غالباً ما يمرُّ النص الإبداعي بمحطات متشعبة ليصل في النهاية إلى القارئ، والإبداع بوصفه عملية كيميائية مركبة يحتاج إلى قراءة فاحصة، متأنية حتى نتمكن من إيلائه ما يستحق من تتبع وتأويل، فالقارئ راهناً، لم يعد محايداً بل مشاركاً في العمل الإبداعي، ونعني بذلك «القارئ في النص»، وليس «قارئ النص»، ثمةَ فرق شاسع بينهما.
تقودنا معادلة القراءات العاشقة والمقاربات التي تتضمن منهجاً أكاديمياً، علمياً رصيناً، إلى التمثلات الجمالية والدلالية والمعجمية للنص الإبداعي. من المؤكد، أن ممكنات النقد بتعدد أوجهها وأنساقها «تغتال» بشكل مباشر خصوصية النص، بمعنى آخر، هناك «تشويه» لجمالية النص وهدم لهويته الأولى، لكن لا مناص في ظل هذه المخاضات العسيرة للنص الإبداعي أن يتحرك معول النقد وتتحرك معه تلك المياه الراكدة التي يخلفها أي نص إبداعي مهما كان جنسه.
نحنُ هنا نتحدث عن «النقد الثقافي» كما بشَّر به عربياً الناقد عبدالله الغذامي، ويأتي بديلاً لفشل المناهج النقدية الجديدة في قراءة النص الأدبي. صحيح، أن «النقد الثقافي» جاء في سياق التحولات الكبرى والمتسارعة للنص الأدبي، ورفع راية «العصيان» في وجه البنيوية والتفكيكية وغيرهما في استجلاء سمات النص ومرجآته، هل يمكنُ للنقد الثقافي أن يلم شتات النص الأدبي نقدياً؟ وهل يمكنه أن يغطي ثغرات هذه المناهج المستحدثة؟ وكيف يمكننا استنباته في تربة عربية تعدُّ النقد التراثي «توقيعاً شخصياً» للنقد العربي؟ ثم، ما هي درجات تفاعل القارئ / المتلقي مع النص الأدبي بالارتكاز على النقد الثقافي، التكاملي؟ هذه الأسئلة وغيرها تنبني على «نية» مبيتة في فهم أساسات هذا المقترح النقدي الجديد، وإن كان السابق لأوانه إصدار «أحكام مسبقة» حول هذا التوجه النقدي الجديد، لكن، إبدالاته النقدية والنصية تنبئ بـ «موت» النظريات النقدية الغربية، لأنها لم تعد قادرة على استيعاب مرجآت النص وأوفاقه، في ظل تلك السيرورة التي يعرفها النهر الإبداعي.
النقد الثقافي يرتبط ضمنياً بالقارئ / المتلقي بوصفه فاعلاً أساسياً في العمل الإبداعي، لا بد له تراكمات معرفية وثقافية تعينه على تلمس طريق النص ويصبح بالتالي خبيراً فيه مخبراً عنه، ولا يتوقف على نسج الأسئلة حول مداراته المختلفة، بدلاً من أن يبقى قارئاً «مستهلكاً»، وغير قادر على الانخراط في مختبر الكتابة وأولِيَّاتها السحيقة، ولا بد في هذا السياق التفاعلي بين المؤلف والقارئ أن يتبادلا الأدوار في انصهار وتوحُّد لدرجة يصعب معها التمييز بينهما.
إن وجود القارئ في النص هو الذي يحقق السيرورة، وتتحقق معه تلك التفاعلية بين في تلقي النص تلقياً جمالياً ودلالياً ومعرفياً، وهذه التحققات النصية لا تلغي النص ككتلةٍ، بل تشكل على امتداد حاله ومآله فعل القراءة، بما يستضمره من إمكانات للتأويل والنقد، وظني، أن هذه العملية التفاعلية بين كاتب النص وقارئه، تخوض في مجهول الكتابة ومعلومها، بما فيه فتح قنوات للتهوية، بعيداً عن استغلاقات النص ومرجآته.
الاسترسال في القراءة، وتقليب النص على وجوه عدة، أمر جوهري ومفصلي كنوعٍ من استعادة حصة القارئ في الكتابة، صحيح، أن عملية الكتابة في مجملها، لا تستدعي القارئ في راهنية الكتابة، وليست هناك تمثلات حدسية وذهنية لوجوده المحتمل أو الافتراضي، لكن لا بد من وجود «ميثاق معنوي» لدى الكاتب بوجود قارئ ينتظر هناك عند الضفة الأخرى.
لا أحسبني مغالياً، إن قلت إن التصورات المغلوطة حول القارئ لم تعد مقبولة اليوم، بل حضوره بوعي أو بدونه في العملية الإبداعية، ضرورة مُلِحة في أفق إنتاج نص تكاملي بجناحين: جناح الكاتب، المنتج، المؤلف لخيوط النص، ثم جناح، المتلقي، القارئ، المفتت، لاستشكالات النص، وصفوة القول، إن قارئ النص يتحول إلى قارئ في النص، مشاركٍ في العملية الإبداعية، ولا مناص من استحضاره في كل إقبال على الكتابة.