جمعت الشعر إلى الإخراج السينمائي بحيث لا يكتمل يومها إلا إذا كان فيه حيز لهذا وآخر لذاك على حد قولها. إنها نجوم الغانم التي اختارتها بعض المجلات كواحدة من أبرز الشاعرات الإماراتيات وأكثرهن تأثيراً في مجال الشعر والكتابة في منطقة الخليج. ولمناسبة صدور مجموعتها الشعرية الجديدة «أسقط في نفسي»، يرسم لنا حسين الجفال صورة بانورامية لعالم نجوم الغانم استقاه من حوار أجراه معها، عالم يتأرجح باستمرار وبشغف بين كتابة الشعر وصناعة السينما، ولا يخلو من متابعة للشأن الثقافي العام في الخليج بما فيه من شؤون وهموم.
بدأت نجوم الغانم شاعرة تفعيلة، ثم فتنتها قصيدة النثر. وفي تعليقها على اختيارها من قبل مجلة «لوفيسيال الشرق الأوسط» شخصية العام 2010م الأكثر تأثيراً في مجال الشعر والكتابة تقول: «أشعرتني تلك المفاجأة بأن هناك من يرى عملي من منظور يخرج عن سياق ما يحدث بشكل يومي وسريع وصاخب. الشعر بالذات بات من الفنون التي قليلاً ما يُلتفت إليها، وخاصة نوع الشعر الذي نكتبه. وتقديره يعني الالتفات إليه وقراءته من زاوية تتطلب الموضوعية والتقييم العادل. هذا بحد ذاته كان تكريماً ثميناً لكتابتي وهو أمر مفرح بلا شك».
الانكسار.. تيمة لمجموعة فقط
إن من يقرأ المجموعة الأخيرة من قصائد نجوم الغانم «أسقط في نفسي» الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، لا بد وأن يلاحظ الحضور القوي لمفردة الانكسار (بالمفرد وبالجمع).
«نعبر مثل ظلال على حجر الطريق
تتعقبنا انكساراتنا الشقية
ويفرقنا سيف الفصول
نمضي
نقبض على التنهيدة الهاربة
من صدورنا كي لا ينتبه إليها أحد».
ولكن الشاعرة التي تقر بالحضور القوي لهذه التيمة في مجموعتها الجديدة، تؤكد أنها مرحلية فقط. فلكل مجموعة شعرية أجواءها وظروفها الخاصة بالفترة التي تكتب فيها. وأحياناً، تكون الظروف مشحونة بشيء من الألم واليأس والسوداوية. و«كتابة هذا الديوان بالذات ترافقت مع ظروف كهذه. لقد كان هناك الكثير من الآلام على الصعيدين النفسي والجسدي طوال المرحلة التي أنجز فيها هذا الكتاب. ولهذا فهو صغير، ويحتوي فقط على القصائد التي كتبتها وأنا أعبر تلك التجربة وأعايش تداعياتها».
تجربة أكبر من الترجمة
والواقع أن الأعمال الشعرية لنجوم الغانم هي من التلون والتنوع ما يجعلها عصية على الحصر في تيمة أو اثنتين أو حتى أكثر. فالشاعرة لم تفوِّت مناسبة تفتح أمامها آفاقاً جديدة في عالم الشعر، إلا وأقدمت على الاستفادة منها. ومن أهم التجارب التي تركت بصماتها على نفس الشاعرة، كانت هناك تجربة اطلاعها عن كثب على الشعر الألماني المعاصر من خلال ورشة ترجمة وفق منهج مميز، بدأت في برلين ومن ثم انتقلت في مرحلتها الثانية إلى البحرين والإمارات والكويت.
خلال هذه الورشة، تروي الغانم، كان كل شاعرين (عربي وألماني) يعملان على ترجمة نصوص بعضهما البعض بمساعدة مترجم يتقن اللغتين العربية والألمانية. وهذا المنهج يساعد كل شاعر على الدخول بعمق أكبر في فضاء الشاعر الآخر وفهم عوالمه بشكل أدق. ولذا كان التجمع في برلين بمثابة ورشة مفتوحة للشعر، تتيح الاطلاع على تجارب شعراء وشاعرات ينتمون إلى خلفيات ثقافية وبيئية وعمرية مختلفة. وهذا ما يسمح برؤية العديد من الأساليب الشعرية، ويسهم في إغناء تجربة كل شاعر أو شاعرة مشاركة.
أما في المرحلة الثانية، عندما انتقلت الورشة من برلين إلى الإمارات والكويت والبحرين، فقد أضيف بُعد آخر للمشروع هو البعد الثقافي المتمثل في الكونية، التي عادة ما يتم الحديث عنها نظرياً. ولكن، حين يتم تطبيقها على أرض الواقع يصبح بالإمكان تلمس نتائجها بصورة مادية أيضاً.
وتضيف الغانم: هذا في رأيي ما حدث عندما جاء الشعراء الألمان لمشاركتنا القراءات والنقاشات الشعرية في الخليج. فقد خرجوا من بيئتهم، وتعرفوا إلى جغرافيتنا وعلى ملامح من البيئات التي ننتمي إليها. وهذا ما قرَّب المسافة الفاصلة بينهم وبيننا. إذ إنهم شاهدوا وعايشوا بعض العناصر المكوّنة لأعمالنا الشعرية في منطقتنا الخليجية ذات الطبيعة الخاصة، والتي تترك تأثيرها على نصوصنا كوننا نعيش فيها وننتمي إليها ونتأثر بها».
وترى الغانم أن مثل هذه الورش مفيدة أكثر من تنظيم عشرات المحاضرات والأمسيات. لأن ما يمكن تعلمه عن الثقافات الأخرى وفي فترة زمنية محددة يختصر سنوات طوال من الجهد من ناحية، ومن ناحية ثانية فإنه يبني جسوراً ثقافية واجتماعية وسياسية وربما اقتصادية، رفيعة المستوى. فمن شأن هذه الأعمال أن تذلل الكثير من الفروقات وتضيق المسافات بين الثقافات، لأنها تمد جسوراً حقيقية ومتينة للحوار بين أفرادها.
«نترك خطواتنا على الرمل
على الثلج
على الماء
يا إلهي كيف أننا لم ننتبه أبداً
في أي الاتجاهات كنا نترك أقدامنا».
والمتتبعون لمسيرة نجوم الغانم يعرفون جيداً أن أقدامها كانت ولا تزال تأخذها جيئة وذهاباً بين الشعر والسينما.
«لا سقف للأحلام ولا للأفكار. وطالما هناك عزيمة وشغف حي بالاستمرار في العمل الإبداعي، فإن الكتابة ستبقى حاضرة ومعطاءة، وستكون السينما هي الحافز الدائم للذهاب إليها محملين بمشاريع أفلام جديدة ومختلفة»، تقول الغانم.
السينما الشاقة!
«الحديقة»، «آيس كريم»، «ما بين ضفتين»، «المريد»، «الحمامة».. عناوين أفلام أخرجتها نجوم الغانم في منطقتها السينمائية الملاصقة لمنطقتها الشعرية. ومع ذلك، فهي ترسم بعض أوجه الاختلاف التي تميز العمل في صناعة الأفلام، فتراه «مليئاً بالإثارة والتشويق والتحقق، حيث يمكن لمس النتائج على الفور وقياس مدى الأثر الذي تتركه في الناس مباشرة».
تصف العمل في الإخراج السينمائي بالشاق، وأنه يتطلب أحياناً العمل اثنتي عشرة ساعة يومياً، إلا أنها تجد نفسها في اليوم التالي تستيقظ بالحماس نفسه والشغف نفسه للذهاب إلى موقع التصوير أو استديو المونتاج أو الصوت ومواصلة العمل، وكأنها روح جديدة مليئة بالحيوية. فالعمل خلف الكاميرا يمنحها الإحساس بالثبات والثقة بالنفس، رغم ما يمكن أن يحمله الدخول في مشاريع جديدة من قلق. ولكن ما أن تدور رحى الإنتاج، حتى تجد نفسها في مكانها الطبيعي، المكان الذي تعرفه جيداً وتجيد لغته، وتستطيع التعاطي مع ظروفه وبيئته ومفاجآته أيضاً.
من بين أفلامها العديدة، حظي فلم «الحمامة» بنجاح لافت للنظر أكثر من غيره، وعلى أثر مشاهدته لهذا الفلم، أطلق عليها الناقد بشار إبراهيم لقب «شاعرة السينما الإماراتية».
تعلل الغانم نجاح هذا الفلم بعوامل عديدة، منها أن حمامة الطنيجي استطاعت كإنسانة أن تدخل قلب كل مشاهد بسبب بساطتها وعفويتها وحيويتها وطريقة تقديمها لنفسها وحديثها عن حياتها وعملها والمصاعب التي مرَّت بها، بأسلوب يجمع المرح إلى الحيوية وتلون التعبير وفق طبيعة المشاعر التي تطغى على كل لحظة على حدة. أما من ناحية الصورة، فتؤكد المخرجة أنها سعت جهدها لأن تكون على مستوى جمالي وفني يليق بالموضوع من الناحية البصرية، وبلغة سينمائية تتناسب مع القصة. وقد اعترفت ردود الأفعال من الجمهور والنقاد على حد سواء بحرفيتها العالية في هذا المجال.
الجوائز سلاح ذو حدين
نالت نجوم الغانم جوائز عديدة على أعمالها السينمائية خلال السنوات الثلاث الأخيرة، وهي ترى فيها حوافز على تحسين الأداء، فهذا هو دورها الطبيعي. وتتطلع بالإيجابية نفسها إلى كثرة الجوائز التي صارت تمنح في دول الخليج عامة ودولة الإمارات بشكل خاص، فترى أنها استثمار يصب في تحسين المخرجات الثقافية والأدبية والفنية على اختلافها وتنوعها، ولربما أسهمت أيضاً في الإنتاج المنظم إذ أصبح هناك مردود معنوي ومادي للجهد الذي يبذله المبدع. ولكن المخرجة الإماراتية تبدي تحفظها تجاه الدور الذي تلعبه الجوائز التلفزيونية المختلفة عن الجوائز الأخرى ذات البعد الأدبي والثقافي المحدد والموجه. «فمساهمة الجمهور العام في منح الجوائز من خلال التصويت بواسطة الرسائل الصوتية قد تخضع لعوامل ومؤثرات غير فنية أو غير ثقافية بتاتاً مثل العصبيات للانتماءات الضيقة، فتعزز القبلية والعشائرية والفروقات على حساب الإبداع الثقافي والفني. وهذا ما يجب أن ننتبه إليه ونتلافاه. فانعكاسات مثل ذلك على المجتمع يمكنها أن تكون مدمرة على المدى الطويل».
الدراما الخليجية.. للتفاؤل شروط
وتقودنا ملاحظة الغانم حول إيجابيات وسلبيات الجوائز على الإبداع الثقافي إلى استطلاع رؤيتها لواقع حال الدراما الخليجية، فتقول إن هذه الدراما تواجه تحديات كبيرة جداً اليوم، تتمثل بالدرجة الأولى في مواجهة المسلسلات المدبلجة التي أصبحت تلتهم ساعات بث القنوات التلفزيونية من المحيط إلى الخليج.
وتجزم الغانم بصراحة ووضوح بأنه إن لم تبدأ المسلسلات الخليجية بتحسين جودتها الفنية ولغتها الجمالية، وإذا لم يبدأ المضمون في مناقشة قضايا خلافية وحساسة على الصعيد الاجتماعي، فإنها ستبقى تتراجع أمام التيار الهائل من الأعمال الآتية من تركيا والهند والمكسيك وكوريا وغيرها، والتي تناقش قضايا في غاية السخونة، وذلك على القنوات نفسها التي تفرض رقابة أقسى على المسلسلات الخليجية مما تفعله على المسلسلات المستوردة.
وحول التحولات الكبرى التي تشهدها بعض البلدان العربية وما إذا كانت ستسهم في تشكيل نص إبداعي جديد على المستوى العربي، ترى الغانم أن كل ثورة تسهم في خلق أجواء ثقافية وفنية جديدة نابعة من الشكل الذي يقترحه التحول الاجتماعي، كالتعبير بشكل مباشر أكثر على سبيل المثال لأن سقف الحرية يرتفع خلال الثورات. وهذا ما يشجِّع الكثيرين على المساهمة في التعبير عن مشاعرهم وأفكارهم بحرية كبيرة وبمباشرة عالية، ولا بأس في ذلك طالما أن المرحلة تسمح بكل هذا.
ثم تتساءل الغانم: «ولكن، أين هي الأعمال المبدعة بحق في كل ما ينتج اليوم؟ أظن أن هناك أعمالاً لم تنتج بعد، وستكون هي الأهم حيث تظهر بعد أن تهدأ الثورات، وسنرى أسماء ربما لم يُسمع بها في كل تلك البقاع التي شهدت الثورات، وربما تأتي من الأطراف التي كانت تراقب من بعيد.
شعر: نجوم الغانم
قبلَ أنْ تأْتيَ الأمْكِنة
إلى «باد غريسباخ»،
ومَلائكتِها، وقِدّيسيها، وأَرواحِها
I
نترُكُ خُطُواتِنا على الرَّملِ،
على الثّلجِ،
على الماءِ….
يا إلهيْ كيفَ أنّنا لم نَنتبِهْ أبداً
في أيِّ الاتِّجاهاتِ كُنّا نترُكُ أقدامَنا.
****
II
سالَ ماءُ النّهْرِ على خُطُواتِنا المَجروحةِ
آلمَها دُونَ أنْ يَدريَ
آلمَنا أكثرَ
لأنّهُ لم يكترِثْ بها
ولم ينتبه أنها
الأثرُ الوحيدُ لنا
كيْ نعودَ إلى
بيوتِنا.
**
السَّحابةُ تقدّمَتْ أمامَ الطّائِرِ
كان يُحلِّقُ خلفَها كأنّها أُمُّهُ
وكُنّا خلفَهُ
نظُنُّهُ طِفْلَنا
نتْبعُهُ
كأنّهُ مُخَلِّصُنا
يسقُطُ المطرُ
ونسقُطُ معَهُ كالحُزنِ.
****
III
غرَّرَ بِنا المَساءُ كُلِّنا
هدَمتْنا الأحلامُ ونحنُ
ما زلْنا في أوّلِ اللّيلِ
خلفَهُ نسيرُ
خلفَ كُلِّ ذلكَ اللّيلِ.
****
في ساحةِ «باد غريسباخ»
هزَّ الصّبيُّ بِصَرَخاتِهِ الصّمْتَ
فيما يَقذِفُ الأشْجارَ بالأحْجارِ
طلَبَ مِنَ الرِّيحِ أنْ تَخرَسَ
مِنَ الثّلْجِ أنْ يذهبَ إلى الجَحيمِ
كانَتْ أُمُّهُ في إِحدى الزّوايا
تَنجرِفُ في ثُمالَتِها
وتُتمْتِمُ بينَ دُخانِ سجائِرِها:
لا تكُنْ سخيفاً يا «باتريك»
ثمّ فتحتْ كيساً وَضعَهُ أحدُ المارّةِ بجانِبِها
أكلَتْ بلا ضَوضاءَ
ثمّ قامَتْ تتّكِئُ على الهواءِ الباردِ
مشى الصّبيُّ إلى تِمثالِ القِدّيسِ «فرانسيس»
خرَّ على رُكبتَيْهِ مُتعَباً وباكِياً
قال للتِّمثالِ البْرونزيِّ:
«هل تطلُبُ مِنَ اللهِ أنْ يَمنحني
مِعطَفاً وحِذاءً !»
ونَهضَ يَسيرُ في إِثْرِ أُمّهِ.
لا أحدَ رأى «باتريك» ولا أمَّهُ…
بعدَ ذلكَ المساءِ
اِخْتفتْ خُطُواتُهما في الحِكايةِ
قيل: إنّ «باد غريسباخ» لا تُؤْوي الفُقراءَ.
وقيل: إنّ اللهَ أرسلَ بعدَها
ثلْجاً كثيراً.
******
كَرزُ الأيامِ الأسْودُ
وَالآنَ أَيُمكِنُنيْ أنْ أَذهبَ ؟
أَحمِلُ سلـَّتيْ منْ
كَرَزِ الأيامِ الأَسْودِ
وتُوتِ الفجرِ الدَّاكِنِ ؟
أَأَذْهبُ بِهذه الباقةِ مِنَ الآلامِ التي
مَنحـَتْنيْ إيّاها السَنَواتُ مُدَّعِيةً أنّها
ستُعينُنيْ لأكونَ رُوحاً طَيِّبةً
فلا أَجرَحُ الهواءَ
ولا أَخدِشُ شُعورَ الكائِناتِ؟
هلْ صارتْ أَصابِعيْ خَبيرةً بمَواضِعِها
على الجُدْرانِ حينَ أَسيرُ مُغْمَضةَ العينَينِ
أَيُمْكنُنيْ تَعَلُّمُ فَتْحِ خزائنِ الحِكْمةِ
ومُناداتُكَ مِنَ الغيابِ؟
أوْ الاخْتِفاءُ في وَمْضةِ نجمةِ الرّاعيْ
وَالاحْتِراقُ بِرمادِها؟
وهذا المَساءُ الذي هُناكَ
ألم يَترُكْ شيئاً على الأشجارِ ليْ
هل أضَعتُ حاسّةَ المَعرفةِ
أم سرقوا مِنّيْ مَفاتيحَ الليلِ
أم أنّ شيئاً انْتثرَ في الهَواءِ
قبلَ أنْ أَتَحصَّنَ مِنْ سِحرِهِ
هل بَقِيَتْ خُطُواتيْ أكثرَ
ممّا ينْبغيْ على الرّملِ
فتَأخّرَتِ العاصِفةُ
وأفسدَ الصّباحُ الْجُزءَ المُتبقِّيَ
مِنَ النّوايا؟
ماذا حدَثَ
حينَ غَفَوْتُ قبلَ أنْ أذهبَ
إلى المَرْفأ؟
قبل أنْ أَحمِلَ سلـّتيْ منْ
كَرَزِ الأيّامِ الدّاكِنِ
أينَ وضعَتْنيْ الْمُفْتَرَقاتُ؟
ماذا سقَطَ أيضاً في مُنتصَفِ
المسافةِ غَيرُ كلماتِ القصائِدِ
غيرُ الحُبِّ مِنْ جَوفِ القلبِ
غيرُ النّهارِ مِنَ الليلِ
غيرُكَ أنتَ وأنا؟.
*********