على الرغم من أن دراسة المخ البشري ووظائفه هي من عمر الطب، ولأهميتها شغلت الكثيرين من غير الأطباء، فإن ما تشهده اليوم هذه الدراسة من مكتشفات يشكِّل خطوات غير مسبوقة في معرفة عمل المخ ودوره في تشكيل الوعي عند الإحساس.
آخر هذه المكتشفات هي الخلايا المرآة التي يحدثنا عنها
الدكتور مدحت مريد صادق، والتي لا يتردد الكثيرون في مقارنة أهمية اكتشافها باكتشاف الخريطة الجينية التي هي بصدد قلب مسار الطب رأساً على عقب.
ما الفرق بين المخ البشري ومخ الحيوان؟ سؤال قد يبدو ساذجاً، لكن المعروف أن أهمية المخ في حياة الحيوان ليست كأهميته للإنسان، فاستئصال المخ من رأس بعض الحشرات مثلاً لا يمنعها من العيش، ولا يقعدها عن استخدام أرجلها لدفع الأذى أو للركض هرباً من المخاطر.
وإذا قطعت رأس فراشة أثناء التزاوج فإن الجماع قد يستمر حتى يكتمل، ثم تنفصل الأنثى عن الذكر وتبدأ في وضع البيض وممارسة حياتها العادية وهي مقطوعة الرأس، وكأن شيئاً لم يضرها. بل ان بعض القواقع إذا قُطِعت رأسها يمكن أن تنبت لها رأس أخرى تتمتع بكل مواصفات الرأس القديمة. أما الإنسان فحياته ترتبط بدماغه ارتباطاً لا ينفصم، فضلاً عن أن المخ مسؤول عن أهم ما يميز البشر وهو الوعي والإدراك، لدرجة أننا نصف الشخص الذي يصاب بإغماءة مثلاً نتيجة تعطل بعض وظائف المخ، بأنه غاب عن وعيه ، فما هو ذلك الوعي؟
ظل العلماء زمناً طويلا يعتقدون أن المخ البشري يحتوي على مادة ذات سحر خاص تميزه عن مخ الحيوان، لكن مخ الإنسان مركب تقريباً من الوحدات نفسها التي يتألف منها مخ الحشرات وغيرها، ونعني الخلايا العصبية (أو العصبونات) neurons و خلايا الغراء العصبي neuroglia cells وما تكونه تلك الأخيرة من مواد تحفظ تماسك نسيج المخ وتمنحه شكله المألوف. فكيف يتشكَّل العقل الواعي من ذلك الكيان المادي ذي البنية التشريحية المعروفة؟
من المادة إلى العقل
كانت معضلة انبثاق العقل من المادة هي الشغل الشاغل لأجيال من العلماء والفلاسفة على مر العصور. وانقسم العلماء بشأنها فريقين، أحدهما رأى عدم جدوى البحث في علاقة العقل بالدماغ. واستند هذا الفريق إلى التناقض الحاد بين حرية الإرادة التي يتصف بها العقل البشري -والتي تبدو حرية مطلقة- وبين أن الدماغ مكبل بقيود مادته التي يتألف منها، وبقوانين الفيزياء والكيمياء التي تحكم عمله، فتجعل أي محاولة للحصول على حل علمي لمعرفة كيف يتَوَلد العقل فيه محاولة لا طائل تحتها، إما لعدم وجود الحل أصلاً أو لأنه خارج نطاق البحث العلمي.
وأما الفريق الثاني فيرى أن قوانين الطبيعة تتحكم فعلاً في سير الأمور، لكنها لا تنبئ دوماً بالنتائج ولا تمليها، فمثلاً ليس في قوانين الطبيعة ما ينبئ بإمكان الحصول على مادة تطفئ الحرائق من خلط مادتين إحداهما سريعة الاشتعال والأخرى ضرورية للاشتعال. لكن هذا ما يحدث في حال اتحاد الهيدروجين مع الأكسجين لإنتاج الماء. وعلى ذلك يرى هذا الفريق أن الخصائص المعنوية المتصلة بنشاط العقل، كالوعي والإرادة والضمير والعواطف، كلها يمكن أن تكون محصلة لتفاعل في شبكات الخلايا العصبية في أدمغتنا، وأن كون هذا التفاعل خاضعاً لقوانين الطبيعة لا يعني بالضرورة استحالة بزوغ العقل الواعي من نواتجها.
ولقد كان العالم الشهير فرانسيس كريك من أبرز المنتمين إلى ذلك الفريق الطموح، فبعدما اكتشف مع زميله جيمس واطسون تركيب الحمض النووي (DNA) عام 1953م، وأسهم في اكتشاف الخريطة الوراثية في ستينيات القرن العشرين، انصرف بقية حياته (توفي عام 2004م) إلى دراسة الخلايا العصبية. وفي كتابه المعروف الفرضية المدهشة: التنقيب العلمي عن النفس The Astonishing Hypothesis: the Scientific Search for the Soul بين أن دراسةً وافيةً لشبكاتنا العصبية، شأنها أن تمكننا حتماً من الوقوف على مكامن النفس البشرية، كذلك أعطى الانطباع بأن اكتشاف سر انبثاق العقل من الدماغ ما هو إلا مسألة وقت. ولم يكن كريك يعلم قطعاً فيما كان يخط مسودة كتابه أن ثلاثة علماء في جامعة بارما الإيطالية كانوا يقفون على أطراف أصابعهم مشدوهين بعدما اكتشفوا أن وظائف عقلية غير مادية كالتعاطف والتواصل والإحساس بالغير إنما تتولد من نشاط مجموعة خلايا عصبية في إحدى زوايا المخ.
مخ القرد يتعلم
يقر العلماء الثلاثة، وهم جياكومو ريدزولاتي G. Rizzolatti وليوناردو فوجاسي L. Fogassi وفيتوريو جاليسي V. Gallese، أن اكتشافهم الخطير كان صدفة، لكن صدفة لا تؤاتي سوى الجديرين باقتناصها. كان ريدزولاتي وزميلاه يجرون أبحاثهم على قِرَدَة المكاك، وكانوا قد استعدوا لفحص نشاط خلايا الحركة motor neurons المسؤولة عن استخدام القرد يديه في تناول الأشياء. وكالعادة تضمن الاستعداد تجهيز أقطاب كهربية electrodes ذات أطراف دقيقة لغرسها في الخلايا العصبية في دماغ القرد.
الطريف أن المخ على الرغم من مسؤوليته عن معالجة الإشارات التي ترد عليه من أعضاء الإحساس في الجسم، إلا أنه بذاته يفتقر إلى الإحساس، ومن ثم فإن غرس الأقطاب فيه لا يؤلم الحيوان ولا الإنسان. ما يؤلم فقط هو إحداث فتحة في الجمجمة لإدخال الأقطاب، وهو أمر يحدث عادة تحت التخدير.
المهم أن القطب المغروس بأي من خلايا المخ يلتقط أية بادرة نشاط في تلك الخلية. ونقصد بالنشاط هنا نبضةً كهربيةً تتولد وتسري في غشاء الخلية. وبواسطة أجهزة خاصة تكبر هذه النبضات فوراً وتعرض على شاشة رقمية ليتسنى للعلماء ملاحظة نشاط الخلية وتسجيله، بل غالباً ما تترجم أيضاً هذه النبضات إلى صوت يصاحب الإشارة المرئية، ليسمع الباحث بجانب ما يراه على الشاشة صوت استجابة الخلية وصوت اضطرابها، بل صوت احتضارها إن حدث! إنها تقنية معروفة في البحث العلمي وتسمى التسجيل من داخل الخلية Intracellular recording.
بعدما غرس العلماء أقطابهم في منطقة تسمى F5 بالقشرة الجبهية الدنيا في مخ القرد، وهي المنطقة المعروفة بإدارتها حركة اليد في القردة والبشر على السواء، أخذوا يقدمون للقرد أشياء ليمسكها بيده، بينما تعلقت أبصارهم بشاشة العرض. وكما هو متوقع، نشطت خلايا عصبية -أي أصدرت نبضات كهربية شاهد العلماء رسماً لها على الشاشة وسمعوا صوتها- عند كل حركة أداها القرد بيده. فمثلاً وجد أن خليةً بعينها تنشط عندما يمسك القرد بحبة فول سوداني بين أصابعه، وأن خليةً أخرى تنشط عندما يرفع القرد حبة الفول إلى فمه، وأن خليةً ثالثةً مختلفةً عن الخليتين الأوليين تنشط فقط عندما يحرك القرد كرة صغيرة من مكان إلى آخر، فوق منضدة موضوعة أمامه.
التعلم بالمرآة
إلى هنا كانت الأمور عادية وشبه متوقعة، لكن المفاجأة حدثت عندما دخل أحد الطلاب إلى المختبر وبيده كوب من الآيس كريم. التفت القرد بعينيه نحو الطالب، وحالما رفع الطالب الآيس كريم إلى فمه، لوحظ أن الخلية التي يُفترَض أنها تنشط عندما يضع القرد حبة فول سوداني في فمه قد نشطت فجأة، ولم يكن القرد يأكل شيئاً. ظن العلماء أن هناك خللاً فنياً بأجهزتهم، ولكن سرعان ما فطنوا إلى أن هناك علاقة بين حركة يد الطالب وبين ما يجري في دماغ القرد، فأعادوا ترتيب الأمور وغيَّروا سير التجربة، وبدلاً من أن يعطوا القرد الأشياء ليحركها بنفسه وقف أحدهم أمام القرد وأمسك بحبة الفول فإذا بالخلية المسؤولة عن إمساك الأشياء تنشط في دماغ القرد. رفع العالِم حبة الفول السوداني إلى فمه هو، لا إلى فم القرد، فنشطت الخلية الأخرى المسؤولة عن تناول الفول في دماغ القرد.
حرَّك العالِم الكرة الصغيرة فوق المنضدة، فنشطت في دماغ القرد خلية ثالثة هي الخلية التي كانت تنشط عندما يحرك القرد بنفسه الكرة! لم يحرك القرد ذراعه ولا يده على الإطلاق، وإنما تابع فقط حركة يد العالم فنَشطت منظومات خلايا الحركة العصبية في دماغه، كما لو كانت يد القرد نفسه هي التي تتحرك، أي إن القرد كان يرصد حركة العالم ويحاكيها في دماغه دون أن يحرك أطرافه.
يجب ألا ننسى أن العالم الذي وقف قبالة القرد أثناء التجربة كان له مخ أيضاً، وبافتراض أن مخه لا يقل تطوراً عن مخ القرد، فلابد أن خليةً عصبيةً مسؤولة عن إمساك الأشياء كانت تنشط في دماغه عندما كان يرى القرد يقبض على حبة الفول السوداني، ولا بد أن خلية أخرى في مخه مسؤولة عن التهام الطعام كانت تنشط عندما كان القرد يرفع حبة الفول السوداني إلى فمه، وهكذا.
وطالما كان العالِم والقرد يراقب كل منهما الآخر، فإن نشاط خلايا الحركة العصبية في مخ أحدهما كان يتجاوب تماماً مع نشاط الخلايا المناظرة في مخ الآخر. أي ان ما كان يجري في دماغ أحدهما كان صورة لما يحدث في دماغ الآخر، بغض النظر عن أيهما كان يقبض على حبة الفول أو أيهما يحرك الكرة على المنضدة. ولو كانت الأقطاب مغروسة في دماغ العالِم لا القرد لما تغير من الأمر شيء.
وماذا عند الإنسان؟
لذلك كان طبيعياً أن يطلق العلماء على هذه الخلايا اسم الخلايا المرآة Mirror neurons، فهي الخلايا التي تنشط في دماغك عندما تجلس أو عندما ترى شخصاً يجلس، وهي التي تنشط إذا رفَعْتَ يدك بتحية العلم أو إذا رأيت تلميذاً يرفع يده بتحية العلم، وهي التي تنشط إذا فتحت باب سيارتك أو شاهدت شخصاً يفتح باب سيارته. ليس مهماً إن كنت تشاهد هؤلاء على الطبيعة أو من خلال فلم سينمائي، المهم أن كل حركة تشاهدها سوف تُنَشِّط خلايا المرآة الخاصة بهذه الحركة في دماغك، كما لو كنت أديت الحركة بنفسك.
نُشِرَ اكتشاف الخلايا المرآة أول مرة نشراً موجزاً، عام 1992م، وفي بحث لاحق قدم المكتشفون الثلاثة مزيداً من التفصيل حولها، وبسرعة أدرك العلماء أن الاكتشاف سيكون نقطة تحول مهمة في تاريخ العلم، حتى إن بعضهم توقع أن يُحدِث هذا الاكتشاف في مجال علم النفس وعلوم الأعصاب، ثورة لا تقل عن تلك التي أحدثها اكتشاف تركيب الحمض النووي (DNA) في مجال البيولوجيا. إذ كان اكتشاف تركيب الحمض النووي مفتاحاً لدخول عالم الهندسة الوراثية وكشف تفصيل الجينوم البشري، واكتشاف الخلايا المرآة سيكون في رأي كثير من العلماء مفتاحاً لفهم تفصيل الأدوات التي تنظم عمل العقل البشري.
بالطبع لم يكن اكتشاف الخلايا المرآة في دماغ القرد في ذاته، دليلاً كافياً على وجودها في دماغ الإنسان، حتى مع افتراض أن مخ الإنسان أكثر تطوراً من مخ قردة المكاك، بل كان ضرورياً البحث عن الخلايا المرآة في مخ الإنسان مباشرة قبل الإقرار بوجودها. وكانت العقبة الكبرى في هذا صعوبة إخضاع الإنسان لتقنية التسجيل من داخل خلايا المخ. ولذلك استخدم العلماء وسائل أخرى أهمها التقنية المعروفة باسم التصوير الوظيفي بالرنين المغناطيسي Functional Magnetic Resonance Imaging أو ما يسمى اختصاراً FMRI، وهي تقنية تتيح رصد نشاط المخ وتصوير ما يحدث في أي ركن فيه، دون حاجة إلى ثَقب الجمجمة أو غرس أقطاب. ولم يمض وقت طويل حتى تمكن العلماء من تصوير نشاط الخلايا المرآة في دماغ الإنسان، ووجدوا أنها تقع في المنطقة نفسها (F5) من المخ. وسرعان ما توالت الأبحاث والمكتشفات التي تؤكد أهمية هذه الخلايا في التعلم والتعاطف والتواصل الاجتماعي بين البشر.
وفي عامي 2001 و2002م اكتشف العلماء أن هناك نوعاً من الخلايا المرآة لا يحتاج تنشيطه إلى أداء حركة أو ملاحظتها، بل يكفي سماع الصوت الدال على حركة ما، فسماع صوت ارتشاف مشروب ساخن مثلاً يثير الخلايا المرآة الخاصة بالشراب. وقد سميت هذه الخلايا باسم الخلايا المرآة السمعية البصرية audio-visual mirror neurons.
وفي عام 2003م الذي صادف أن تسلَّم فيه العالِمان اللذان لهما فضل ابتكار تقنية FMRI وتطويرها جائزة نوبل، رَصَد أكثر من فريق علماء طائفة أخرى من الخلايا المرآة تقدح بالنشاط فقط عندما يتكلم الإنسان أو عندما يراقب شخصاً يتكلم. ووجد أيضاً أن رؤية حركة الشفاه وحدها دون صوت مسموع تكفي لبث النشاط في تلك الخلايا. والمهم في هذا الأمر أن هذه الخلايا تقع في المنطقة المعروفة باسم منطقة بروكا في المخ، وهي منطقة اتخذت اسمها من الطبيب الفرنسي بيير بروكا الذي اكتشف أن عطب هذه المنطقة يؤدي إلى فقدان القدرة على الكلام. وكان الاستنتاج الحتم أن هذه الطائفة من الخلايا المرآة هي المسؤولة عن الكلام والتواصل، ومن هنا أُطلِق عليها اسم الخلايا المرآة الخاصة بالتواصل communicative mirror neurons.
الثقافة والشعور في الخلايا
وهكذا عرف العلماء الدور الحاسم الذي تلعبه الخلايا المرآة في انتقال الثقافة البشرية، فهي الخلايا التي تمكننا من تعلم اللغة وفهم الإيماء. فبالإضافة إلى ما تساعدنا تلك الخلايا على تعلمه في المدارس من قواعد النحو والبلاغة والإنشاء وما إلى ذلك، تتكون حصيلتنا اللغوية الأساسية، كما بين العلماء أيضاً بالمحاكاة، عندما كنا صغاراً نتابع آباءنا ونقلد أصواتهم وتحرك شفاههم، ونحاول ربط تلك الحركات والأصوات بمدلولاتها. يمكن القول إذن إن الخلايا المرآة هي المسؤول الأساس عن تعلم لغة الأبوين والانطباع بعادات المجتمع وإدراك الفرق بين هوية المرء الثقافية وهوية الآخرين. ليست الثقافة إذن منفصلةً عن البيولوجيا، فلولا الخلايا المرآة ما أمكن للبشر اقتناص الثقافة أو نقلها من جيل إلى جيل.
وفي دراستين حديثتين أيضاً وُضعتا في العام 2004م ثبت أن وخز الإنسان بإبرة مؤلمة يثير الخلايا المرآة في دماغه على نحو لا يختلف عما يحدث إذا شاهد شخصاً آخر يتعرض للوخز، وأن شعور المرء مثلاً بالتقزز من شيء ما ومشاهدته لشخص آخر تبدو على محياه علامات التقزز، يكونان مصحوبين بالنمط نفسه من النشاط في الخلايا المرآة.
وسرعان ما ثبت من دراسة أحدث أن معظم العواطف الاجتماعية كالشعور بالذنب أو الخجل أو الكبرياء وغيرها، كلها مبنية على جهاز مرآة بشري متفرد يوجد في منطقة من المخ تسمى الجزيرة insula، ووجد أن خلايا هذه الجزيرة تسجل الألم الاجتماعي للرفض، عندما يراقب صاحبها يداً تمتد للمصافحة ويداً أخرى تتعمد العزوف عن مصافحتها مثلاً، وتبين كذلك أن القراءة عن الآخرين أو حتى مجرد التفكير فيهم، يؤثر في نشاط الخلايا المرآة تماماً مثل الملاحظة أو السمع المباشر.
استدل العلماء من ذلك على أننا عندما نشاهد الآخرين أو نسمعهم، أو حتى نقرأ عنهم، فإن دور الخلايا المرآة في مخنا لا يقتصر على رصد أفعالهم، بل يجعلنا أيضاً نشعر بذات شعورهم، ونعيش معهم خبرتهم بحلوها ومرها، سواء أعبَّرنا عن ذلك أم لم نعبر، ومن ثم يمكننا بالتالي قراءة أفكارهم والتنبؤ بتصرفاتهم. ويقول العلماء أيضاً إن قدرتنا على الشعور بالغير تزداد كلما اجتزنا تجاربهم، لأن خبرتنا الذاتية تقوي شبكة الخلايا المرآة لدينا وتجعلنا أسرع إحساساً بغيرنا، وهو ما يعرف علمياً بالتعاطف empathy أو التقمص العاطفي، أي قدرتنا على وضع أنفسنا في موقف من نراهم. فإذا رأيت شخصاً يتلوى من الألم ثم قلت له: أنا أحس بألمك فإنك في حقيقة الأمر لم تنطق بعبارة مجازية، بل وصفت ما يحدث تماماً في دماغك.
والطريف أن الخلايا المرآة في جزيرة المخ عند الإناث أنشط منها عند الذكور، ويفسِّر هذا شيئاً من أسباب تميز المرأة بالرقة وسرعة التعاطف مع الغير. وينبغي ألا يفهم الرجال أن العلم يعطيهم ذريعة بيولوجية للقسوة، فلقد وصف العلماء التقمص العاطفي عند الجنسين على السواء بمصطلح آخر لا تنقصه الشاعرية، ألا وهو التوافق بغير وسيط unmediated resonance، أي انتقال المشاعر دون حاجة إلى وسيط مادي.
لعلنا نفهم الآن لماذا يكون الضحك أو التثاؤب مُعدِياً، وكيف أن ابتهاج المرء يشيع الإحساس بالراحة عند من يخالطونه.
مرض التوحد والخلايا المرآة
بيد أن أبرز نتائج اكتشاف الخلايا المرآة، هو أنه قدم تفسيراً جيداً لأسباب مرض التوحد، ذلك المرض الذي اكتشفه العالم الأمريكي ليو كانر L. Kanner في أربعينيات القرن العشرين، مع اكتشاف طبيب الأطفال النمسوي هانز آسبرجر H. Asperger المرض عينه في الوقت نفسه. وعلى الرغم من أن أحداً من العالمين لم يكن يعلم شيئاً عن اكتشاف الآخر، إلا أن الغريب أن كلاً منهما أطلق على ذلك الخلل في نمو الأطفال الاسم ذاته autism أي التوحد، مع الذات أو الانطواء، لأن أهم أعراض المرض هي الانسحاب من الحياة الاجتماعية والعزوف عن التفاعل مع الآخرين وتجنب النظر المباشر إليهم، وضعف القدرة اللغوية. وغير العلماء أخيراً اسم المرض ليصبح Autism Spectrum Disorders أي اضطراب طيف التوحد، للدلالة على تنوع أشكال التوحد واختلاف أعراضه وإن اشتركت جميعها في سمات أساسية.
حالما اكتُشفت الخلايا المرآة ودورها في التواصل الاجتماعي، أدرك العلماء العلاقة بين عملها وبين مرض التوحد، وسرعان ما اكتُشِف أن الأطفال المتوحدين يعانون فعلاً خللاً أو ضعفاً في نشاط جهاز الخلايا المرآة في أدمغتهم، وأن ذلك الضعف يكون أوضح في الخلايا المرآة الخاصة بالتواصل. لهذا يعجز هؤلاء الأطفال عن تكوين انطباع عن شعور الآخرين بالخوف أو الغضب أو السرور، على الرغم من أنهم يخافون ويغضبون ويُسَرّون. ولقد أعطى هذا الكشف أملاً في علاج بعض أشكال التوحد أو على الأقل تخفيف آثاره، فتبين أن الخلايا المرآة قابلة للتدريب واكتساب الخبرة، إذ تحسن أداء الرياضيين المحترفين كلما استخدموا جهاز الخلايا المرآة لديهم، ربما دون أن يعلموا، وذلك بالدأب على مشاهدة المباريات أو القراءة عن أساليب اللعب. ويأمل العلماء في وضع برامج تدريب لتنشيط الخلايا المرآة عند المصابين بالتوحد، لتمكينهم من التواصل تواصلا أفضل.
إيمو كانت على حق!
ومن الآثار الجانبية الطريفة لاكتشاف الخلايا المرآة أيضاً، أنه أعاد إلى ذاكرة العلماء قصة قديمة وأدى بهم إلى مراجعة موقف متعسف إزاء القردة. ففي العام 1953م لاحظ العلماء أن واحدة من قردة المكاك، كانوا يسمونها إيمو، تلتقط حبة البطاطا وتمضي بها إلى شاطئ قريب فتغسلها قبل أن تأكلها. لم يعرف العلماء إن كانت إيمو تعلمت هذا السلوك صدفة أم بعد تفكير وتدبُّر. لكن المهم أن هذا السلوك سرعان ما انتقل إلى بقية أفراد القطيع. وبعد وقت قصير لوحظ أن إيمو تنقي حبوب القمح من الرمال بوسيلة مبتكرة لا تقل ذكاءً عن طريقتها لغسل البطاطا. كانت إيمو تقبض على حفنة من القمح المختلط بالرمال ثم تقصد إلى الشاطئ وهناك تلقي بالخليط كله إلى الماء وتنتظر برهة ريثما تغوص حبات الرمل سريعاً بسبب كثافتها العالية بينما تغوص حبَّات القمح في بطء، عندئذ تمد يدها لتغرف حبات القمح قبل وصولها إلى القاع. ولم يمض وقت طويل أيضاً حتى كان معظم أفراد القطيع يستخدمون الماء لغربلة القمح مثلما تفعل إيمو.
ومع ذلك ظل معظم العلماء حينذاك على موقفهم
أن قردة المكاك لا تستطيع التعلم من طريق محاكاة
الغير أو تقليدهم، لأن ذلك النوع من التعلم يحتاج في
رأي هؤلاء إلى قدرة عقلية لا تتوافر إلا في مخ
الإنسان، وربما القردة العليا فقط كالشمبانزي على أحسن تقدير.
ولكن بعد نحو أربعين عاماً من رصد إبداع إيمو الموهوبة فوق جزيرة كوشيما اليابانية، اكتشفت الخلايا المرآة في إيطاليا في دماغ واحد من بني جنسها، بل ربما كان من حفدتها، ليعيد إليها الاعتبار وليقنع العلماء بما سبق وأنكروه على قردة المكاك. ربما تكون الخلايا المرآة إذن أحد الفوارق المهمة بين مخ البشر والقردة من ناحية ومخ الحيوانات الدنيا من ناحية أخرى، ويعيدنا هذا إلى بداية المقال، فالحشرات مثلاً تستطيع التعلم بالمحاولة والخطأ، وتستطيع التعلم بالربط، لكنها لا تستطيع التعلم بالمحاكاة أبداً، وهي قطعاً لا تشعر بما يحسه الغير، وإن دماغاً يفتقر إلى هاتين الصفتين لهو دماغ يمكن الاستغناء عنه دون خسران كبير.
بالطبع يظل اكتشاف الخلايا المرآة مجرد خطوة على طريق الألف ميل نحو اكتشاف كيف انبثق العقل من المادة، وكيف يمكن للعقل أن يولد من رحم المادة ثم في الوقت ذاته يؤثر فيها، فبديهي أن الإدراك والتعاطف وقراءة أفكار الغير ليست هي أهم خصائص عقل الإنسان، بل هناك الأخطر والأجل، ألا وهو سيطرة العقل على المادة، تلك السيطرة التي تجعل الإنسان سيد نفسه وتتيح للمرء أن يصوغ حياته بما يتفق مع نظم الأخلاق والتكليف الديني، وأن يلزم مسالك روحية تعاند في الغالب نوازع الجسد وغرائزه.
ربما يبدو الأمر عصياً على الاكتشاف، بيد أن العلم لا يأبه للعوائق، والعلماء يبدون على يقين من أن من سار على الدرب وصل.
اقرأ للخلايا المرآة
الخلايا المرآة وتطور المخ واللغة
يتضمن هذا الكتاب الكلمات التي ألقيت في ندوة مرآة الخلايا العصبية وتطور المخ واللغة التي عُقدت في عام 2000م في ألمانيا. هدفه هو مناقشة وضع المكتشفات العلميه المعاصرة في ما يسمى الخلايا المرآة العصبية والعواقب المحتملة.
بالإضافة إلى ذلك فإن هذا الكتاب, لمؤلفيه مكسيم ستامينوف وفيتوريو غالليسي يقع في 390 صفحة, ويحتوي على خمسة فصول. يستعرض في البداية نظام الخلايا المرآة قديماً والآن, إلى جانب آخر التطورات في دراسة الخلايا المرآة, دور الأجسام في التقليد, نظام المرآة والعمل المشترك, وأخيرأ الخلايا المرآة وبناء النفس.
التقليد والاعتبارات الاجتماعية: التوحد والنمو النموذجي
منذ الطفولة المبكره، لا بد من أن يشمل نمو الأطفال النموذجي تقليد تعابير الوجه والمواقف والإيماءات، والسلوك العاطفي لدى الآخرين. ولكن من أين تأتي هذه المقدرة، وما هي الوظيفة التي تخدمها؟ وما الذي يحدث عندما يعاق العضو المسؤول عن التقليد؟
مؤلفا الكتاب هما سالي روجرز وجوستن ويليامز, وهو في 466 صفحة ويحتوي على 18 فصلاً ويناقش أهم المواضيع المتعلقة بالتقليد والخلايا المرآة بتعمق كبير. يبحث هذا الكتاب دور التقليد في كل من الأطفال ذوي النمو النموذجي والأطفال المتوحدين. ويشمل العناصر العصبية والتطورية في أسس التقليد، وتطوير اللغة والعلاقات، وكيف يظهر العجز عن التقليد عند الأطفال المتوحدين. وقد يساعد فهم أدوات التقليد في توضيح أسباب أكثر المشكلات الاجتماعية ومعوقات الاتصال لدى هؤلاء الأطفال والكبار أيضاً.