لا تزال رواية الحارس في حقل الشوفان للروائي الأمريكي جيروم سالنجر، بعد خمسة عقود ونيف على صدور طبعتها الأولى، تلقى الرواج نفسه الذي صادفته في سنواتها الأولى: ربع مليون نسخة سنوياً. ولمناسبة قيام «دار المدى أخيراً بإعادة نشر الترجمة العربية التي وضعها الروائي الأردني غالب هلسا لهذه الرواية قبل ثلاثين عاماً، يعرض لنا الناقد سعود عبدالعزيز العمر* قراءته لهذا العمل الأدبي المميَّز، وما سيق تجاهه من اتهام وتقدير وتقييم ومنع.
عندما اتجه الشاب جون هينكلي, نحو عضو فرقة البيتلز جون لينون, وأطلق عليه خمس رصاصات من الخلف, كان حينئذ يحمل في يده الثانية نسخة من رواية «الحارس في حقل الشوفان , وعندما خرَّ لينون صريعاً, جلس الشاب, في مسرح الجريمة, يعيد قراءة الرواية في انتظار الشرطة, ولاحقاً أثناء محاكمته, كان يرفع الرواية ويقول: «هذه هي حجّتي . وبعد عام واحد فقط, حاول شاب آخر أن يغتال الرئيس الأمريكي رونالد ريغان، وقد وجد في الغرفة التي كان يسكنها نسخة من رواية «الحارس في حقل الشوفان .
«الحارس في حقل الشوفان عنوان وردي حالم لرواية غاضبة وثائرة على كل الزيف والخداع الذي يختلقه ويعيشه ويتنفسه البشر. وقد صنَّفت مجلة «تايم هذه الرواية واحدة من أهم مئة رواية صدرت بالإنجليزية في القرن الماضي. وعلى الرغم من أنها صدرت في عام 1951م إلا أنها لا تزال, حتى الآن, تبيع كل سنة ما يقارب ربع مليون نسخة حول العالم, وقد تجاوز عدد النسخ المبيعة منها حتى الآن 65 مليون نسخة, بل إنها بعد شهرين فقط من صدورها أعيدت طباعتها ثماني مرات.
تصنَّف هذه الرواية في صنف «الرواية التكوينية (Bildungsroman), أي الرواية التي ينتقل فيها البطل من حالة الضياع والفوضى إلى حالة الاستقرار والنضج.
تبدأ أحداث هذه الرواية في أواخر عام 1950م, حين كان الشاب الصغير هولدن كولفيلد, ذو الستة عشر ربيعاً, يقف فوق تل صغير, في اجرستاون في ولاية بنسلفانيا, كان ذاك قبل إجازة رأس السنة بأيام قليلة, وكان الفصل الدراسي في نهايته, لكنه كان قد تلقى إشعاراً يفيد طرده من المدرسة نظراً لرسوبه في أربع مواد من أصل الخمس التي كان يدرسها.
يروي لنا الشاب الصغير قصة اليومين التاليين بعد تلقيه هذا الخطاب. هذه هي الرواية فقط . مجرد ثمان وأربعين ساعة في حياة مراهق مطرود من المدرسة.
حبكة بسيطة لمسألة معقَّدة
قد تبدو حبكة الرواية أبسط من اللازم, أو قد يبدو أن ليس هناك حبكة على الإطلاق, وهذا صحيح إلى حد ما؛ فقوة هذه الرواية ليست في حبكتها, بل في طريقة سردها وحوارها ومحادثة الذات في داخلها.
والحقيقة أن طريقة تركيب الحوار في هذه الرواية ثورية جداً؛ فعلى الرغم من أن الرواية كلها يرويها هولدن كولفيلد باستخدام ضمير المتكلم، البسيط والمحدود القدرة, أو ما يعرف أدبياً بأسلوب «الشخص الأول , وعلى الرغم من أن الطريقة التي يسرد بها الرواية هي الطريقة التي يتحدث بها معظم المراهقين أيضاً, بكل ما فيها من لعثمة, واضطراب, وسخرية, وتشتت, وبذاءة, وتكرار غير مقصود، إلا أن تأثير هذه الطريقة كان نافذاً وقوياً؛ فالسرد والحوار طبيعيان وعفويان وتلقائيان لدرجة غير مسبوقة, لا يظهر فيها أي افتعال أو تصنُّع, ولن يشعر القارئ, ولو للحظة, أن الروائي حاول أن يوجِّه أياً منها إلى مكان ما, بل إنها كانت تبدو وكأنها أحاديث عادية مبعثرة تكتب نفسها بنفسها, ومع ذلك فهي دقيقة وعميقة ومقصودة. وفي النهاية، نجد أنها لم تقنع القارئ بطريقة تفكير هولدن كولفيلد فحسب, بل جعلته ينظر إلى العالم كله من خلالها. حقيقة أني أجزم أن هذا العمل هو أفضل عمل استخدم أسلوب «ضمير المتكلم في السرد, ومن أفضل الأعمال من ناحية بناء الحوار, في الأدب الحديث.
إلى أية درجة قد تكون حياة البشر فاسدة؟ وإلى أية درجة حياتهم مزيفة؟ وهل بالإمكان تغيير ذلك؟ يقنعك هولدن كولفيلد أن حياة البشر أكثر فساداً وزيفاً وأعصى على التغيير مما تتصور. العالم في نظره مجرد إعلان تجاري مخادع, والناس لا يتعدون كونهم ممثلين رديئين فيه. ممثلون لا يرى فيهم سوى الضحالة والزيف والنفاق, ولا يفلت من رؤيته هذه سوى الأطفال؛ فالأطفال عنده هم الفئة الوحيدة الصادقة والبريئة, والمسألة لا تتجاوز كونها وقتاً وينفد، ليكبر بعدها الأطفال ويصيروا ممثلين رديئين آخرين.
عندما يقدِّم هولدن كولفيلد آراءه هذه, وعندما يصدر هذه الأحكام والتعميمات نجده يكرّ ويفرّ. فتارة تجده ساخطاً, وتارة ساخراً, وتارة بذيئاً, وتارة لا مبالياً. لكنه, في كل الأحوال, يشدّ القارئ, يقنعه, يخدّره, وفي النهاية يسيطر عليه. وعندما تصل الرواية إلى آخر كلمة، يكون القارئ قد صار «حارس حقل شوفان آخر.
اللغة مبتذلة وصادقة
القضية الكبرى التي أثارتها هذه الرواية هي لغتها؛ فالرواية مكتوبة بلهجة سكان نيويورك العامية, وليس هذا فحسب, بل إن بطل الرواية شخص كثير السباب واللعن والشتم. تبدو هذه اللغة طريقة همجية وبذيئة في كتابة الرواية, لكنها, في الحقيقة, طريقة مميزة وواقعية في السرد وفي رسم شخصية بطل الرواية؛ فقد استطاعت هذه اللغة أن تعبِّر عن شحنة الغضب والغل عنده, ومن جهة أخرى, فإن غاية هولدن كولفيلد هي الهروب من الزيف, واللغة المتكلفة الباذخة, بلا شك, هي تزييف كبير. على كل حال, يرى اللغويون هذا العمل كنزاً ثميناً؛ فهو يسجِّل, بشكل دقيق, المفردات, والتعابير التي كانت رائجة بين المراهقين في نيويورك إبان الخمسينيات من القرن الميلادي الماضي.
وعلى الرغم من كل الغايات الأدبية لهذا الاستخدام اللغوي, إلا أن ضريبتها كانت باهظة. فبحسب جمعية المكتبات الأمريكية, احتلت هذه الرواية المركز الثالث عشر في قائمة أكثر الروايات المحظورة في المدارس والمكتبات العامة, بل إنه في عام 1960م فُصل أحد المدرسين في ولاية أوكلاهوما لأنه قرَّر هذه الرواية لطلابه.
أصبح هولدن كولفيلد رمزاً للتحدي والتمرد عند المراهقين. يقول عنه سالنجر -كاتب الرواية- إنه شخصية بسيطة جداً ومعقدة جداً؛ فعلى الرغم من أن هذا الشخص ممتلئ بالسخط, وعلى الرغم من أنه أحياناً يبدو وكأنه يتكلم بصوت عالٍ, إلا أن سخريته وحس دعابته كان هستيرياً, حتى أن من الصعوبة أن تجد صفحة واحدة في هذه الرواية لم يتحصل فيها هولدن كولفيلد على ضحكة عالية من القارئ, وفي الوقت نفسه فإن مشاعر هذا الشخص هشة جداً, وقدرته على الانفعال والتأثر وحساسيته مفرطة للغاية.
تقارن هذه الرواية على الدوام برواية «مغامرة هوكليبري فين للأديب مارك توين؛ فكلتا الروايتان بطلهما شاب صغير, وتستخدمان ضمير المتكلم في السرد, وتتقاربان في الموضوع والحبكة. وبالإضافة إلى ذلك، فإن كلاً من الروايتين ينقل جزءاً من تجربة روائيهما الحقيقية, لكن هولدن كولفيلد يتفوّق على هوكليبري فين راوياً بحكم الطريقة, والمفردات, التي جعله سالنجر يتحدث بها.
كاتب الرواية هو جيروم ديفيد سالنجر, و«الحارس في حقل الشوفان هي روايته الوحيدة, وهي عمله الأشهر. فقد صدرت له عدة قصص قصيرة قبل هذه الرواية, وصدرت له بعدها ثلاث مجموعات قصصية قصيرة, وقصة واحدة. وقد ظهرت شخصية هولدن كولفيلد, وبعض شخصيات هذه الرواية, أول مره, في عام 1945م, في قصة قصيرة اسمها «إنني مجنون , ومره أخرى في عام 1946م, في قصة عنوانها «تمرّد ماديسون الطفيف . وقد شكَّلت هذه وقصص أخرى كتبها سالنجر في فترة الأربعينيات أسس بعض فصول وشخصيات هذه الرواية.
ولد سالنجر, طفلاً ثانياً وأخيراً, في مدينة منهاتن بولاية نيويورك في عام 1919م لأم أيرلندية – اسكوتلنديه ولأب بولندي. وكانت عائلته ميسورة الحال. تخرَّج من أكاديمية عسكرية عام 1936م, وفي العام التالي تعرَّف على فتاة تُدعى أونا أونيل وأحبها, ولكنه صدم كثيراً حينما علم أنها تزوجت الممثل شارلي شابلن, مع فارق السن بينهما. يقول سالنجر في إحدى المقابلات الصحافية إن حياته الشخصية تشبه كثيراً حياة هولدن كولفيلد.
لم يحرِّك سالنجر ساكناً تجاه نجاح روايته الساحق. بل إنه رفض أن تنشر صورته على غلافها. وعلى الرغم من ذلك، تواصل اهتمام وسائل الإعلام به ومطاردتها له, حتى تعمَّد تقليل نشر أعماله, ثم توقف في النهاية عن النشر. بل أصبح يصف النشر بأنه «مقاطعة مزعجة . وتطورت الأمور حتى انكفأ على نفسه, وابتعد عن الناس, وانعزل عن المجتمع تماماً. ولا يزال هذا المؤلف في عزلته حتى الآن, وهو على أبواب التسعينيات, في ولاية نيوهامبشير, حتى أن مجلة «تايم وضعت صورته على غلافها, في أحد أعداد عام 1961م, تحت عنوان «حياة من العزلة .
ازدراء السينما المزيِّفة
في عام 1949م صدر فلم «قلبي الغبي ، الذي اعتمد على قصة سالنجر القصيرة «العم وينقلي في كونكتيكت ، وقد حوِّرت هذه القصة في الفلم كثيراً. وقد كان هذا التحوير سبباً لرفض سالنجر القاطع لأي محاولة لنقل أي عمل آخر له للسينما, على الرغم من تلقيه عدة عروض من مخرجين ومنتجين كبار لتبنِّي أعماله.
وفي عام 2007م صدر فلم عنوانه «الفصل 27 عن حادثة اغتيال جون لينون, وعنوان الفلم يشير إلى رواية «الحارس في حقل الشوفان التي تنتهي عند الفصل 26, وكأن هذا الفلم تتمة للرواية.
وفي عام 2008م صوَّر أحد المخرجين أغرب فلم يمكنك أن تسمع عنه في حياتك, والفلم هو عبارة عن صورة شاشة زرقاء فقط تظهر 75 دقيقة وست ثوانٍ, لا أكثر من ذلك ولا أقل, وقد جعل عنوان هذا الفلم «الحارس في حقل الشوفان .
نلاحظ في معظم أعمال سالنجر ازدراء هوليوود بصفتها منارة للتزييف والخداع. ربما كان رأي سالنجر هذا, رغم تجربته السينمائية الوحيدة, سبباً لرفضه تحويل أعماله أفلاماً سينمائية, وربما يكون هذا الرفض, بل وحتى رأيه نفسه, لا يتعدى كونه ردة فعل بعد زواج الفتاة التي أحبها من الرمز السينمائي شارلي شابلن, لكن بغض النظر عن هذا وذاك, فسالنجر قدَّم في هذه الرواية آراء سينمائية عميقة ورائعة, مع أنها كلها كانت مغلفة بالتهكم والسخرية.
ترجمت هذه الرواية إلى كل اللغات الكبرى في العالم, وترجمها إلى العربية الروائي الأردني غالب هلسا، رحمه الله، منذ أكثر من ثلاثين عاماً, وأعادت «دار المدى نشر العمل في 2007م. المشكلة التي واجهت الأستاذ غالب هي أن الرواية مكتوبة باللهجة العامية, وعلى الرغم من ذلك استطاع أن يقدِّم ترجمة مميزة لها. لكنه لو طعَّم ترجمته ببعض الكلمات العامية, التي قد تكون لها جذور فصيحة, لكانت ترجمته أكثر تأثيراً في القارئ العربي.
«الحارس في حقل الشوفان بصمة أدبية مميزة بين الروايات. رواية جمالها في بساطة طرح أفكارها, وقوتها في قدرتها على إقناع قارئها بهذه الأفكار, وهي درس أدبي خاص في بناء الحوار وخلق الشخصيات واستخدام اللغة في الرواية.
من حوار بطل الرواية مع الآخرين
من الفصل السابع عشر
وعندما يتحدث هولفيلد مع صديقته السابقة سالي, يصارحها بنظرته لهذا العالم:
«هل تشعرين أحياناً بأنك ضقت بكل شيء ولا تستطيعين التحمل أكثر من ذلك؟ أعني هل تشعرين بخوف أن يصبح كل شيء مقيتاً إن لم تفعلي شيئاً ما؟ أعني هل تحبين المدرسة وكل تلك الأشياء؟ .
«إنها مضجرة للغاية .
«أعني, هل تكرهينها؟ أعلم أنها مضجرة للغاية, ولكن ما أعنيه هو هل تكرهينها؟ .
«حسناً, لست أكرهها بالضبط, فعليك دائماً أن .. .
قلت: «حسناً فأنا أكرهها, أكرهها جداً. ليس ذلك فقط بل أكره كل شيء. أكره الحياة في نيويورك وكل شيء. أكره سيارات الأجرة وباصات شارع ماديسون بسائقيها, وصراخهم الذي يأمرني أن أنزل من الباب الخلفي, أكره التعرف على فتيان مزيفين، وأن تصعد وتهبط في المصاعد لمجرد أنك تريد الخروج, أكره الفتيان الذين يقيسون البنطلونات في متجر بروك, والناس الذين دائماً .. .
قالت سالي: «أرجوك لا تكثر من الصياح .
وكان ذلك مضحكاً جداً لأنني لم أكن أصرخ. قلت بصوت هادئ:
«خذي سائقي السيارات مثالاً. معظم الناس مهووسون بالسيارات. يتملكهم القلق إذا خدشت السيارة خدشاً بسيطاً. وهم دائماً يتحدثون عن عدد الأميال التي تقطعها السيارة بالجالون الواحد, ولو اشتروا سيارة جديدة فإنهم يشغلون أنفسهم بالتفكير في استبدالها بسيارة أجدد. وأنا حتى لا أحب السيارات القديمة بل أفضل عليها حصاناً لعيناً, فالحصان, على الأقل, إنساني. على الأقل, فيما يختص بالحصان …
قالت سالي: لا اعرف عما تتحدث. فأنت تقفز من موضوع …
قلت: «تعرفين شيئاً؟ ربما كنت أنت السبب الوحيد لبقائي في نيويورك في هذه اللحظة, أو في أي مكان آخر. لو لم تكوني هنا لكنت في مكان بعيد جداً, في الغابات أو في مكان لعين آخر. أنت السبب الوحيد لبقائي بالفعل.
قالت: «أنت ظريف.
غير أنه كان واضحاً أنها تريدني أن أغير الموضوع. قلت: «عليك أن تدرسي في مدرسة الصبيان. جربي ذلك مرة واحدة. إنها مليئة بالمزيفين, وكل ما تفعلينه هناك هو الدراسة لتنالي قدراً من العلم يجعلك تملكين المهارة الكافية لشراء سيارة كاديلاك لعينة يوماً ما. وعليك خلال ذلك بالتظاهر أنك شديدة الاهتمام إذا انهزم فريق كرة القدم, وكل ما تتحدثين عنه هو الفتيات, الجنس, والجميع يتكتلون في مجموعة قذرة. الفتيان الذين يلعبون البيسبول يشكلون مجموعة. والكاثوليك مجموعة, والمثقفون مجموعة, والذين يلعبون البريدج مجموعة. حتى الفتيان الذين ينتمون إلى نادي كتاب الشهر لهم مجموعة, وإذا حاولت أن تثيري حديثاً ذكياً …
قالت سالي: «اسمع، كثيراً من الأولاد يخرجون من المدرسة بأكثر من هذه الأشياء.
قلت: «إنني أتفق معك! أتفق معك بأن بعضهم يخرجون من المدرسة بأكثر من هذا! أما بالنسبة لي, فهذه هي كل الفائدة التي أخرج بها. أترين؟ ذلك ما كنت أود أن أقوله. هذا ما قصدته بالضبط. إنني لا أخرج بأي شيء من أي شيء.
من الفصل الثاني والعشرين
وفي أحد المشاهد يتحدث هولدن كولفيلد لأخته الصغيرة فيبي وهي مستلقية على سريرها في غرفتها, اكتشفت فيبي أنه طُرد من المدرسة, ولكنه حاول أن يبرِّر ذلك بالقول بأنه غادرها لأنه لا يحبها وسئم منها, ولم يُطرد. فترد عليه أخته بأنه يكره كل شيء لا مدرسته فحسب؛ ثم يجري بينهما هذا الحوار: (السطر الأول تقوله فيبي):
أنت لا تحب أي شيء يحدث.
أصبحت أكثر كآبة عندما قالت ذلك.
«أجل, أحب, أجل, أحب, بالتأكيد أحب. لا تقولي هذا. لماذا تقولين هذا؟.
«لأنك لا تحب. أنت لا تحب أية مدرسة, أنت لا تحب مليون شيء لا تحب …
قلت: «على العكس! أنت في هذا مخطئة, في هذا بالضبط يكمن خطؤك! لماذا تقولين هذا؟.
جعلني قولها كئيباً ومنقبضاً.
قالت: «لأنك لا تحب, اذكر لي اسم شيء واحد تحبه.
قلت: «شيء واحد؟ شيء أحبه؟ حسناً.
كانت المشكلة أني عجزت عن التفكير بقوة. أحياناً يصعب عليك أن تركز تفكيرك.
سألتها: «تعنين أن أذكر شيئاً واحداً أحبه كثيراً؟ .
غير أنها لم ترد. كانت مستلقية على ظهرها رافعة ركبتيها قليلاً على رأس السرير. كانت بعيدة عني آلاف الأميال. قلت: هيا جاوبيني, هل أذكر شيئاً أحبه كثيراً أم شيئاً أميل إليه فقط؟.
«تحبه كثيراً.
قلت: «حسناً.
ولكنني لم أستطع التركيز ….
«هل تعرفين الأغنية التي تقول: إذا أمسك إنسان بآخر يعبر حقل الشوفان؟ أحب أن ….
قالت فيبي: «إنها هكذا: إذا قابل إنسان آخر قادماً عبر حقل الشوفان. إنها قصيدة من تأليف روبرت بينز .
«أعرف أنها قصيدة من تأليف روبرت بينز .
كانت على حق. فالقصيدة تقول: «إذا قابل إنسان آخر قادماً عبر حقل الشوفان . لم أكن أعرف ذلك ساعتها.
قلت: ظننت أنها: إذا أمسك إنسان بآخر. على أي حال, فأنا أصور لنفسي هؤلاء الأطفال يلعبون لعبة ما في حقل الشوفان هذا الكبير. آلاف من الأطفال الصغار ولا أحد غيرهم هناك, لا أحد من الكبار, أعني, عداي أنا. وأنا واقف على حافة هضبة جنونية. ومهمتي الإمساك بكل من يحاول الصعود إلى الهضبة, أعني أن الأطفال ينطلقون راكضين ولا يحاولون أن يتبينوا اتجاههم, فمهمتي أن أتقدم وأمسك بهم. يكون هذا هو عملي طول اليوم. وبهذا أصبح الحارس في حقل الشوفان. أعلم أن هذا شيء جنوني, ولكن هذا هو الشيء الوحيد الذي أحب أن أكونه. وأنا أعلم أن ذلك جنون.