير «مصلحة» العمل إلى «وزارة» أواخر الخمسينيات. وهو السبب نفسه الذي فتح أمامه فرصة التطوير الذاتي عبر دراسة الإدارة في معهد الإدارة العامة أول تأسيسه، ومن ثمّ يحقق تقدماً وظيفياً لافتاً، تمثل في حصوله على ترقيتين، دفعة واحدة، من مجلس الوزراء بتوصية وزير العمل عبدالرحمن أبا الخيل، عام 1963م، ويشغل، لاحقاً، منصب مدير إدارة القضايا بالوزارة، وقد أمضى أحد عشر عاماً في العمل الحكومي.
لقد فتح له العمل الحكومي أفقاً واسعاً لخدمة المجتمع، وبات على الأديب المشغول بالكلمة أن يشارك، أيضاً، بالفعل: موظفاً أو متطوعاً، في مجتمعه الكبير، ومجتمعه الصغير.
في مجتمعه الصغير، القطيف، انتُخب مرتين لعضوية المجلس البلدي. وقبل أن تتأسس الرئاسة العامة لتعليم البنات، شارك نفراً من أفراد مجتمعه في تأسيس أول مدرسة بنات في القطيف. كانت مدرسة أهلية، متواضعة الإمكانيات. وقد خصصوا لها مجلساً خاصاً، واستفادوا من زوجات بعض المعلمين العرب ليكنَّ معلمات..!
متطوع ثقافي..!
مارس عبدالله الجشي العمل التطوّعي منذ شبابه الأول. كان يحمل قدراً من الفضول المثمر والمطوّر. حين كان في النجف قادته الصدفة إلى الصحافة.. يقول: «كان بعض أبناء الخليج يلتقون يومياً بعد إنهاء واجباتهم الدراسية في مجلس الشيخ ياسين أبو خمسين، وكان بعضهم يشتري إحدى الصحف اليومية البغدادية ويعكفون على قراءة المهم من أخبارها.. يومذاك عرفت شيئاً جديداً اسمه الصحافة»..!
يضيف: «بعد انتسابي إلى الرابطة القلمية (جماعة أدبية) ارتقى اهتمامي من مجرد التعرف على الأحداث إلى الاهتمام بالشؤون الثقافية، ومنها متابعة الصحف الأدبية، وكانت مجلة «الغريّ» البداية في الانعطاف إلى ممارسة الصحافة».
وقد تطوّرت علاقة عبدالله الجشي من «قارئ» يشتري المجلة أسبوعياً إلى «محرر» ولكن «من دون اسم ولا راتب»..! إلا أنه كان مستمتعاً بعمله التطوّعي «وصار صاحب المجلة يسافر لشؤونه الخاصة ويترك لي الإشراف على أعداد المجلة.. وبذلك أتيح لي حق نشر ما يتوافر لديّ من أبحاث»..
هذا ما قاله الجشي لـ «القافلة»، مضيفاً: «مما أعتز به في مجلة الغري أنني استطعت احتضان الشاعرين العراقيين نازك الملائكة وبدر شاكر السياب في بداية توجههما للشعر» الحر. «وكانا آنذاك طالبين في كلية المعلمين العليا ببغداد».
التطوّع الذي مارسه الجشي في «الغريّ» كرره، أيضاً، في شهرية «الاعتدال» العراقية أيضاً، ثم «صوت البحرين»، و«العرفان» اللبنانية، و «الفجر الجديد» السعودية إضافة إلى «أخبار الظهران»، وغيرها من المطبوعات التي تعامل معها، محرراً أو كاتباً أو شاعراً، مستمتعاً بالعمل الثقافي المحض..!
وفي حقيقة الأمر لم تكن الـ 79 عاماً التي عاشها الجشي مفعمة بالعمل والكتابة فحسب؛ بل كانت أيضاً مليئة بتجارب النجاح والفشل. وفي سيرته الذاتية المخطوطة يسجل اعترافات بتجارب لم يُكتب لها النجاح على الرغم من اجتهاده فيها. إنه ينحو باللائمة، أحياناً، على عداوات مغلفة، وأحياناً على قدراته الشخصية، وأحياناً على الظروف.
«في 1950م افتتح متجراً لبيع الأغذية من أرز وطحين وسكر وشاي وقهوة وغيرها». لكن المتجر الذي سماه «الفجر الجديد» ويستورد سلعه من البحرين، كان يبيع، أيضاً، «المجلات المصرية» التي يشتريها من «متجر بايزيد بالخبر». وهذا الخلط لم يكن المشكلة.. «ولكني لم أوفق في التجارة لأن رأس مالي تحوّل إلى ديون دائمة على زبائني»..! و «ذهب رأس مالي وهو خمسة آلاف ريال أدراج الرياح»..!
كان «الفجر الجديد» تجربته التجارية الأولى، وقد تكررت عام 1967م، وعام 1993م.. لكنها مُنيت بإخفاقات موجعة. وليس من السهل على صاحب موهبة إبداعية أصيلة أن يحقق نجاحاً مماثلاً في ميدان مثل ميدان التجارة..!!
هذه هي حياة عبدالله الجشي: شاعراً وأديباً ومؤرخاً.. وموظفاً، وتاجراً. 79 عاماً من الركض في حياة صاخبة، قاسية، وتختلط فيها الآمال بالآلام، والصمت بالضجيج.. تسعة وسبعون عاماً ربما لا تكفي لقول كل شيء.. لكنها حياة عبدالله الجشي..!
في مجلس الملك عبدالعزيز
في مجلس الملك عبدالعزيز
في عام 1953م أرسلني والدي، بصفته قاضياً للقطيف، بكتاب يحتوي على بعض المطالب العامة، إلى جلالة الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود، يرحمه الله. وعند هبوط الطائرة في مطار الرياض صعد إليها ضابط وجعل يسأل الركاب عن أسمائهم والقصد من زيارتهم وأين يقيمون.
وقد أجبته بأني ضيف على الحكومة، فطلب مني الانتظار حتى يأتي أحد الضباط المكلفين باستقبال ضيوف الدولة وإسكانهم. وبعد قليل حضر الضابط وسألني عن شخصي وغرضي من القدوم، ثم طلب مني النزول إلى قاعة الضيوف. ثم جاء ضابط آخر وأخبرني بحضور سيارة حكومية لنقلي إلى مضافة «أمّ قبيس» بشارع الوزير، وهناك أُنزلتُ في مبنى كبير يشبه القلاع، مربع الشكل ذي ساحة كبيرة وطابق أرضي وفوقه طابق علوي، وحولها غرف واسعة أشبه بالقاعات، لأنها معدة لاستقبال مجاميع الضيوف.
وفي أحد الأيام أُبلغتُ بمقابلة الملك عصراً في قصره المعروف بـ «المربع»، وحين أُدخلت على الملك رأيت إلى يمينه طاولة ودفتر، وعن يساره طاولة عليها جهاز هاتف، وخلفه حارسه الخاص الضابط محمد النملة.
والمجلس على حرف (L)، ويجلس إلى يساره الوزراء والمستشارون، ويجلس على الأرض أبناء الملك والأمراء، ويجلس الزوار في المقاعد المقابلة عن يمين الملك.
وكان أمامه، في الزاوية المقابلة أحد «المطاوعة» يتلو بعض الأحاديث النبوية، وبعد انتهائه من إلقائها، يبدأ الملك في الترحيب بزائريه، وتُدار عليهم القهوة. ولم يكن موجوداً من الزوار سوى أحد الرجال من السودان الشقيق، وعن يساره أنا.
وبعد الترحيب وتناول القهوة توجهتُ إلى الملك وصافحته وعرّفته بنفسي، وسألني عن أبي، فحمدتُ الله، ثم سلمته الرسالة التي معي من والدي، فتناولها وأعطاها للنملة، ثم خرجتُ متمنياً له الخير ودوام الصحة والسلامة.
المصدر: مذكرات شاعر ـ مخطوط
من بعيد
من بعيد
اتجهت بنا السيارات إليها في الطريق الصحراوي المعبّد من ميناء الدمام ونحن نرنو في تأمل صامت إلى الصحراء الممتدة، وقد أذابت شمس الأصيل فيها أشعتها الذهبية الغاربة. ولاحت لنا «القطيف» من بعيد، واحةً ناضرة على حدود الصحراء، وجنة خضراء على حافة القفر المجدب.. وإذ ذاك بدأت السيارات تتعثر في دروب ضيّقة تحف بها البساتين عن يمين وشمال، وتجري فيها الغدران فياضة بمياه العيون والآبار.
.. لم نكد نفيق إلا على هتاف أهل «القطيف» وقد خرجوا بمشاعلهم يستقبلون ضيوفهم أبناء الكنانة.. ولم يكتفوا منا بحفلة الاستقبال في دار «الأمير حمود، أمير القطيف» أو جولة عابرة في المنطقة، بل دعونا إلى مجلس حافل أُعد لنا في مجلس الوجيه «السيد عبدالله إخوان»..
وكانت أمسية لا تُنسى..!
……..
كم تألمتُ وأنا أصغي إلى حديث أدباء القطيف عن معاركنا النقدية ومذاهبنا الفنية؟؟ كم خجلت وأنا أرى في أيديهم كتبنا ومجلاتنا، نحن الذين لا نشعر بهم أو نلقي إليهم بالاً؟
كم تأثرتُ وأنا أسمع الشاعر عبدالله الجشي يعرّفنا ببلده الذي هو قطعة من وطننا الشرق العربي:
هذي بلادي وهي ماضٍ عامرٌ
مجداً وآتٍ ـ بالمشيئة ـ أعمرُ
ألقى عصاه على فسيح ضفافها
وعلى الجزائر عالم متحضــرُ
وأذلّت التيار تحت شراعها
فلها عليهِ تحكّمٌ وتأمّـرُ
والنخلُ وارفة الظلال كأنها
جيشٌ كثيفٌ بالخليج معسكرُ
تُهدي لها الصحراء في السحر الصبا
فتمر كالحلم اللذيذ وتخطــرُ
والبحر يهديها اللآلىء زينة
وتجارة فيها الغنى يتوفر
وكصفحة المرآة جو مشرقٌ
وكلوحة الفنان ريفٌ مُزهرُ
على مثل هذا كان يدور السمر في أمسيتنا تلك، والآن وقد رجعتُ إلى مصر، أرى حقاً عليّ أن أنقل إلى قومي بعض أصداء ذلك المجلس الأدبي، ليعلموا أن على ساحل الخليج، في أقصى الشرق من جزيرة العرب، علماء مجتهدين وأدباء موهوبين..
د. عائشة عبدالرحمن «بنت الشاطىء»
أرض المعجزات
عشرون عاماً
كنتُ يا وطني.. بها خلف الحدودِ
حتى نسيتُ بك القديمَ، ولستُ أعلم بالجديدِ
حتى التمنّي صار يثقُل في لساني كالحديدِ
هل من كتابٍ لي يذكّرني بأهلي يا بريدي؟
لا شيء إلا أعينٌ تجري ورائي من بعيدِ
قل للهلال: متى تهلُّ وراءه أيامُ عيدي..؟
يا ذكريات الأهل عودي، يا ذكرياتي لا تعودي..!
ما عاد لي أملٌ، لقد سقط التمنّي من قصيدي..!
أنا لهفةٌ لكنها اختنقت بدمعٍ من جليدِ..!
ولكم سهرتُ مع النجوم تمرّ بالوطن المجيدِ
وسألتها عن فيء سدرتنا، وعن لُعَبِ «الجَريدِ»
وعن العيونِ ومن يعوم بها، وعن جارٍ نديدِ
وعن البنات اللاهبات، عن الخلال، عن المديد
عن كل ما في الحلم، ما في الوهم.. عن أمسي الفقيد
يا ذكرياتي إن تعودي، رشّي الدموع على خدودي
لم تبقَ لي من رغبةٍ إلا ضريحٌ في صعيدِ
علّ الترابَ يلفّني لفّ البراعم للورودِ
علِّي أعودُ مع الصباح كنظرة في جفن رُودِ
علّ التواصل بيننا يبقى على رغم القيود
إن القلوب وإن تناءت فهي دائمة الشهود
أهديك يا وطني رصيدي، في رحلة الألم العنيد
عشرين عاماً بَرَّةً، ما شَاْنَها إثمُ الجُحود
فيها حملتُ سلاح حبي مثل باقات الورود
وعبرتُ آلافاً من الأيام حُبلى بالوعود
رأسي على كفي كلؤلؤة بمحّار رغيد
إني أحس بغربتي تزداد في الدم والوريد