أدب وفنون

أدب الأطفال
هل الصغار وحدهم
يرهفون السمع؟

57«سأحكي لك حكاية»، عبارةٌ كأنها مفتاح سحري لباب على عالم لا ترسمه حدود. هو فقط أفق لا نهاية له، فيه أشجار تتحدَّث وحيوانات تحتسي الشاي وبشر يمتلكون أجنحة وأسماك من سلالات الأمراء وبيوت مصنوعة من الحلوى وزمردة ترى فيها المستقبل وبساط طائر من كلمات تطير عبرها حول هذه العوالم، عوالم مفاتيحها حكايات صاغتها قلوب الأمهات والجدات وفلسفة الحكماء ورؤى المجتمعات القديمة، فكيف صارت اليوم صناعة أدبية وفنية متكاملة؟

منذ زمن بعيد، لم تكن الحكايات والقصص تُحكى للأطفال بشكل خاص. وبصرف النظر عن الامتداد التاريخي الذي يثبت وجود جذور أدب الأطفال في الحضارات القديمة، إلا أن النقَّاد يرون أن الطفل لم يعامل بشكل خاص في المجتمعات إلا في وقت متأخر. وما قبل ذلك، كان الطفل جزءاً من منظومة المجتمع ورؤاه الدينية والاقتصادية والاجتماعية.

اختلف مؤرخو الأدب حول بداية التراث الأدبي للأطفال. لكنهم اتفقوا على وجوده محكياً وليس مدوناً ضمن الأدب الشعبي. ولم يكن هناك ما يسمى بأدب الأطفال، فالأساطير والحكايات والقصص الخيالية والأهازيج والمغامرات كانت للجميع بلا استثناء، وكان الكبار والحكماء يتوارون خلف الأسطورة والعوالم الخيالية ليعبِّروا عن أفكارهم ولينقدوا مجتمعاتهم وليرسموا أحلامهم بطريقة شفهية محملة بالمعاني والرسائل والحكم والجماليات، عبر حكايات تناثرت خيوطها ولا يمكن معرفة نسّاجها.

لقد كان التعبير الشفوي النواة الأساسية المكوِّنة لآداب الشعوب على هذه الأرض في جميع الحضارات كالإغريقية والرومانية والفارسية والفرعونية وصولاً إلى العربية. ففي ثقافتنا، لم تكن هناك إشارة خاصة إلى أدب خاص بالأطفال، ولم تُدوَّن إلا بعض الأغاني والأشعار التي كان يُرقَّص بها الأطفال، والوصايا التي كانت موجهة من مؤدبي ومعلّمي الصبية. وقد يكون ذلك ترفعاً وتخوفاً من نقصان الهيبة. أما القصص الشعبي المحكي العفوي فهو جزء من ثقافة أي مجتمع عربي تداولها المجتمع بكافة أطيافه دون الالتفات إلى السن.

بداية تدوينه في أوروبا وجمعه من البيوت..
58aأما أدب الأطفال بمفهومه الحالي، فقد بدأ من أوروبا مدوّناً في نهاية القرن السابع عشر. وقد كان ميلاد أدب الأطفال عام 1667م في فرنسا، حين جمع الكاتب الفرنسي شارل بيرو الحكايات الشعبية الأوروبية، ونقلها من التراث الشفهي إلى الأدب المكتوب. فكانت أول مجموعة قصصية للأطفال «حكايات أمي الأوزة»، التي تضمنت مجموعة من الحكايات الشهيرة، مثل: القط ذو الحذاء، وسندريلا، وذات الرداء الأحمر، والذئب وعقلة الإصبع، وغيرها.

بعدها بأكثر من مئة عام، ظهر كتاب الأخوين جريم «حكايات الأطفال والبيوت» في ألمانيا عام 1812م، حيث دوّن الكاتبان كثيراً من الحكايات الشعبية، وجمعا مزيداً من القصص من أفواه الأمهات والجدات في قرى ألمانيا مثل «بياض الثلج» و«الأقزام السبعة» و«الأميرة النائمة» و«رابونزل».. وقد توالت إصدارات المجموعة في كل مرة مع إضافة قصص جديدة. وتُرجمت لاحقاً إلى 140 لغة – بما فيها العربية – وأصبحت جزءاً من تراث وأساطير الشعوب الأخرى.

في إنجلترا كانت «أليس في بلاد العجائب» كالبركان الروحي لأدب الأطفال. وقد احتفلت بريطانيا عام 2015م بمرور 150 عاماً على ولادة كتاب أليس الذي كتبه لويس كارول عام 1865م…

وظهر في الدانمارك هانز كرستيان أندرسون في عام 1835م، الذي جمع وكتب عدداً من القصص من التراث الإسكندنافي مثل «الأميرة وحبة الفول» و«ملابس الإمبراطور» و«البط الدميم» وغيرها.

coverأما في إنجلترا فقد كانت «أليس في بلاد العجائب» كالبركان الروحي لأدب الأطفال. وقد احتفلت بريطانيا عام 2015م بمرور 150 عاماً على ولادة كتاب أليس الذي كتبه لويس كارول عام 1865م. والجدير بالذكر أن كاتب أليس كان معلِّم رياضيات، واسمه الحقيقي تشارلز دودسن. وفي عام 1901م، ظهرت في بريطانيا الطبعة الأولى من كتاب «الأرنب بيتر» لمؤلفته الإنجليزية بياتريكس بوتر، التي كتبت باسم مستعار أيضاً. وكانت بوتر مؤلفة ورسامة، ولعلها هي أول من أدخل فن الرسم إلى كتب الأطفال الملوّنة في تاريخ كتب أدب الأطفال. وتوالت بعد ذلك العديد من الإصدارات التي صارت تعد الآن من الكلاسيكيات مثل «جزيرة الكنز» لمؤلفها الإنجليزي لويس ستفنسون عام 1882م، و«بيتر بان» لجيمس ماثيو باري عام 1911م و«ماري بوبنز» 1934م وغيرها.. وقد أسست هذه القصص لنوع أطول من نصوص قصص الأطفال.

58bففي نهاية القرن السابع عشر، يبدو أن أحدهم قد فتح الباب وتركه مشرّعاً. وكثيرون ممن دخلوا من هذا الباب كانت حقائبهم تعج بقصص وحكايات كانت تُحكى في البيوت وبجوار أسرّة الأطفال. أفرغوا محتويات حقائبهم هناك ورحلوا فانتشرت هذه القصص ودارت حول العالم وصارت منذ ذلك الوقت وحتى الآن مصدراً لكثير من النسخ المختلفة من المجموعات القصصية والمسرحيات والأفلام والدراسات الأدبية على مرّ السنوات. بل إن بإمكان دارسيها أن يجدوا مصدراً يحكي ويوثق الحياة الاجتماعية والثقافية والتغيرات الفكرية التي شهدتها أوروبا في ذلك الزمن… فثمة فرق بين سندريلا الطيبة التي تنتظر الأمير أن ينقذها من حياتها البائسة، وليلى التي أكلها الذئب لأنها لم تكن في حماية أحد وتحدثت مع الغرباء، وبين أليس التي جابت وحدها بمنتهى الفضول والشجاعة عالماً آخر، وبيتر بان الصبي الذي لا يكبر والذي طار محلقاً يتبع أحلامه. هذا التغيّر في صياغة الحكاية والبُعد النفسي لأبطالها وأحداثها، مرتبط إلى حد وثيق بالزمان والمكان.

clipalicefallوفي القرن العشرين أصبح شأناً عالمياً
حمل المهاجرون معهم من إنجلترا وأوروبا إلى أمريكا قصص وكتب الأطفال التي عرفوها في بلدانهم الأصلية سابقاً، وتحديداً ما بين القرنين السابع عشر والتاسع عشر. وفي بدايات القرن العشرين، بدأ أدب الأطفال الأمريكي يتجه اتجاهاً مستقلاً ومختلفاً يتناسب مع العصر ، ويتبلور مع احتياجات المجتمع الجديد. حتى إنه سبق ما هو عليه في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، ولم يعد اقتباساً فقط من الأدب الشعبي. ومن أبرز الكتَّاب الذين ظهروا في هذه الفترة لويزا إليوت وفرانك توم وموريس سنداك.

أما في البلاد العربية، فقد بدأ الالتفات إلى أدب الطفل في أواخر القرن التاسع عشر، وذلك عبر حركة الترجمة. إذ لم تكن هناك حركة تأليف حقيقية. فقد أعرض الأدباء عن أدب الطفل لعدة أسباب، منها أن الطفل لم يكن له في ذلك الوقت أولوية عند القائمين على شؤون التربية والثقافة بشكل عام. كما أن الكتابة للأطفال كانت تُعد استهانة واستخفافاً وتضحية بالشهرة الأدبية، وفي الواقع أن هذه الفكرة كانت سائدة في كل العالم فيما مضى، مما دفع عدداً من كتّاب أدب الأطفال إلى الكتابة بأسماء مستعارة، أما في العالم العربي، فإن للأديب والشاعر بريقاً خاصاً يجعل من الصعب التضحية به.

00qs5بدأ الالتفات إلى أدب الأطفال العربي بفعل الابتعاث الخارجي إلى فرنسا وبريطانيا والتأثر بالحركة الثقافية في أوروبا. فقد كان رفاعة الطهطاوي واحداً من الذين شاهدوا اهتمام الأوروبيين بهذا الفن الجديد، فكانت قصصه المترجمة «عقلة الأصبع» و«حكايات الأطفال». وكذلك تأثر أحمد شوقي بحكايات الشاعر الفرنسي لافونتين فكانت «شوقياته الصغيرة».

وفيما بعد، بدأ الكتّاب العرب يكتبون للأطفال، وظهر بعض الرواد في مصر وسوريا والعراق مثل عبدالتواب يوسف من مصر، وزكريا تامر وسليمان العيسى من سوريا. كما شهدت الصحافة العربية في نهاية الستينيات اهتماماً ملحوظاً بأدب الطفل تمثل في ظهور بعض المجلات، مثل مجلة «أسامة» في سوريا، و«مجلة العربي الصغير» في الكويت، ومجلة «ماجد» في الإمارات.

59تميّزه اليوم بثرائه البصري واللغوي
ولأن الباب بقي مفتوحاً، فإن القصص صارت أشجاراً تثمر الواحدة منها أكثر من كتاب واحد. والحكايات أينعت رسومات ملوّنة. ويدرك المطّلع على أدب الأطفال الحديث حقيقة القفزة الهائلة التي حدثت في مفهوم أدب الأطفال على المستوى العالمي بشكل عام، وعلى المستوى العربي بشكل خاص. ولم تكن هذه القفزة فجائية، إنما هي انعكاس لأنماط التفكير التربوية الحديثة، ونتيجة للاهتمام بالمكتبات ودور القراءة الحرة ومعارض الكتب وصناعة النشر وقضايا الطفولة.

60aوبخلاف كثير من قصص الأطفال التي جمعها الروّاد الأوائل في أوروبا، والتي يرى بعض التربويين والنقاد اليوم أن بعضها غير ملائم للأطفال لتضمنه قسوة وعنفاً ومشاعر من خارج عالم الطفل، فقد قام المهتمون بكتب الأطفال في القرن العشرين بتقسيمها حسب المراحل العمرية، أو حسب الموضوعات التي تتطرق إليها. فمن كتب للأطفال الرضّع التي تحمل مواصفات معينة في اللغة والرسومات والإخراج، إلى قصص موجهة لأطفال المدارس بأعمارهم المختلفة، تختلف حسب مواضيعها وخصائص الطفل العمرية في كل مرحلة، وانتهاءً بكتب موجهة لليافعين التي هي روايات طويلة لا تختلف عن أدب الكبار في لغتها وتقنيات كتابتها، ولكنها تختلف في المواضيع التي تطرحها.

وما يميّز أدب الطفل الحديث هو هذا الثراء من ناحية التعبير اللغوي والبصري، فبعدما كانت قصص الأطفال تأخذ طابعاً وعظياً وتتسم بنهايات مباشرة، صار بعض القصص يأخذ طابعاً تأويلياً، ويحمل أسئلة مفتوحة تسمح بكثير من الاحتمالات في ظل الدعوة إلى التفكير والإسقاط وإشراك القارئ في أبعاد الحكاية. وصارت رسومات كتب الأطفال فناً مستقلاً بذاته، له رواده وإمكاناته وتصنيفاته وأنماطه المختلفة. وعلى الرغم من أن العالم بات قرية صغيرة الآن، وأن لا أسهل من انتقال الكتب وترجمتها في أي بقعة من العالم، إلا أن التنوع في إنتاج القارات المختلفة في كتب الأطفال يلقي الضوء على خصوصية كل منطقة وأولوياتها وقضاياها وأنماطها الفكرية وتوجهات الفنانين فيها.

فمما تميّز به أدب الأطفال في العصر الحديث تحولُّهُ إلى صناعة، مثله مثل باقي أنماط الأدب في احتياجه إلى كاتب ورسام ومصمم وناشر وموزع، بل ربما يمتد الأمر من مجرد حكاية إلى صناعة ألعاب وتطبيقات إلكترونية مختلفة وصناعة سينمائية. وفي حين كان كتَّاب قصص الأطفال يتوارون خلف أسماء مستعارة فيما مضى، أصبحوا الآن نجوماً يبيعون ملايين النسخ ويجنون الكثير.

بدأ الكتّاب العرب يكتبون للأطفال، وظهر بعض الرواد في مصر وسوريا والعراق مثل عبدالتواب يوسف من مصر، وزكريا تامر وسليمان العيسى من سوريا

وكذلك صارت تُفرد لكتب الأطفال مساحات خاصة للناشرين وكل ما يتعلق بكتاب الطفل في معارض الكتب العالمية، مثل فرانكفورت ونيويورك ولندن وغيرها، كما أن هناك معرضاً سنوياً خاصاً بكتب الأطفال في بولونيا بإيطاليا، حيث يلتقي المؤلفون والناشرون والرسامون في تظاهرة كبيرة في بدايات أبريل من كل عام. ويحتوي هذا المعرض دوماً على أحدث كتب الأطفال في العالم، وعلى معرض لرسومات كتب الأطفال وتعريف بالرسامين، ويناقش برنامجه أموراً مهمة في السياق نفسه، وتعقد فيه اتفاقيات الترجمة وبيع الحقوق، ويعلن فيه عن أسماء الفائزين بعدد من جوائز المعرض في هذا المجال.

وثمة عدد من الجوائز العالمية رفيعة المستوى التي تُمنح لأدب الأطفال مثل جائزة أستريد لندجرين وجائزة هانز كريستيان أندرسون العلميتين، التي حملت كلاهما أسماء روّاد في أدب الأطفال. وهناك أيضاً عدد من الجوائز في مجال النصوص أو الرسوم، مثل جائزة نيوبري من أمريكا، وجائزة كيت جرين واي البريطانية لرسومات كتب الأطفال، وجائزة مارش البريطانية لكتب الأطفال المترجمة وغيرها..

60bعربياً: من الظل والمجلّات
إلى الدور والمؤسسات المتخصصة
من الملاحظ أن حركة كتب الأطفال في العالم العربي كانت في بادئ الأمر تمضي على استحياء عبر مؤسسات وأعمال رائدة في الترجمة وإصدار مجلات الأطفال، ثم تطور الأمر مع ظهور عدد من الكتّاب ودور النشر المتخصصة في هذا الشأن، أو التي تملك فرعاً خاصاً لنشر كتب الأطفال.

انطلقت هذه الحركة من بيروت ومصر وسوريا، وتعززت مؤخراً في دول الخليج، حيث برزت أسماء دور نشر معروفة ومختصة بنشر كتب الأطفال. كما تكاثرت أسماء الكتَّاب المعروفين على مستوى العالم العربي والخليجي. وصارت هناك حركة جادة لتأليف كتب أطفال عربية عالية الجودة من ناحية النص والرسم والإخراج تنافس الكتب العالمية.

ومما دفع بهذا الأمر قدماً في السنوات الأخيرة، ظهور بعض المبادرات مثل مهرجان الشارقة القرائي المختص بكتب الأطفال في العالم العربي. وكذلك ظهور عدد من الجوائز التي تحفّز صناعة كتاب الطفل العربي، وترفع مستوى الإنتاج والتنافس على مستوى الناشرين والكتّاب والرسامين، كجائزة «اتصالات» لكتاب الطفل، التي أطلقها «المجلس الإماراتي لكتب اليافعين»، والتي تُعد من أكبر الجوائز العالمية، و«جائزة الشيخ زايد» التي يشكِّل كتاب الطفل أحد فروعها..

أهي فقط للأطفال؟
shutterstock_112869166بعد كل ما سبق، يظهر سؤال ملحّ: هل كتب الأطفال تكتب للأطفال فقط؟ فحينما نسمع «سأحكي لكم حكاية» هل يكون الأطفال فقط هم من يرهفون السمع؟ من يملك مفتاح هذا العالم ومن الذي يصرّح له بالدخول؟ هل نعطي لأدب الأطفال حقه المغتصب في أن يكون أدباً مثل باقي الأنواع، مشهوداً له بالإبداع والموهبة؟ ألا يُعد التمازج بين التعبير اللغوي والبصري مرحلة جديدة وفريدة من الإبداع؟ هل قول أصعب الأشياء بأبسط الطرق أمر عابر لا يُلتفت إليه؟ ألا يثير التهام الذئب لليلى – ثم عودتها في ظروف غامضة – كَمّاً لا ينتهي من الأسئلة؟… أليس الطفل بسيطاً لدرجة قدرته على استيعاب أعظم حقائق الحياة بأجمل الطرق؟
هذا تماماً ما تفعله قصة أطفال…

أضف تعليق

التعليقات