حين اقتربنا من مدخل محترف الفنان التشكيلي السعودي محمد الثقفي، القائم في جمعية الثقافة والفنون في الطائف، حيّانا الفنان من حيث كان يقف على سطح المبنى وكأنه كان بانتظارنا. وكانت الكتل الصخرية الكبيرة عند المدخل لافتة للنظر بشكل خاص، حتى بدا لنا وكأن الثقفي بنى محترفه على أرض صخرية تركت على حالها الطبيعية. ولكن الثقفي جلب هذه الصخور إلى خارج محترفه كي يحوّلها إلى منحوتات بعدما يُعمل فيها موهبته الفذّة ثم أدواته الحادة، فيزيل عنها صممها لتتكلم مع الناظر إليها، وتقول ما في قلب الفنان من أفكار.
فوضى المكان المريحة
انشغاله بأفكاره الفنية ترك المحترف في حال من الفوضى، فكان علينا نحن الزوَّار أن نتفادى الأغبرة المنتشرة في كل مكان، والمرور بين المعدات الموزّعة هنا وهناك، حتى إن المصور واجه صعوبة في إيجاد مكانٍ يضع فيه عدة التصوير بحيث تكون آمنة ومستقرة. والدخول إلى عالم الفنان الضيِّق مادياً، والواسع فنياً وسع أفكاره وموهبته، رغم الفوضى المنظّمة التي تعمّه، مريح. فالهواء يدخل هذا المحترف بشكل لطيف وهادئ، وكأنه في دخوله يضفي على مساحة المحترف والموجودين فيه صفاء ونقاء.
تتوزع في المحترف طاولات مختلفة المقاسات، وفوق كل واحدة منها عُرض عمل أو عملان. بعض هذه الأعمال اكتمل ليصبح قابلاً للعرض أمام الجمهور، وبعضها ما زال ينتظر اللمسات الأخيرة التي ستحوّله من صخرة بكماء، إلى منحوتة يضيفها الثقفي إلى مجموعته الكبيرة من المنحوتات. ويغلب على الأعمال الموجودة في المحترف نمط رئيس، حيث المنحوتة وحدة جمالية تنقسم بين صخر أملس معالَج ومقطع تزيّنه الخطوط العربية.
ولكي يطلعنا الثقفي على طبيعة عمله وأدواته المختلفة كثيراً عما يمكن أن نصادفه في محترفات الفنانين، بدأ بتحضير العدة التي يستخدمها في عمله انطلاقاً من أدوات السلامة مثل القفازات والكمامات، ثم بدأت أصوات آلات النحت الكهربائية بالتصاعد من أدوات «الجلخ»، إلى أدوات التنعيم والتقطيع.. ورغم الضجة التي تثيرها والتي تشعرك بأنك في ورشة صناعية، إلا أن هذه الآلات تتحرك بليونة وخفة بين يديه، وكأنها تعرف ما يريده منها، أو كأنها اتفقت مع الصخر على ما ستتوصل إليه معه، بل يمكن القول إن هذه المعدات في يد الفنان الثقفي تبدو وكأنها امتداد ليديه اللتين تتلقَّيان أوامرهما من دماغه. ففي لحظة عمله تراه يحوِّل جسده والآلات التي يعمل بها إلى قطعة واحدة.
الصخور المطواعة
في المحترف مواد أخرى غير الصخور، منها اللدائن البلاستيكية وقطع الخشب وقطع حديدية، كلها تتحضّر لكي تتواءم مع الصخر المنحوت، فتشكّل منحوتة منوعة المواد ذات رسالة واحدة تشترك تلك المواد في تحقيقها.
وبعد استعراض الأعمال كان لا بد من التعرّف إلى المادة الرئيسة التي يستخدمها الفنان التشكيلي وهي أنواع الصخور ومصادرها، فاقترح علينا -ببادرة كريمة- اصطحابنا إلى منطقة الردف القريبة، التي هي عبارة عن متنزه عام، وفي الوقت عينه مصدر رئيس للصخور التي ينحتها.
يقول محمد الثقفي إن المملكة غنية بأنواع لا حد لها من الصخور ذات الأصول الجيولوجية المختلفة، التي تتمتع بألوان فريدة في بعض الأحيان، نظراً لتعدد العصور الجيولوجية التي مرّت على أرض شبه الجزيرة العربية. وهكذا اتجهنا جميعاً إلى الردف، وهناك اعتلى النحات إحدى الصخور الجرانيتية الرمادية الحادة والصقيلة، وتعامل معها وكأنها ستكون منحوتة له بعد لَأْي، فأخذ يقاربها من كل الجهات ناظراً إليها بشغف وكأنه يتعامل مع كائن حي، ثم انتقل إلى جانب آخر من الصخرة وأخذ يرسم خطوطاً وكأنه يعدّها للقطع لتصبح منحوتة فنية مصقولة جميلة. وكانت هذه الزيارة إلى موقع الصخور، أي منجم مواد محمد الثقفي، مناسبة كشفت علاقة حميمة بين النحات ومادته الأصلية حيث أخذ الفنان يتنقل بين أرجائها وكأنها خشبة مسرح الحياة والنشوة.
إن المملكة غنية بأنواع لا حد لها من الصخور ذات الأصول الجيولوجية المختلفة، التي تتمتع بألوان فريدة في بعض الأحيان، نظراً لتعدد العصور الجيولوجية التي مرّت على أرض شبه الجزيرة العربية.
يقول النحات الثقفي عن علاقته بالحجر إنها بدأت منذ طفولته حيث كانت الصخور الجرانيتية في مسقط رأسه في الثقيف ملعب طفولته. فنشأت بينه وبين هذه الصخور علاقة صداقة وأُلفة، خصوصاً مع تلك التي تتخذ أشكالاً طبيعية من دون أن تمسّها يد إنسان. والصخور الجرانيتية بسبب صلابتها وسطحها الأملس قابلة لأن تتحول إلى أعمال فنية طبيعية بمرور الزمن وخضوعها لعوامل التعرية الطبيعية مثل الرياح والتبدلات الحرارية والرياح.
بعد تطور تجربته وتحوّله من نحّات محلي يصنَّف بين النحاتين الشباب إلى نحّات عالمي يمثل المملكة العربية السعودية في المحافل الفنية العالمية، تطوّرت علاقته بالصخور، وانتقل في البحث عنها من تلال الثقيف إلى جبال الدار الحمراء ببني سعد وصولاً إلى الردف بالطائف. ولم يتوقف الأمر عند حدود تضاريس مدينته، وإنما وجَّه بوصلته شرقاً إلى هضبة نجد، وراح يتجه جنوباً ليُشبع نهمه من التنوع ومن الخامات الطبيعية التي قصّ منها قطعاً ومكعبات تباشرك بالترحيب في مدخل محترفه، وهي منصوبة في أكوام متوزعة بين جنبات المدخل.
تجربة شابة مميّزة
كانت علاقته بالصخور قد بدأت بالنظر، ثم راحت تتطور إلى علاقة تبادل للمشاعر. لم يحمل النحات إزميله ليجبر الصخرة على أن تكون ما يريد، بل تحاور معها وطوّعها ثم روّضها لتعاونه في أن تصبح فكرة من أفكاره. ثم مع مرور الوقت، وبدء الاعتياد على النقش في الصخر، بدأ الثقفي يتعرف إلى جماليات الحرف العربي الذي بدوره يشكِّل لوحة أو عملاً فنياً قبل أي تدخّل، لذا قام بإدخاله كعنصر جمالي إضافي تارة، أو أساسي تارة أخرى، في كثير من منحوتاته.
لم يحمل النحَّات إزميله ليجبر الصخرة على أن تكون ما يريد، بل تحاور معها وطوَّعها ثم روّضها لتعاونه في أن تصبح فكرة من أفكاره.
وخلّد الثقفي في هذه المنحوتات ذكرياته وأفكاره بتعدد أساليبه وألوانه بالتعامل مع الكتل والفراغ والحجم، وصنع تحفاً فنية ببعد ثلاثي محققاً التناغم الشكلي لتكتسب منحوتاته قوتها من بساطتها ووضوحها. تارة تجده ينحت في الصخر أو الرخام والحجر، وتارة أخرى ينهمك في نحت تجميعي تشكيلي لخامات عديدة، ما أكسب أعماله رونقاً مميزاً وشخصية مميزة جذبت عديداً من النقَّاد الفنيين. ولا بد من الإشارة إلى أن تجربة الثقفي الشابة تطورت تطوراً كبيراً، يقر له به كل الذين تابعوا مسيرته الفنية عن قرب، خاصة حين أنهى دراسته لنيل درجة الماجستير.
وعن سبب اختياره لفن النحت كوسيلة تعبير دون غيره من الفنون التي تبدو أسهل في التنفيذ، يقول الثقفي إنه اختار النحت بعد ممارسة العمل التشكيلي المسطّح وشبه المجسم، «إلى أن توصَّلت إلى بغيتي وما يمثل إحساسي في الأعمال النحتية». أما عن مصدر الإلهام في أعماله، فيقول: «أنا مشغول بالإنسان وقضاياه الفكرية والنفسية والثنائية التي تبدأ بالرجل والمرأة… وحتى الحياة والموت».
بعد انتهاء رحلتنا إلى محترف الفنان محمد الثقفي خرجنا وجعبتنا مملوءة بمعلومات مهمة عن فن النحت، وبأفكار فنان شغوف بفنه. فامتلأنا من حرفية المكان وفوضاه وكونه مصنعاً لرغبات فنية، وكذلك من معلومات الفنان نفسه التي لا يبخل بها على باحث أو سائل؛ لأنه يرى بأن نشر ثقافة النحت واحدة من مهامه الأثيرة، كما هي أهمية نشر أفكاره بواسطة المنحوتات.
مشاركات ومعارض
له مشاركات محلية ودولية عديدة، ومثّل المملكة في كثير من المعارض العالمية، وحقق مراكز متقدمة ونال شهادات عديدة.
