ارتباط فنان ما بمكان معيَّن أمرٌ شائع، والأماكن التي ارتبط بها فنانون أكثر من أن تُحصى. ولكن الأماكن التي تساوى في الالتحام بها فنانان اثنان، جذبتهما من بعيد ليتشاركا الارتباط بها، هي قليلة جداً، وواحدة منها هي حديقة ماجوريل في مراكش، التي تعاقب على تطويرها الرسام الفرنسي جاك ماجوريل في النصف الأول من القرن العشرين، ومصمم الأزياء المعروف عالمياً إيف سان لوران في النصف الثاني.
مراكش مدينة أحبها كتَّاب وأدباء وفنانون، وكثيراً ما عجز بعضهم عن الإفلات من جاذبيتها، فأطالوا إقامتهم فيها، وتركوا بصمات لا تُمحى في بعض نواحيها. ومن هذه البصمات الجميلة حديقة ماجوريل التي باتت اليوم أحد المعالم السياحية الشهيرة في المدينة التي لا تفتقر أبداً إلى المعالم العمرانية والسياحية المتنوعة.
التأسيس مع ماجوريل
في عام 1919م، سافر الرسام الفرنسي جاك ماجوريل إلى مراكش (وهو ابن مصمم المفروشات الشهير لويس ماجوريل)، وذلك للنقاهة من مرض في القلب. فعشق المدينة واستقرَّ فيها بشكل شبه نهائي.
ففي عام 1924م، اشترى ماجوريل قطعة أرض تبلغ مساحتها نحو أربعة هكتارات. وصمم حديقة جميلة غرس فيها نحو 135 نوعاً من النباتات. وبعد ذلك بسنوات سبع، كلَّف المهندس المعماري بول سينوار بتصميم بيته ومرسمه في هذه الحديقة. وجاء البيت تحفة معمارية، ليس بسبب تصميمه العام فقط، بل أيضاً بسبب اللون الأزرق القوي والمميز الذي طُليت به جدرانه الخارجية، وصار يُعرف عالمياً باسم «أزرق ماجوريل». وفي عام 1947م، فتح الرسام الفرنسي حديقته أمام من يشاء من الزوَّار، رغبة منه في مشاركة ملامحها الجمالية مع المراكشيين والأجانب الذين يزورون المدينة. وفي هذه «الفيلا» رسم الفنان الفرنسي كثيراً من اللوحات المستوحاة من الحياة المغربية ومعالمها.
بعد وفاة ماجوريل عام 1962م، تدهور حال الحديقة تدريجاً.. ولكن ذلك لم يدم طويلاً.
في عهدة إيف سان لوران
اكتشف مصمم الأزياء الفرنسي الشهير إيف سان لوران مراكش عام 1967م، ولم يكن حبه للمدينة عادياً. فاستقرَّ فيها لمدة سنوات عشر في مكان عند طرف المدينة يسمَّى «دار الحنش». وعن علاقته بالمدينة يقول مصمم الأزياء الذي كان أيضاً رساماً: «كان اكتشافي لمراكش صدمة.. لقد علمتني هذه المدينة الألوان وكيفية خلطها».
في عام 1980م، علم سان لوران أن مرسم مواطنه والفيلا والحديقة في مراكش باتت مهدَّدة بالخراب لاعتبارات استثمارية. فقرر مع صديقه رجل الأعمال الفرنسي بيار بيرجيه أن يشتريا هذه الملكية ويحولاها إلى مَعْلَم سياحي مفتوح أمام عُشَّاق الجمال من مختلف أنحاء العالم.
عمل سان لوران على تطوير البيت والحديقة وفق الرؤية الأصلية التي كانت لماجوريل. فحافظ على زرقة جدرانها الخارجية، وحمرة الداخلية منها، والفسيفساء التي تغطي الجدران والرسوم الهندسية عند المدخل، وأعاد تشكيل كل شيء وفق ذوقه المرهف، فكانت النتيجة مذهلة.
وبموازاة تحويل البيت إلى «متحف مراكش للفن الإسلامي» ليضم مجموعة الأقمشة التراثية العائدة إلى بلدان المغرب العربي، التي كان سان لوران يمتلكها، وبعض لوحات ماجوريل المغربية، وغير ذلك، استمر تنسيق نباتات الحديقة، واستقدم المصمم الفرنسي بعض النباتات من بلدان بعيدة، بحيث ارتفع عدد الأنواع فيها إلى نحو 350 نوعاً في وقتنا الحاضر.
وعلى الرغم من أن سان لوران عاش معظم السنوات الأخيرة من عمره في باريس وتوفي فيها عام 2008م، فإن حبه لحديقة ماجوريل رافقه حتى اللحظة الأخيرة من عمره، بدليل أنه أوصى بحرق جثمانه ونثر رماده في هذه الحديقة، وهذا حدث لاحقاً.