نسمع اليوم أن شركة «غوغل» تنفِّذ تجارب واعدة على سيارات تسيِّر نفسها آلياً بلا سائقين آدميين، بالتعاون مع شركات كبرى مثل تويوتا وأودي وسواهما. فضلاً عن نماذج عدة أنتجتها مرسيدس-بنز وجنرال موتورز ونيسان. لكن تاريخ السيارة الذاتية التحكم يمكن تعقّبه إلى العام 1926م. فوفقاً لصحيفة «ميلووكي سانتينال» كان من المقرر أن تقوم «السيارة الشبح» – كما أطلق عليها المحرر آنذاك – بجولة في شوارع مدينة ميلووكي الأمريكية. يذكر الخبر أن سيارة بدون سائق ستعمل ذاتياً من الآلف إلى الياء، حيث سيبدأ المحرك وتبدل السرعات تلقائياً وتنطلق من نقطة البداية إلى النهاية متتبعة علامات المرور، وذلك عن طريق التحكم عن بُعد بإشارات الراديو اللاسلكية من مركبة أخرى. ويستطرد الخبر بذكر خط سير السيارة الشبح محذراً القرَّاء بوجوب الابتعاد عن تلك الشوارع وقت القيام بتلك التجربة.
يتضح لنا مما سبق أن السيارة الموصوفة كانت سيارة يتم التحكم بها عن بُعد أكثر من كونها ذاتية التحكم بالمعنى المتعارف عليه اليوم.
لكن «السيارة الآلية» كما نتخيلها اليوم، شهدت تطوراً نوعياً في الثمانينيات وظهرت عام 2013م فقط، حين نجح فريق من جامعة بارما الإيطالية في تسجيل أول رحلة بسيارة ذاتية التحكم بدون سائق في بيئة مرور عام ومسار مختلط (طريق زراعي مزدوج، طريق سريع وطريق سكني) بعيداً عن مسارات التجارب المغلقة، في وجود سيارات أخرى ومشاة وعوائق طبيعية لم تسجَّل مسبقاً في أجهزة التحكم والمراقبة على السيارة. لم يتم التحكم بشرياً عن بُعد بالسيارة، وكل قرار اتخذته هذه المركبة كان نابعاً ذاتياً من وحدة التحكم الرئيسة الخاصة بها تبعاً لمعطيات الطريق والإشارات المرورية والمستجدات المحيطة، من دون أي تدخل بشري. الجزء الأكثر تعقيداً من هذه التجربة هو التعامل مع حركة المرور الحقيقية في محيط الطريق السريع والمناطق السكنية (وسط المدينة). أحد العناصر التي زادت بشكل كبير التعقيد هو الحاجة لاتخاذ القرار لدخول الدوارات، والأنفاق، ومعابر المشاة، والمطبات الصناعية، وإشارات المرور، لأن هذه الحالات مفصلية تتطلب التفسير البيئي العميق من قبل النظام على متن السيارة. نجحت السيارة في إتمام المهمة، وقطعت مسافة الرحلة بكفاءة وسلامة يحسدها عليها كثير من البشر!
عند تعيين الوجهة للسيارة، تبدأ بتحديد الطريق استناداً إلى الخريطة المحفوظة مسبقاً في وحدة الذاكرة الدائمة مع إمكانية تحديثها استناداً إلى نظام «GPS» والبيانات المحدثة المدخلة عن طريق نظام الاتصال اللاسلكي لتعريف أو تفادي أي مستجدات كالحوادث أو إصلاحات الطرق وغيرها من الطوارئ. كما يتم تحديد السرعة الملائمة لكل منطقة في الطريق. وعملية تحديد الطريق وكل ما يتطلبه من معلومات ومطابقتها مع إحداثيات نظام الملاحة ومدخلات حساسات الليزر والكاميرات الخلفية والأمامية هي عملية معالجة بيانات ضخمة تتطلب خوارزميات دقيقة ومعقدة وسرعة معالجة وتحديث عالية.
اعتماد السيارة الذكية ذاتية التحكم على دقة الخرائط وسرعة تحديثها وتطلبها لخبرة واسعة في تقنيات سرعة ودقة معالجة البيانات الضخمة دفع عملاق الحوسبة «غوغل» إلى اقتحام هذا المجال، بالاتكال على التفوق الكبير في مشروع «خرائط غوغل». في عام 2005م، ابتكر مهندسو غوغل ماسح الليزر ثلاثي الأبعاد الذي يسمح لجهاز التحكم المركزي على المركبة بتوليد خرائط مفصلة عالية الدقة للبيئة المحيطة. فصارت عندنا سيارة آلية ذكية خاضت تجارب الشارع وسط بيئة مرورية مفتوحة في عام 2014م، بعد أن حصلت على التراخيص المحلية اللازمة.
يمثل نموذجا السيارة الذاتية التحكم من جامعة بارما وشركة غوغل خطوة مهمة نحو سيارات قادرة على أن تكون مستقلة تماماً عن العنصر البشري في أي حالة. ليس لهذه السيارات حالياً القدرة بالفعل على التعامل مع بعض الحالات الشائعة بطريقة مثلى، كالدخول في الدوارات الكبيرة والاندماج في الطرق السريعة والتجاوب مع إشارات المرور المتعددة في آن واحد، وتجاوز أعمال الطرق بسلاسة. فالنماذج الحالية من تلك السيارات تتعامل مع دخول الدوارات والطريق السريعة المزدحمة بطريقة متحفظة جداً، حيث تتوقف السيارة تماماً قبل اتخاذ الخطوة المقبلة وهو ما قد يؤدي إلى إشكالات وحوادث محتملة في ظل مشاركة السيارة الطريق مع السيارات الأخرى التي غالباً ما تكون غير ذكية وتحت تحكم البشر.
في عام 2013م، توفي ما يزيد على 14 ألفاً وأصيب ثلاثة أضعافهم في حوادث السيارات في أوروبا وحدها. أما في المملكة فتشير إحصاءات 2014م إلى أن ما معدَّله 17 شخصاً يتوفون يومياً بسبب حوادث المرور! و%93 من تلك الحوادث هي نتيجة لأخطاء بشرية بحتة مثل: الانشغال بالأجهزة الشخصية، والسرعة الزائدة، والضعف العام بسبب الإجهاد. وينظر المهتمون إلى السيارات الذاتية التحكم على أنها الحل المخلص من هذه الأرقام المفزعة، إن أخذنا في الاعتبار أن كل السيارات ستكون ذاتية التحكم مع إتاحة إمكانية التواصل بين المركبات لتعزيز الأمن والسلامة على الطرق.
فتخيل عالماً لا تمتلك فيه سيارة خاصة، ستطلب سيارة ذكية لتقلك إلى عملك ثم تنطلق لتقل الراكب التالي إلى وجهته تلقائياً. لا حاجة لصفّ السيارة على جوانب الطرقات أو تخصيص مواقف خاصة لها في المباني لأن السيارة إن لم تكن مشغولة في توصيل راكب أو بضائع فهي ستقود نفسها إلى مساحة الوقوف المخصصة البعيدة. لا مزيد من إشارات المرور، فالسيارات ستتواصل فيما بينها وتحدد أولوية المرور حسب الطريق أو حسب الحاجة في حال وجود طارئ. وهذا التواصل بين السيارات سيقلل من الاختناقات المرورية والازدحامات كما سيمكّن السيارة من التواصل مع شبكة المواصلات الذكية لاختيار الطريق الأسرع. ستتمكن من ركوب السيارة والانطلاق، إن كنت رجلاً أو سيدة، معافى أو معاقاً وبدون رخصة قيادة. كل ذلك سيؤدي حتماً إلى أن تكون الطرق أكثر أمناً، بيئة خالية من الحوادث والإصابات. فالأرقام الحالية المرعبة ستكون شيئاً من الماضي. والأهم من هذا كله، ستتمكن من العبث بهاتفك المحمول أو إتمام عملك قبل بلوغ وجهتك دون أن تتسبب في إزهاق روحك أو غيرك من الأبرياء.