الرحلة معاً

حقائب الأمل التعليمي

كنت أعتقد أن ظهور الشبكات المعلوماتية ووسائط الحفظ والتواصل الإلكتروني قد أحالت «الحقيبة المدرسية» إلى التقاعد أو الظل، لكنني وأنا أعبر بالقرب من إحدى مدارسنا قبل أيام، تبيّن لي أن الحقيبة باقية وأن ظهور التلاميذ الطرية ستواصل حمل تلك الأثقال.

ولا بد أن قرَّاء «القافلة» يتذكرون تلك المطويّة التي أرفقتها المجلة مع عددها سبتمبر- أكتوبر 2003م، ووزعتها وزارة التعليم مع المناهج التي تطبعها وتوزعها، وتضمَّنت معلومات وأرقام دقيقة عما تفعله الحقائب المملوءة بأجسام صغارنا في محاولة لتنبيه الجهات التعليمية والأسر بالآثار السلبية التي تترتب على تلك الوظيفة اليومية الشاقة. واستطراداً فإننا يمكن أن نصنِّف الحقيبة المدرسية ضمن أسباب النفور من المدارس، في الوقت الذي تتيح لنا فيه الأدوات التقنية الحديثة إيجاد بدائل متكاملة للعملية التعليمية كلها، وهو ما يفعله منذ أكثر من عقد كثير من المدارس في أوروبا والولايات المتحدة واليابان.

وعلى الرغم من ضرورة إحلال تلك الوسائل كبديل عن المناهج والكراسات الورقية التقليدية، فإن السؤال الأكثر أهمية يبقى: هل تذهب مضامين تلك المناهج إلى عقول الأطفال ومداركهم، فيصبحون أطفالاً نجباء بارعين في تحصيلهم العلمي؟

تشير الدراسات إلى أن نسبة المبدعين بين أطفالنا تصل إلى %90 خلال السنوات الخمس الأولى من عمرهم الدراسي، لكنها تنحدر في السن السابعة لتصل إلى %10، وفي السنة الثامنة تتدنى النسبة إلى %2 فقط، وهذا يعني باختصار أن المناهج وطرق التربية والبيئة المدرسية وحتى المناخ الاجتماعي السائد تُسهم مجتمعة في تحويل المواهب المتميزة إلى قدرات عادية أو نمطية تتراجع فيها جذوة التفوق والابتكار.

تلميذ الابتدائية يتلقَّى شطراً من علومه ومعارفه وترفيهه من مصادر تقع خارج سلطة المعلِّم والمدرسة، وهذا يوجب على المنظومة الدراسية أن تدمج تلك المصادر كشق حيوي ومتفاعل مع العملية التعليمية، وعلى النظام الدراسي أيضاً أن يفسح حيّزاً أوسع للتعلُّم من خلال تلك الأدوات والوسائل الرقمية، بل وجعل الألعاب ووسائل الترفيه جزءاً من آلية تعليمه المبكر، آخذين في الاعتبار أن المراحل التعليمية والجامعية المتقدمة، وصولاً إلى بيئات العمل تزداد ارتباطاً بمنتجات العالم الرقمي وتتراجع فيه ملامح الحياة التقليدية وطبائعها ليحل محلها ما يدعى الآن بالذكاء الاجتماعي والعاطفي.

والحقيقة أن الأب الذي يود اقتناء هاتف جوال متفوقاً لا يذهب للشراء دون استشارة ابنه أو ابنته التي لم تتجاوز المرحلة المتوسطة أحياناً، وكذلك الأم التي تبحث عن حاسوب أو تلفزيون بمواصفات معاصرة فلا مُعين لها أحياناً سوى ابنتها الصغيرة، وكل هذا يعني ببساطة أن سُلطتي العائلة والمدرسة تتراجعان أمام الزحف المعرفي التقني، الذي يتسرب عبر الشبكات المتنوعة ويسيطر على عقول الصغار ووقتهم.

وهناك بُعد تعليمي ينبغي التذكير به، وهو أن على المدارس استحداث آلية لفحص القدرات والمهارات الفردية للتلاميذ والتلميذات ومتابعة نموّها وتوجيهها لاحقاً نحو التخصص الذي يلائم ميولها وشغفها، فهناك أطفال محبون للعلوم، وآخرون مولعون بالهواتف الذكية، وتلاميذ محبون للآداب والقراءة، وآخرون بالأعمال اليدوية، وآخرون بصنع التصاميم.. إلخ، فإذا ما نظرنا إليهم كأفراد متماثلين وأخفقنا في فحص خصائصهم الذاتية واستعداداتهم وفي توجيهها الوجهة المناسبة، فإننا نفقدهم كطاقات خلَّاقة ونطفئ مواهبهم.

كل هذا يعني أن العبرة التعليمية لا تكمن في تكديس المناهج وفي صرامة الامتحانات، بل في صنع البيئة الحاضنة التي تجعل المدرسة ملعباً للخيال والابتكار والتنوع.

أضف تعليق

التعليقات