«كانت له ملَكَة عجيبة، في أن يغدو أصمَّ، متى ما أراد». بهذه الجملة، يصف السينمائي الشهير: جان رينوار، والده الرسام الأشهر: أوغست رينوار، في كتابه «الأيقونة الأبوية الخالدة: أبي.. رينوار».
ضمن أكثر من 40 فِلماً، ألَّفها وأخرجها رينوار الابن، كان أبوه الفنان، حاضراً، مجتزأً حيناً، وبحضور كامل، لتفاصيل ممتدة أحياناً. 600 صفحة خطّها رينوار، ليخلِّد أباه، الذي جمعته إليه البنوة والجراح. وكان تقاربهما الأكبر عندما عاد رينوار من الحرب جريحاً، واستقر في بيت الوالد الرسام، يشاهد عن قُرب اللوحات وراسمها المبدع.
الجملة أعلاه، مدرسة كاملة كي تغدو روح المرء فنانة أيضاً، لا يشغلها، سوى ما يستحق الإشغال والإشعال. وقيل قديماً: «ليس سيد قومه الغبي، بل المتغابي»، ويُقصد بذلك الذي بإمكانه أن يغدو أصمَّ وأبكمَ وأعمى متى ما أراد، كي لا يأخذه حضيض اللحظة العابرة، وتفاهة الموقف الذي ينبغي تجاوزه إلى ما هو أرفع.
وقد وردت قصص كثيرة عن كبار رجالات العالم، موصوفين بالصفة أعلاه، نتذكر الأحنف ابن قيس، سيد الحِلم العربي الأنيق، حين جاءه من يقول له، «لم لا توقف هذا الشامت خلفك»، بينما كان هو يمارس «صمته» الإرادي ماشياً، نحو أمر، لا يستحق هذا «الشامت» خلفه أن يُوقفه عنه. وكان رده مدرسة في الحلم والأناة والتعامل مع تفاهة الأمور الصغيرة. الأمر نفسه نُقل عن الخليفة الراشدي الخامس عمر بن عبدالعزيز. وتكرر في عبارة أحد النبلاء حين قال لشاتمه: «إن قلت عشراً، لم تسمع واحدةً».
وفي السلوك النبوي أيضاً، ما يحرِّض على مثل هذا، وعلى ترك «الرغي» الذي لا يؤول إلَّا إلى التشاحن أو إضاعة ما يحسن استخدامه فيما هو أبقى وأولى.
الأمر نفسه، ينطبق على كل ما لا يحسن من القول والشجارات والجدل، إلى أن يعتاده المرء، مع سيل التفاهة اليومي، المتمثل في الأخبار السريعة عن الموضة والمال والثراء وقصص المراد قسراً إدراجهم ضمن المشاهير، وليغدو المرء آخر النهار، جعبة كاملة من تفاهات أخبار طلاق النجمات وخصوماتهن وردودهن المفتعلة أو الحقيقية مع كل ما يلحق بذلك من صور وومضات واقتباسات، ولكي تصبح ذاكرة المرء، خزان تفاهة، لا يذكر معها، متى حفظ آخر مرة، بيت شعر رفيع، أو مقطع نثر بليغ.
إن «الصمم» الإرادي، يتجاوز المسموع، ليبلغ المرئي أيضاً، والمحكيّ. أن تكون أصمَّ عن مطالعة ما يتفّه روحك، يسلّعها، يهلكها في سوق الاستهلاك الرخيص، يجعلها شبيهة آلاف الأرواح في المدينة، نفس المشاهد، نفس الرؤى، نفس الانفعالات، ونفس القطيعية أيضاً. ويصبح حديثك الشاغل، ومنتهى جدالاتك، مسلسل الأمس، بكل هبوطه، أو دمعة النجم الوسيم على رحيل طليقته. إنه تمثيل، وأنت حقيقة.
لقد صوّر رينوار السينمائي المذهل، – ولا ننسى فِلميه العظيمين: «الوهم العظيم»، و«قواعد اللعبة»، المدرَجَين ضمن أفضل عشرة أفلام على الإطلاق في السينما الفرنسية – تفاصيل كثيرة عن أبيه، في كتابه هذا. وقد قوبل الكتاب، باحتفاء كبير، حتى غدا مترجَماً إلى أغلب لغات العالم، ومنها العربية، خلال سنوات قليلة، نظراً لشهرة الأب الذي بيعت إحدى لوحاته عام 1990 بأكثر من 78 مليون دولار، وهنالك ثلاثة متاحف باسمه في فرنسا وحدها. ونظراً لنبوغ الابن الكاتب الذي صُنِّف في اقتراع أجراه معهد السينما البريطاني كأفضل رابع مخرج على الإطلاق، كان الأب والابن، رافدين مهمين، ليكون الكتاب تحفة خالدة، من المزايا التوصيفية، لما كان، ويجب أن يكون عليه النبوغ الحقيقي، لينتج إبداعاً وفناً خالداً كهذا. وبالنسبة إلى كثيرين، فإن الجملة أعلاه، التي تتحدث عن فضيلة «الصمم الإرادي»، تعطي انطباعاً واضحاً لما كان، وينبغي أن يكون عليه، كل إنسان يحبّ أن تكون حياته، أكثر من مجرد «حكي» عابر.