خلال أيّام الإجازة ولا سيما الإجازة الصيفيّة الطويلة، يكثر النشاط العام من مهرجانات ومعارض وما شابه. وغالباً ما يتضمن الحديث عن هذا النشاط تصنيفاً له بين تثقيفي وترفيهي، وكأن الواحد منهما مختلف بالضرورة عن الآخر، أو كأنه نقيضه.
فراس عبدالله يتناول هذين المفهومين، وما طرأ عليهما من تبدّل، ويرى ألاَّ ضرورة لفك ارتباط الاثنين قسراً.
نبدأ بالإشارة إلى ألاَّ أحد يؤكد علناً أو رسمياً أن الترفيه نقيض التثقيف . ولكن الاستعمال الشائع لهذين التعبيرين يوحي ذلك. وأكثر من ذلك، فهو قد غرس في وجدان المثقفين شعوراً بوجود تنافر بين المفهومين.
فالترفيه أصبح في وجدان العامة، ولا سيما الشبَّان، مرادفاً للمرح والتسلية وتمضية الوقت، وهذا ما ينظر إليه البعض الآخر، ومنهم المربون وجيل الآباء، على أنه هدر للوقت. أما التثقيف الذي يراه المربّون والآباء على أنه نشاط مفيد، فالراجح أن يراه الشبان نشاطاً مملاً لا مرح فيه ولا متعة، لا بل قد يحسُّون تجاهه وكأنه امتداد لنشاطهم المدرسي الذي انتظروا فصل الصيف بفارغ الصبر للابتعاد عنه.
الواقع أن الحقيقة ليست في هذا ولا في ذاك. بل في منطقة ضبابية بين الاثنين، تحددها قيمة النشاط في ذاته، والبراعة في صياغته.
جذورها في التربية.. المدرسية
طبيعي أن يولي الآباء جلَّ اهتمامهم للتحصيل العلمي عند أبنائهم. وعلى رأس مجالات هذا التحصيل، هناك بالطبع المدرسة. ولكن جيل الآباء هذا درس وتعلّم وفق رؤية للتربية تبدَّلت تبدلاً ملحوظاً بمرور الزمن. ومن دون الغوص في مفاضلة التربية قديماً عما هي اليوم، يكفي الإقرار أن ما طرأ على التعليم من متغيرات في مناهجه ومواده وحتى أهدافه، يضعنا أمام مدرسة بالمعنى الواسع للكلمة تختلف تماماً عن المدرسة التي تخرَّج فيها آباؤنا، وكانت في عصرهم موطن العلم والمعرفة الوحيد في محيطهم. بدليل أن ما يسمى اليوم نشاطاً خارج المنهاج ويشمل عدداً لا يحصى من أبواب النشاط الذي يقوم به الطلاب خارج المدرسة ويرمي إلى تعزيز علاقاتهم بمحيطهم وتطوير نظرتهم إلى العلوم من حولهم، هذا النشاط كان غير معروف على الإطلاق في مدارسنا قبل جيل واحد.
فلو شئنا اختصار التحول الذي طرأ على التربية والتعليم خلال السنوات الأخيرة في البلاد العربية (وقبل ذلك في بلدان الغرب) لقلنا إن هناك اعترافاً جديداً وشاملاً عالمياً، بأن العلم يُكتسب في مكانين لا في واحد، المدرسة والخارج أيضاً.
قرارات جديدة تستحق الثقة
إلى ما تقدَّم، وفَّرت أدوات الاتصال من تلفزيون وحاسوب ومطبوعات مصادر معلومات للجيل الجديد لم تكن متوافرة للجيل السابق. والكل يعرف ذلك. ولكن ما يصعب على أبناء الجيل السابق الإقرار به، هو أن مصادر المعلومات هذه أثرت في عقول الشبّان وجعلتهم يتمتعون بقدرة لم تكن لجيل الآباء. فعندما كان أحدهم يتجول في الطبيعة قبل نحو ربع قرن، كان الأمر على الأرجح نزهة تريح جسمه ونفسه من عناء العمل. أما النظرة الحادة التي تميِّز الجيل الجديد، فقد تجعل من نزهة أحدهم في موقع طبيعي فرصة للسؤال عن جيولوجية المكان، وقد تسترعي الحشرات التي يصادفها اهتمامه أكثر مما قد يكون مهتماً بالاستلقاء على العشب وترك الوقت يمر.
ويمكننا أن نعطي مثلاً أوضح.. فعندما كان جيل الآباء يشاهد فِلماً سينمائياً، كان جلَّ اهتمامه منصب على الشحنة الميلودراميَّة للقصة العاطفية.. أما هذا الاهتمام فقد بات في أسفل اللائحة عند شبَّان اليوم. بدليل أن الأفلام التي تهمهم تكاد لا تمت بصلة إلى ما كان آباؤهم يميلون إليه. فهم قد يناقشون الفلم وقيمته الأدبية، وقد يعجبون بفكرة اختراع ظهرت فيه، وقد يقارنون قصته بالعالم الحقيقي الذي يحيط بهم.
سُقنا هذا الحديث المطول عن التحوّل الذي طرأ على وعي جيل الشباب اليوم لتأكيد أن هذا الجيل يستحق الثقة بقدرته على استخلاص المعرفة والثقافة من مصادر كان جيل الآباء يعدها هدراً للوقت. وبات التحوّل الذي طرأ على مفهوم التعليم والتربية يفرض خلط أوراق الترفيه والتثقيف وإعادة فرزها من جديد.
يكمِّلان بعضهما
ولا يعوِّض أحدهما من الآخر
عندما نقرأ اليوم عن وقائع مهرجان كبير معيَّن، غالباً ما نسمع أنه جمع أبواب النشاط الثقافية إلى الترفيهية. وكأن أحد هذين اللونين أشبه برشوة لاستقطاب جمهور معيَّن غير معني باللون الثاني. فالمهتم بالألعاب النارية مثلاًً سيجد ضالته، والمهتم بالأمسية الشعرية أو بالندوة الفكرية أو بمعرض الرسم سيجد ضالته أيضاً. والأسوأ من ذلك هو اعتقاد بعض القائمين على النشاط العام أنهم بحجة الترفيه سيتمكنون من استدراج الشبَّان واللامبالين إلى النواحي الثقافية التي تسهم في صقل شخصيتهم وتوسعة مداركهم. والواقع أن التثقيف الحقيقي لا يمكنه أن ينجز بواسطة خديعة، وقد باتت هذه الخديعة من السذاجة بحيث لم تعد تمر على أحد. فاللامبالي بنشاط ثقافي بحت، قد يذهب إلى مهرجان معيَّن، فيشاهد الألعاب النارية ويلهو بأدوات اللهو من دون أن يعرج على أي أمور ثقافية. والعكس صحيح أيضاً.
الترفيه ضرورة وحق
لم يعد هناك من يتطلع للترفيه على أنه مجرد هدر للوقت لا طائل تحته. فالترفيه السليم حاجة نفسية وجسمانية بات الطب وعلم النفس يسلِّمان بأهميتها لإعادة شحن الجسم بالطاقة، وتصفية الذهن المرهق بمتاعب الحياة اليومية. وعندما نضيف إلى متاعب الحياة اليومية المجهود المبذول خلال أيام الدراسة، يصبح الترفيه حقاً من حقوق الشبان المطالبين به.
في كثير من بلدان العالم يستدعي هذا الموقف الإيجابي من الترفيه حذراً من كثرة المنزلقات التي يمكن للبعض أن يجمعها تحته. أمّا في المملكة العربية السعودية حيث تضمن الضوابط الاجتماعية والتقليدية إخلاء هذا المفهوم من كل المنزلقات التي يمكن أن تحوِّله إلى ما هو أسوأ من هدر للوقت ليصبح عبثاً خطراً، فيمكن الاطمئنان إلى سلامة النشاط الترفيهي، ويبقى الإقرار بأهمية دوره الذي يمكنه أن يكون على تماس مع الثقافة.
ويبدو النشاط الرياضي في ظاهره مفيداً فقط لممارسيه، ومجرد تسلية ممتعة لمتابعيه. ولكننا لو تطلعنا إلى مفهوم الثقافة بمعناها العميق، للاحظنا أنها تتضمن اشتراك مجموعة بشرية في مكان معيَّن باهتمام معيَّن. وفي كل بلدان العالم، أصبحت أخبار الفرق الرياضية جزءاً من ثقافة المجتمعات. فإذا سلَّمنا جدلاً أنه يجوز لبعض المثقفين إسقاط عالم الرياضة بأسره من اهتمامهم، فلا يجوز لنا أن نجرِّد المعرفة بعالم الرياضة من جانبها الثقافي أو من قيمتها الثقافية عند المهتمين بها.
فمتابعة مباريات كرة القدم، تنقل للمتابع الكثير غير الاستمتاع بمهارة الفريق الذي يؤيده، فهو يكتشف الفريق المنافس، والبلد المضيف وهويته الثقافية والحضارية، ولو عرضاً، ولو على نحو جزئي. بدليل أن افتتاح الدورات الرياضية الكبرى صار أقرب إلى المهرجانات الثقافية منه إلى الدورات الرياضية.
الأمر نفسه يصح في سباق السيَّارات. فالمولعون به، كما نعرف، يتجاوزون في متابعتهم المشاهدة والنتائج، ليجمعوا إلى معلوماتهم الكثير المتعلق بهندسة الميكانيك وجوانبها التي لا يعرفها الكثيرون غيرهم. والألعاب الجماعية للأطفال والكبار تنمِّي عند ممارسيها الإحساس بالمشاركة وروح الفريق.
ويمكن بشيء من التأني ضرب الكثير من الأمثلة التي يمكنها أن تكون أعمق وموفقة أكثر من الأمثلة التي ضربنا.
يهمنا هنا التوكيد أن التطلع إلى الترفيه على أنه هدر للوقت قد ولَّى إلى غير رجعة.
التثقيف حاجة بغنى عن التسلل
ما من شك في أن النشاط الثقافي البحت يحتل مكانة على صعيد توسعة المدارك لا تقل عن المدرسة والمناهج التعليمية. وهناك تصور شائع -وخاطئ- يقول إن الشبَّان غير مبالين بهذا النشاط، وأن استدراجهم إليه يجب أن يصحبه إغراء الترفيه. والحقيقة أن مفهوم الثقافة العامة تغيَّر بدوره. وعلينا إدراك هذا التغير لفهم إشاحة نظر بعض الشبَّان عن هذا النشاط الثقافي أو ذاك.
فحتى وقت قريب مضى، ربما حتى جيل آباء اليوم، كان مفهوم الثقافة العامة يقول بجمع أكبر قدر من المعرفة والمعلومات تمهيداً للتخصص في مجال واحد منها، واتخاذ الفائض منها رصيداً احتياطياً يستخدم في صقل الشخصية، ومساعدة صاحبها في احتلال مكانة أرفع في محيط متنوِّع الاهتمام.
أما اليوم، فإن توافر أدوات التثقيف العام، وجمع المعلومات في أي موضوع مهما كان نوعه وموقعه على العالم، قد صار متوافراً أمام الشبَّان بكبسة زر، بدلاً من المجهودات الكبيرة التي كانت تُطلَب من ذويهم للحصول على جزء يسير منها. وبالتالي فإن الاهتمامات الثقافية للجيل الناشئ تتجه إلى أن تكون متخصصة في سن مبكرة جداً مقارنةً مع ما كانت في الماضي. وبالتالي، ألاَّ يكون أحدهم مهتماً بمعرض للفن التشكيلي، على سبيل المثال، لا يعني أنه يفضِّل البقاء في جهله، بل يعني أن اهتمامه يتجه في مجال آخر.
بعبارة أخرى، إن مفهوم القسريَّة -حتى ولو كانت هذه القسرية ذاتية- التي كانت تميِّز التطلع إلى النشاط الثقافي، مع ما يتضمنه ذلك من ضغط خفي على الجمهور للمشاركة فيه، هذا المفهوم لم يعد صالحاً اليوم، والضغوط الخفية لم تعد مجدية.
طبعاً هذا لا يعني على الإطلاق تقليل قيمة النشاط الثقافي العام، ولا دوره، ولكن المقصود هو أن يعي هذا النشاط حقيقة العلاقة بينه وبين جمهوره، بعد أن يعرف حقيقة هذا الجمهور. وكل ما يتطلبه ذلك عندما يصوغ هذا النشاط نفسه تمهيداً لاستقطاب الجمهور.
لا بل يمكن للنشاط الثقافي البحت أن يثق بنفسه وبجدواه وبقيمته أكثر مما في الحالات التي يسعى فيها للتزاوج مع الترفيه لتمرير ذاته، أو لجعل الآخرين يتقبَّلونه. فوظيفته حاجة ماسة للمجتمع. ولكن عليه أن يعرف أن في كل وقت من الأوقات، هناك في المجتمع من ليس في الظرف الملائم نفسياً ومزاجياً على الأقل للتفاعل معه. والأمر لا يعني مطلقاً انتقاصاً من قيمته، أو مقياساً لنجاحه أو فشله. فمن الظلم أن نطلب من تلاميذ المدارس الخارجين من الامتحان أن يتابعوا سلسلة محاضرات فكرية في قضية معينة.. لأن حاجتهم النفسية والجسمانية تميل في هذا الوقت المحدد إلى لون آخر من النشاط. تماماً كما لا يجوز أن يُمضي هؤلاء ثلاثة أشهر على شاطئ البحر، لا يغادرونه إلا لمشاهدة الألعاب النارية. وإن بدت من خلال هذا المثال المحاضرات الفكرية بصفتها نشاطاً ثقافياً، نقيضاً متطرفاً للألعاب النارية التي هي بالفعل نشاط ترفيهي مجرَّد، فإن ألوف الأعمال تقع في منطقة وسطى ما بين هذين الطرفين، كما يمكن تدوير الزوايا في معظمها لا ليتحول الثقافي إلى ترفيهي أو العكس، بل ليخاطب النشاط الواحد أكبر قدر من الأمزجة المختلفة في الوقت نفسه.
فالمطلوب من النشاط الثقافي والترفيهي ألا يتطلعا أحدهما إلى الآخر وكأنهما في منافسة. وألا يحاول أحد منهما نصب فخ للجمهور لاستدراجه إليه من خلال تطعيم نفسه بشيء من نكهة الآخر.
فالتثقيف والترفيه متكاملان. وفي هذا وذاك، تكمن القيمة في جدية النشاط والقيمة الفعلية لفحواه. والنشاط القيِّم سواء أكان ترفيهاً أم تثقيفاً له جمهوره. فالمسألة برمتها هي مسألة وقت مناسب ومكان مناسب.