الثقافة والأدب

حواديت المشاوير
مقامات معاصرة في شوارع القاهرة

  • 84-(book-cover)

يبدأ الكاتب المصري خالد الخميسي كتابه تاكسي.. حواديت المشاوير بكلام لابد منه، كما عنّون المقدمة.. وفي الكلام الذي لابد منه، يذكر لنا مؤهلاته التي دفعته لتقديم كتاب من أكثر كتب هذه السنة مبيعاً في السوق المصرية. المؤهلات؟ كونه زبون سقّع لسيارات التاكسي، وحبه للحديث مع سائقيها، أو كما يصفهم بـ ترمومترات الشارع المصري الصايع .

الخميسي، خرّيج العلوم السياسية من جامعة السوربون، قدّم لنا كتاباً ساحراً بحق في بساطته ، وعمقه، وضحكه، ووجعه. والكتاب عبارة عن مقامات قصيرة لحوارات حقيقية أجراها الخميسي مع سائقي التاكسي في شوارع القاهرة في الفترة بين 2005 و 2006. ويلعب الخميسي دوراً مشابهاً لدور الراوي عيسى بن هشام في مقامات بديع الزمان الهمذاني، غير أنه راوٍ معاصر، لا يهتم كثيراً بتنميق عبارته لجذب سامعيه أو قرائه، بل على العكس.. تأتي لغة حكاياته عامية أقرب إلى الفجاجة، ولكنها حية وصادقة، تختلف تماماً عن تلك التي تعود عليها الراوي في الندوات والصالونات، وتختلف عن تلك التي تعود القارئ عليها في الكتب التي قد تقترب من طبيعة هذا الكتاب.

وربما كان نجاح الكتاب منذ البداية مرهوناً بفكرته التي قد تكون راودت خيال الكثيرين ممن جذبتهم حكمة سائقي سيارات التاكسي المصرية، إلى أن أتى الخميسي ليخرج الفكرة إلى النور، ولتتضافر عناصر كثيرة بعد ذلك لتساهم في نجاح وانتشار الكتاب بين القرّاء، منها قدرة الكاتب على تقديم صور متنوعة من حكايات المشاوير يضمها اطار واسع هو اطار الحياة الاجتماعية المصرية. ومنها أيضاً خلطه وترتيبه للحكايات فمنها المضحك، ومنها الموجع، ومنها المتشائم، ومنها المغرق في التفاؤل.. ومن الواضح أن الكاتب اختار بعناية ترتيب حكاياته التي أتت مرقمة دون عناوين. فبدأ بحكاية السائق العجوز المؤمن بأن رزقه لن يتوه عنه، وانتهى بحكايته مع السائق الفنان الذي يصرف كل ما يأتيه من رزق التاكسي على هواياته. وبين هذا وذاك، نجد الغاضب على أمناء شرطة العاصمة، والصعيدي الغارق في حب فتاة من زبائنه، والمهرب الذي يشغل وقته بقيادة التاكسي حتى يجد عملاً آخر.. وغيرها كثير ضمن 58 حدوتة من حواديت المشاوير.

والحقيقة أن القرّاء في الخليج قد يقرأون الكتاب من زاوية تختلف بعض الشيء عن بقية قرائه، فلطالما اعتبرنا أن سائق التاكسي أو الليموزين هو الآخر المُستقدم من شعوب و ثقافات مختلفة.. بل ولغة أخرى أولهجة عربية جديدة و مكسورة نتقنها نحن لنتفاهم معه.. وهو لهذا ليست له علاقة مباشرة بنا، وهمومنا الحياتية تختلف عن همومه وما يحركنا بعيد بعض الشيء عما يحركه.. ولذلك يفتح الكتاب أعيننا على ما يمكن أن يكون إن كان حال سائقي الأجرة في بلدان الخليج مختلفاً، أو ما يمكن أن تخبئ لنا سيارات الأجرة، بطبيعتها الخاصة عندنا، من حكمة ورصد للمجتمع.
الكتاب الذي قدمته دار الشروق المصرية في يناير من هذا العام نفدت طبعتاه الأولى والثانية في شهرين، لتصدر الطبعة الثالثة منه، ويتجدد الحديث عنه بين القرّاء حتى اليوم. والدعاية الوحيدة التي اعتمد عليها الكتاب كانت في نزوله ضمن اصدارات الدار في معرض كتاب القاهرة، واعجاب الناس به وتوصية قرائه بقرائته لمن لم يفعل بعد على صفحات الجرائد والانترنت. وإن كانت صفحة الإهداء في أول الكتاب تكرّسه للحياة التي تسكن كلمات البسطاء من الناس، فبقية صفحاته أتت لتهدي القارئ لقطات غنية من هذه الحياة.

……

… أنا: حضرتك أكيد بتسوق من فترة طويلة.
السائق: أنا باسوق تاكسي من سنة 48.
لم أتصور أنه يمارس قيادة سيارات الأجرة منذ قرابة ستين عاماً.. لم أجرؤ على سؤاله عن سنه، ولكني وجدت نفسي أسأله عن النتيجة.
أنا: وإيه يا ترى خلاصة خبرتك اللي ممكن تقولها لواحد زيي، علشان أتعلم منها.
السائق: نملة سوداء على صخرة سوداء في ليلة حالكة الظلمة يرزقها الله.
أنا: قصدك ايه؟
السائق: أحكيلك حكاية حصلت لي الشهر ده علشان تفهم قصدي.
أنا: أرجوك.
السائق: عييت لمدة 10 أيام عيَا شديد، ما كنتش قادر أتحرك من السرير، وأنا طبعاً على باب الله يعني اليوم بيومه معايا.. بعد أسبوع ماكنش في البيت ولا مليم.. أنا عارف ومراتي مخبيّة عليّ.. أقول لها حنعمل ايه يا ستي؟ .. تقوللي الخير كتير يا أبو حسين وهي عمّالة تشحت أكل من كل الجيران.. وأنا طبعاً ولادي فيهم اللي مكفّيهم، اللي جوّز نص عياله ومش عارف يجوِّز النص التاني.. واللي عنده حفيد عيّان بيجري بيه في المستشفيات.. القصد ما ينفعش نطلب منهم حاجة.. ده الواجب إن أنا اللي أساعدهم.. بعد عشرة أيام قلت للحاجة لازم أنزل الشغل.. حلفت عليّ وقعدت تصرخ وتقول إني لو نزلت ح أموت منها.. وبصراحة أنا ماكنتش قادر أنزل.. بس قلت لازم، كدبت عليها كدبة بيضة وقلت لها ح أقعد في القهوة ساعة.. أغيّر هوا علشان حتخنق.. ونزلت دورت العربية وقلت يا ربنا يا رزاق.. فضلت ماشي لغاية ما وصلت عند جنينة الأورمان ولقيت لك عربية بيجو 504 عطلانة والسواق بتاعها بيشاور ليّ.. وقفت.. قرّب منّي وقال لي معايا واحد عربي طالع المطار تاخده علشان عربيتي عطلت؟ واخد بالك هنا من حكمة ربنا؟ معاه عربية 405 حالتها بريمو، وعطلت!!.. قلت له أوصّله.
ركب معايا الزبون.. طلع من عُمان، من عند السلطان قابوس سألني تاخد كام قلت له اللي تجيبه.. أكد عليَّ اللي حادفعه حتاخده.. قلت له ماشي.
وأنا في الطريق عرفت إنه رايح قرية البضائع علشان عنده حاجة حيخلصها.. فعرّفته إن حفيدي بيشتغل هناك وإنه ممكن يساعده في تخليصها من الجمرك.. قال لي ماشي.. وبالفعل رحت ولقيت حفيدي هناك وفي ورديته.. خد بالك هنا إن أنا طبعاً كان ممكن ما ألاقيهوش.. خلصنا الحاجات اللي عاوز يخلصها ورجعته الدقي.
سألني تاني حتاخد كام يا حاج؟
قلت إحنا اتفقنا اللي تجيبه، فراح مديني خمسين جنيه خدّتهم وشكرته ودوّرت العربية.. سألني راضي، ردّيت وقلت له راضي.
قال لي بُص يا حاج.. الجمرك كان المفروض يبقى ب 1400 جنيه دفعت أنا 600 جنيه. يعني الفرق 800 دول طالعين من ذمتي، يعني حلالك و 200 جنيه أجرة التاكسي.. آدي ألف جنيه والخمسين اللي معاك هدية منّي!
شفت يا أستاذ.. يعني مشوار واحد جاب لي ألف جنيه، ممكن أشتغل شهر وماجيبهومش.. شوف ربنا نزلني من بيتي وعطّل العربية الـ 504 وأوجد ليّ كل المسببات علشان يرزقني الرزق ده.. أصل الرزق ده مش بتاعك والفلوس دي مش بتاعتك، كله بتاع ربنا.. دي الحاجة الوحيدة اللي اتعلمتها في حياتي.
نزلت من التاكسي آسفاً فقد كنت أتمنى لو جلست معه ساعات وساعات أخرى، ولكن للأسف كان لدي أنا أيضاً موعد في سلسلة الجري المستمر وراء الرزق.

أضف تعليق

التعليقات