إنها قصة قصيرة جديدة، يرصد فيها الأديب السوري المعروف فاضل السباعي، بحساسية فائقة، واحداً من مشاعر الارتباك المصاحبة للبحث عن مكانة اجتماعية أعلى، وتحديداً في عالم الطبقة الوسطى التي يمثلها هنا صحافي وزوجته، يجدان نفسيهما في وسط اجتماعي أعلى وأداة تسمح لهما بدخوله، أو الزعم بالانتماء إليه، وهذه الأداة هي «معطف من فراء الأرانب»، مختلف قليلاً عن غيره من المعاطف. وهذا الاختلاف، هو ما يشد بصاحبته ظاهرياً إلى الأمام، أما حقيقة أمره فتشدها إلى الخلف.
كانت تلك أول مرّةٍ يتلقى فيها دعوة إلى حضور حفلة تقيمها مؤسسة اجتماعية بهذا المستوى من العراقة. وهم أرادوه صحافياً يقوم بتغطية حفلتهم الخمسينية؛ وهو، من جانبه، أراد أن يصطحب زوجته، فتكون هذه المرة الأولى التي يدخلان فيها معاً عالماً قوامه سيِّدات متقدمات في الثقافة وفي النشاط الاجتماعي.
قالت زوجته أمام المرآة:
ــ رهيف! ما دامت الجمعية تعمل في تبنّي المواهب الشابّة، فما رأيك في أن أنتسب إليها، لعلّي أغدو كاتبة يشار إليها بالبنان!
وغمزت بإحدى عينيها.
قال مشجِّعاً:
ـ ولم لا، يا حبيبتي! أعرف أنك تكتبين الخواطر والمذكرات مذ كنت طالبة في الثانوي، ورسائلك إليَّ أيام الخطبة، شاهد على مقدرتك في التعبير.
ضحكت رَهَفْ بصمت، وهي تفكر في أولئك السيدات المترفات ممن يطلقون عليهن اسم المجتمع المخملي..
ــ يخيَّل إليَّ أن وجودي الليلة بين صاحباتك أولئك، سوف «يعقّدني»!
استغرب:
ــ ولِم،َ يا رَهَف ْ؟
ــ إن أيّاً منهن تلبس في خنصرها خاتماً تزيد قيمته على كل ما جنيناه في بيتنا منِ أثاث!
اعتَرَض بشدة:
ــ لا تدعي الإحساس بالنقص يسيطر عليك! أنت خريجة جامعة، تسهمين في بناء جيل، فعملك هذا أفضل مما يؤديه بعضهن؛ وزوجك صحافيٌ صاعد، يتابع تحصيله العالي.. على العكس يا حبيبة، ستكونين بينهن الأوفر شبابا وجمالا وأناقة، خاصة وأنت تقبلين عليهن وأنت في معطفك الأنيق، هذا الذي وصل إلينا من لوس أنجليس! لسوف تبدين بينهن، يا عروستي، أشبه بزهرة فواحة بالعطر والشباب والجمال، وأنت تتنقَّلين بين…
تركت رَهَفْ زوجها يصوغ عباراته الجميلة، وأخذت تتذكر ــ وهي تمر بمِرْوَد الكحل على عينيها الكستنائيتين ــ حكاية هذا المعطف: أختها الحبيبة شَغَفْ، التي سبقتها إلى الزواج في أمريكا حيث تتابع دراسة ’البورد‘ في الصيدلة، استحلت لها هذا المعطف، الذي عرفت عنه منها على الهاتف أنه مصنوع، بتقنية عالية، من فراء الأرانب، اشترته في التصفية الأخيرة على عيب فيه: ثقب، أو شق صغير، في خاصرته اليمنى، يمكن تمويهه بتغطيته بالوبر المحيط به! وأما لونه فهو ليموني شفاف يستهوي النظر. وقد جاء المعطف وكأنه مفصَّل على قدِّها تفصيلاً! حذَّرتها أختها من أن يصيبه بلل.. ومن أين يأتيه البلل؟ تخرج من البيت إلى سيارة ”التكسي»، ومن السيارة إلى حيث تقصد! إنها المرة الأولى التي ترتديه. هديَّة فاخرة من شقيقة حنون، وصلت إليهما قبل أسابيع بالبريد. حدّثا الجمارك عن العيب في المعطف فأعفيا من دفع أي رسم كان!
****
وراء الباب الدوَّار، في أول «الصالون»، كانت تقف في استقبال المدعوين، سيدات ثلاث، رأتهن رَهَفْ غاية في الأناقة، وإن بدا لها أنهن اجتهدن في تخفيف وطأة السنين.
انعطفت عليها أولى السيدات الثلاث، تقبلها بمودة:
ــ ما هذا الجمال كله، يا أستاذ رَهيف! ما شاء الله: شباب وأناقة! لائقان، كل منكما لائق بالآخر!
قال رهيف:
ــ بعض ما عندكم، يا عفت خانم
ــ نحن أخذنا حظنا من الحياة، واليوم نعمل على خدمتها!
واكتفت السيدتان الأُخريان بالمصافحة الصامتة.
قال رهيف لزوجته، وهما يتوجهان إلى حيث تودع معطفها:
ــ السيدة عفَّت تتكلم على سجيَّتها، ولا تتوانى عن التعبير عن كل ما يدور في خاطرها من أفكار!
نَضَتْ رَهَفْ عنها معطفها، فازدادت إشراقا بفستانها الوردي!
ــ رهيف! أكاد أذوب خجلاً!
ــ بل انهن يذبن إعجاباً بك! هيّا إلى الأمام…
كان معظم الحاضرين من النساء، وكانت قلَّة منهن شابَّات. أخذن يرمقن رهف بنظرات ذات معان لا تخفى عليها، وهي الأنثى: يختلسن إليها النظر… ثم بعيونهن يتجاوزنها إلى سواها.
جلست وزوجها إلى إحدى الطاولات. ولكنه ما لبث أن تركها، لينتقل، بمسجلته ومصورته، بينهن.
فجأة ساد صمت. عريفة الحفلة تتخذ مكانها وراء «الميكروفون»:
ــ أيها السيدات والسادة…..
كان رهيف قد حدَّثها عن هذه الجمعية، التي بدأت نشاطها ثقافيَّة؛ ثم أخذت تقدم،ِّ مطلع كل عام دراسي، الهدايا إلى الطالبات المجدّات؛ فلما ساد العالم الاهتمام بـالبيئة، أضافت إلى نشاطها العناية بالشجرة، رمز النمو والحياة!
ها هن أولاً يصفقن لما حققته جمعيتهن في مجالاتها. ولكن بعض الشابات يتعاقبن على المنبر، تلقي كل منهن شعراً، قصة، خاطرة أدبية. إنهن ممن تتعهد الجمعيَّة مواهبهن قبل أن تقدمهن إلى المجتمع الثقافي كاتبات مبدعات.
كان رهيف يصغي بحواسه كلها، جالساً بجوار زوجته، يدونِّ هذه العبارات أو تلك. مال على زوجته هامساً:
ــ ما رأيك في أن تكوني، بعد سنة أو سنتين، واحدة من هذه الشابَّات؟
ــ ليت هذا يتحقق، يا رهيف!
ــ ألا تتعرَّفين إلى بعض وجوه المجتمع؟
ونهض الجميع إلى المائدة المفتوحة.
ــ أليست زوجتك صحافية أيضاَ، يا أستاذ رهيف؟
ــ إنها خرّيجة كليَّة العلوم، تُدَرِّس الفيزياء والكيمياء. وفي البيت تعمل كيميائية أيضاً لدى وقوفها أمام موقد الغاز!
ــ لو انها تمارس الصحافة لفُتِحت أمامها أبواب الأخبار على مصاريعها!
ــ بل أتمنّى لو أنها تمارس الأدب!
ــ ألا تنتسبين إلى جمعيَّتنا يا سيدة رَهَف، فتشاركينا العمل في مجالاتنا المختلفة؟
ــ هذا ما يسعدني.
واشترط رهيف:
ــ إذا تعهدتن أن تجعلن منها شاعرةً، أو قاصَّةً، أو على الأقل كاتبة خواطر!
قالت رئيسة الجمعيَّة:
ــ لا شك في أن اختيارك زوجتك، كان في جملة بواعثه أن لها ميولاً أدبية. أنا، باسم الجمعية، أتعهد أن نجعل منها كاتبة. هيَّا أطلقها إلى عالم الأدب، نكسب أديبة صاعدة أخرى!
وغمر الفرح قلوب الجميع.
وعندما اتجهت رَهَفْ وزوجها صوب الطاولة، أخذ يحدثها عما تتمتع به السيدة عفَّت من الظرف واللطف والبديهة الحاضرة… وإن ما تردده أمام أصدقائها من مقولاتها اللاذعة، أنها ما زالت تبحث عن السبب في أن الجمعيّات الثقافيّة، غالباً ما تكون مقارُّها تحت الأرض، على حين أن أندية القمار فوقها!!… مشيرة بذلك إلى أن جمعيَّتها ما فتئت، منذ خمسين عاماً، تنتقل من قبوٍ إلى قبوٍ آخر، دون أن تتمكن من تملك مقر على سطح الأرض!
قال رهيف للعضو المسؤول عن الإعلام:
سيِّدتي إن ما سمعته الساعة، وما عرفته، عن نشاط جمعيَّتكم، يُلهمني كتابة مقالتين لا واحدة: الأولى عن احتضانكم المواهب الأدبيَّة، وليس بينها زوجتي على كل حال، والأخرى عن نشاطكم في حماية الشجرة!
***
قالت رَهَفْ لزوجها، وهي تعود إلى معطفها:
أيها النِّحرير اللبق! لقد أغرقتهن بوعود عمَّا سيكتبه قلمك السيَّال!
ــ بل هنَّ اللواتي أغرقنني بما أظهرن من تقدير لي، وأغرقنك أنت، وخاصة السيدة عفَّت، بالعواطف النبيلة!
ورد الغرق والإغراق عَرَضاً، كلمتين على لساني الزوجين الشابَّين، وهما يودِّعان ويودَّعان… ولكن شيئاً هناك أيقظ في رَهَفْ مخاوف من نوعٍ ما: في علمها أن الدنيا ربيع، فما بال هذه الرطوبة تهب عليها عبر الباب الدوَّر؟!
غادرت زوجها، لتقترب من النافذة، فلمحت من وراء الزجاج، قطرات مطر تتساقط… فلما ازدادت اقتراباً، رأت أرض الشارع مبلولة، فانتابها خوف شديد: ربَّاه الشتاء يتجدد في نيسان!
ارتدَّت إلى زوجها:
ــ رهيف! (لاحظ في عينيها الفزع) إنه المطر!
ــ المطر؟!
ورفعت عند ذلك ذراعيها إلى صدرها، فكأنها تعانق معطفها، الذي من فراء الأرانب، خائفة عليه من شر قادم!
ــ الفرو يؤذيه البلل!
ــ نأخذ سيَّارة تكسي يا حبيبتي.
ــ وهل تظن أن أمام النادي سيارة تنتظرنا؟!
ــ قد يُتاح لنا أن تصحبنا إحدى الأسر في سيارتها.
نظر، فرأى زوجين وقورين يخطران أمامه باتجاه الباب. دنا منهما، وبلطف بالغ سألهما:
ــ عندكم سيارة؟
أجابت السيدة وهي تمنحه ابتسامة جميلة:
ــ نعم، شكراً!
أُسقط في يده: أتراهم يحسبون أنه يسألهم، إن لم يكن عندهم سيارة خاصة، أن يقلَّهم بسيارته إلى بيوتهم تطوعاً وتكرماً؟ أو انهم يظنونه سائق «تاكسي» يبحث عن ’توصيلة‘ دسمة في هذه الليلة الماطرة؟!
وزوجته تقول بعصبيَّة:
ــ رهيف المطر ينهمر!
ولكن كيف حل بزوجته هاجس أن المعطف من فراء الأرانب، أو السناجب، تتلفه قطرات من الماء؟
ــ قطرات ماء؟! إنه سيل (وأخذت تندب) يا لحظي التعس: كل هؤلاء الأغنياء، لم يتعطَّف واحد منهم علينا، فيحملنا بسيَّارته الفخمة!
ــ اهدئي قليلاً، يا رَهَفْ، حتى أستطيع التفكير في حل ينقذ معطفك من الغرق!
ــ سمعت أختي شَغَفْ توصيني: إحذري أن يصيبه بلل!
ــ يا ستِّي، لم يصبه البلل بعد. يا له من فرو: إن كتاباً مما تقذفه مطابع اليوم، مُسَلفَناً، لو ألقيناه تحت وابل من مطر لما أصابه تلف كبير!
ــ أنا في محنة وأنت تأتيني بتشبيهاتك البليغة!
ــ هل أذهب لآتي بتاكسي تحت المطر… أم أسأل الاستقبال هنا، أن يطلبوه لنا؟
وتلبَّث لحظة، قبل أن يتوجَّه إلى… لكن سرعان ما لحقه منها نداء:
ــ رهيف! رهيف! قد توقف المطر.
ــ الحمد لله.
ــ أظن أن علينا أن نسرع بمغادرة المكان.
ــ تأكدي. على مسؤوليتك!
ولدى خروجهما، رأى السيارات الفارهة تلفظ روّاد النادي القادمين إليه ليلاً، منهم من يطلب العشاء، ومنهم من جاء يمارس تلك اللعبة فوق ’سطح الأرض‘!
وعلى رصيف النادي جعل رهيف يقول:
ــ أريد أن أعرف: هذا الفرو الذي على جسمك، أهو من ورق جرائد؟ يعني إذا أصابه بلل، هل يحل لونه على فستانك الوردي؟ إنه حتى إن كان فرواً ’صنعياً‘ فإن جلده يكون قابلاً للمقاومة وتمتاز ألوانه بـ…
قاطعته، مهرولةً بكعبها العالي:
ــ أسرع، أسرع قد عاد المطر!
ولمّا كانت المباني، في هذا الشارع الواسع، بعيدة شرفاتها عن الرصيف مما لا يوفر الاحتماء بظلها، فقد وجدا نفسيهما يهرولان إلى مدخل مبنى… وهناك أخذت رَهَفْ تنفض عن معطفها ما لحق به من البلل، وتندب في حزن عميق:
ــ قالوا: «راحت الحزينة تفرح ما لقيت لها مطرح»! يا له من «مجتمع مخملي»، لم ترض امرأة فيه أن تقلنا بسيَّارتها! ظنوا أن من هم في مثل «شكلنا» لا بد أنهم يملكون سيارة… يِضرب الفقر وساعته!
***
ترك رهيف زوجته تنفض المعطف وجهاً، ثم تنفضه قفاً، ثم تمر عليه بخرقة ناشفة، قبل أن تعيد نفضه وتنشيفه… فيما أكب هو على أوراقه يكتب في صمت.
دبَّج مقالته الأولى عن المواهب الشابَّة لمجلَّة «المجالس الثقافيَّة». ولجريدة «الغصن الأخضر»، كتب مشيداً بمنجزات الجمعيَّة في حماية الشجرة… وهو، يقينا لم يأت، في أي من المقالتين، على ذكر المطرة التي داهمت زوجته لابسة المعطف المصنوع من فراء الأرانب!
وسويعة الفجر، عندما فرغ من شأنه ودخل غرفة النوم، رأى زوجته، التي قضت ليلتها مسهَّدةً، تنهض من السرير، لتجري اتصالاً هاتفياً مع أختها في لوس أنجليس:
آلو! شغف! كيف حالك؟ اشتقت لك. أنا ارتديت ليلة أمس، أول مرة، المعطف الذي….
واستطاع أن يفهم، من خلال ما ترامى إلى سمعه من كلمات متفرِّقة، أن المعطف كان من فرو الأرانب الأصلي، وهو لا تؤثر فيه قطرات المطر.. وإنه من إنتاج إحدى الشركات العالميَّة المتخصصة في صنع معاطف الفراء والجلود، ابتداءً من فراء الأرانب والثعالب، مروراً بجلود الأفاعي والتماسيح، وانتهاءً بالفهود والنمور والأسود! وأمّا زهد ثمنه يوم الشراء، فلذلك «العيب» فيه، الذي يمكن تمويهه عند ارتدائه، والتباهي به في الأمسيات الاجتماعيَّة، والأدبيّة والعلميّة!