إني امرؤٌ عافي إنائيَ شِركةٌ، وأنت امرؤٌ عافي إنائك واحدُ
أتهزأُ مني أن سَمنتَ، وأن ترى بوجهي شحوب الحقِّ، والحقُّ جاهدُ
أقسم جسمي في جسوم كثيرة، وأحسو قراح الماءِ، والماءُ باردُ
مع رشاقةِ الإيقاعِ وطلاوةِ الحروفِ يصوغُ عروةُ بن الوردِ رؤيةً جماليةً متعاليةً على حاجاتِهِ الغريزية.. رؤية شاعرٍ تدخلُ في اللاشعورِ وتمتشِجُ مع الحلمِ حتى تراه عياناً، ليصبحَ الخيالُ حقيقةً، والحقيقةُ قصيدةً، والقصيدةُ روحا.. وأرواحُ الصعاليكِ متمردةٌ تسمو على موجوداتِهم.. الأرواحُ باقيةٌ والموجوداتُ عابرة.. وهنا عروةُ يبتدئُ بقوْتِهِ يشاركُ به الناس، ويحملُ الحقَ الذي يضني جسدَهُ وما تظهر من قسماتِ الشحوبِ في وجهِهِ.. وجهُهُ شاحبٌ وفي قلبِهِ أغنية ٌتذوبُ في جسدِهِ الناحلِ، فيذوبُ الجسدُ جوداً في حاجاتِ الآخرين.. فمن ذا الذي يفجرُ المعانيَّ بشعرِهِ كي يتوزعَ جسمَهُ في جسومٍ كثيرة؟ إنها أسطورةُ القصيدة.. إنه الشاعرُ الساحر.. وإنَّ من البيانِ لسحرا! لذا لُقبَ شاعرنُا بعروةِ الصعاليك.. والصعاليكُ مُشاعةٌ ممتلكاتهم، فردانيةٌ أرواحهم، مقدسةٌ حقوقهم.. والحقُّ عند عروة، روحٌ تتوهجُ بالحريةِ حياةً أو موتا، يقول:
يقول: الحقُّ مطلبُهُ جميلٌ، وقد طلبوا إليك، فلم يُقيِتوا
فقلتُ له: ألا احيَ، وأنت حُرٌّ، ستشبعُ في حياتِكَ، أو تموتُ
إذا ما فاتني لم استقله حياتي، والمَلائم لا تفوت
فالحقُ إذا فاتكَ فعله لن تستطيعَ ردّه، ولكن الملامةَ ستصيبُك، وتكون ذليلا! هذا الفهم الوردي العاشق لفضاءِ الحريةِ وللناسِ هو ما دعى عبدُ الملكِ بن مروان في مقولتِهِ الشهيرة: “من زعمَ أن حاتماً أسمح الناس، فقد ظلمَ عروةَ!”، وحمله على أن يقولَ: “ما يسرني أن أحداً من العربِ ممن ولدني لم يلدني، إلا عروة بن الورد لقوله إني امرؤٌ عافي إنائيَ شِركةٌ، وأنت امرؤٌ عافي إنائك واحدُ”.. ولا ينتهي الحقُ لدى عروة إلا ويكون الموتُ أفضل:
دعيني أطوفُ في البلادِ، لعلني أفيد غِنىً، فيه لذي الحق محمِلُ
أليس عظيماً أن تُلِمّ ملمَّة، وليس علينا، في الحقوقِ، مُعوَّلُ
فإن نحن لم نَملك دفاعاً بحادثٍ تُلِمُّ به الأيام، فالموتُ أجمل
هذا ما جعلَ قومُ عروة – بني عبس – يأتمونَ بشعرِهِ، رغم نبذهم للصعاليك.. فالشاعرُ هنا نبضُ موسيقيٍ للمشاعر الواعيةِ ولاعبٌ أنيقٌ للمشاعر غير الواعية.. وليس ببعيد عن براعةِ هذا الشاعر شاعرٌ صعلوكيٌ آخر، فاقَ بإحدى قصائدِهِ الآفاقَ العربيةَ، فسُمِّيتْ لاميةُ العرب! التي قيل أن عمرَ بن الخطاب قال: علموا أولادكم لامية العرب فإنها تعلمهم مكارم الأخلاق.”.. إنه الشنفرى الذي تناولَ جمالَ الحقِ كمسألةٍ روحيةٍ وليست جسدية، ليعلنَ ثورةَ الجسدِ والعاطفة، حتى يحيلَ موتَهُ نقيضاً للموتِ الجسديِ ورديفاً لحياةِ الروحِ الحرة:
أديمُ مِطالَ الجوعِ حتى أُميتَه وأضربُ عنه الذكرَ صفحاً فأذهلُ
واستَفُّ تُربَ الأرضِ كي لا يرى له عليَّ من الطَّوْلِ امرؤٌ متطوِّلُ
ولولا اجتنابُ الذَّامِ لم يبقَ مشربٌ يعاشُ به إلا لديَّ ومأكَلُ
ولكنَّ نفساً حرَّةٌ لا تُقيمُ بي على الضيمِ إلا وريثما أتحوَّلُ
وأطوي على الخمص الحوايا كما انطوتْ خيوطةُ ماريَّ تُغارُ وتُفْتَلُ
وأغدو على القوتِ الزهيدِ كما غدا أذلُّ تهاداهُ التنائفُ أطحلُ
من أين لهذا الشاعرِ أن يديمَ مطالَ الجوعِ حتى يميتَهُ بهذه الطريقةِ الجماليةِ الشرسة؟ وكيف يستفُّ التراب ولديه لو أراد كل تلك المشاربِ والمآكل؟ كيف استطاعَ أنْ يحرثَ في مشاعرِهِ كي يزرعَ في أرضِ يبابِهِ هذا التحديَ العاقلَ المجنون؟ إنها الرؤيا التي ترى ما لا يُرى! رؤيا في اللاشعورِ، فالشعورُ يموتُ مع نهايات الجوع.. واللاشعورُ يحيى في ضنكِ حدودِ النهايات.. واللاوعيُ هو الوعيُ الطبيعيُ الحاد.. الوعيُ النقيُّ بلا نظامٍ مصطنع.. إنها العلاقةُ الروحيةُ مع الأشياء، فليست العلاقةُ مع الحاجاتِ الجسديةِ مجردَ إشباعِها في صراعِ البقاء، بل في نبلِها وقدرتِها على التمردِ المتسامي.. وليس مدارُ الصراعِ هنا هو العقلانيةَ بل الوجدانية عبر شموخِها المطلقِ الذي يتحدى الجوع، بل ويتحدى الموت.. وإذا كان عروةُ يتحررُ من سطوةِ الرغبةِ بالتملُّكِ عبرَ المشاركة، فإن الشنفرى يُقدمُ الآخرينَ على الزاد رغم أنه أبسلهم في الحصولِ عليه:
وكلٌّ أبيٌّ باسلٌ، غير أنني إذا عرضتْ أولى الطرائدِ أبسلُ
وإن مُدَّتْ الأيدي إلى الزادِ لم أكن بأعجلِهم إذ أجشعُ القومِ أعجلُ
وما ذاك إلا بسطةٌ عن تفضلٍ عليهم وكان الأفضلَ المتفضلُ
هنا يصلُ الشنفرى إلى المبررِ الأخلاقي: “بسطة عن تفضل”.. سعةُ النفسِ سماحةً وترفعا.. فيغدو الحسُّ الجسديُّ شكلاً لجوهر نفسٍ حرَّةٍ، ويغدو الموتُ الجسديُّ غير ذي بال عنده، فهو القائلُ:
إذا ما أتتني ميتتي لم أُبالِها ولم تذرِ خالاتي الدموعِ وعمتي
وإني لحلوٌ إن أريدتْ حلاوتي ومرٌّ إذا نفس العزوفِ استمرتِ
وأبيّ لما آبي سريعٌ مباءتي إلى كل نفسٍ تنتحي في مَسرَّتي
حتى عندما أسرَهُ أعداؤه وطلبوا منه أن يختارَ قبرَهُ، قال لهم بكل إباءٍ: ارموني للضبع.. أم عامر:
لا تقبروني إن قبري مُحرَّمٌ عليكم ولكن ابشري أمَّ عامرِ
إذا احتملوا رأسي وفي الرأسِ أكثري وغودرَ عند الملتقى ثَمّ سائري
هناك لا أرجو حياة تسُرني سجين الليالي مُبْسلاً بالحرائر
في الرأسِ أكثري؟ نعم، لمن يرى بذهنِهِ لا بعينيهِ فقط؛ وإن كان الشنفرى لا يعدم رؤية الجمالِ الحسيِّ مع الروحي في محبوبته:
بعينيَّ ما أمسَتْ فباتَتْ فأصبحتْ فقضَتْ أموراً فاستقلَّتْ فولَتِ
فدقَّتْ وجلَّتْ واسبكرَّتْ وأُكمِلتْ فلو جُن إنسانٌ من الحُسْنِ جنَّتِ
اكتمالُ الحسنِ ضربٌ من المستحيل، والمستحيل في الشعر متعة، واكتمالُ الشعرِ ضربٌ من العبث، فلن تكتمل رحلة الشعراء حتى تتحد القصيدة بالميلاد، والميلاد بداية.. والقصيدة هي البداية وهي النهاية..