للمدن الصناعية إيجابيات اقتصادية واجتماعية وتنموية، أعمق من مجرد كونها مجرد تجمعات لعدد من المصانع في مكان واحد. فهي أحد مصادر التنوع الاقتصادي، ورافد أساسي لتوفير فرص العمل والحد من البطالة وآثارها السلبية بكل أبعادها، كما أنها بنية تحتية للتكامل الصناعي وتعظيم القيمة المضافة للمواد الخام واكتمال الدورة الصناعية، تلبية لاحتياجات السوق المحلية والحد من الاستيراد. الباحث الاقتصادي عبدالرزاق الشيخ، يستعرض في هذه الدراسة دور المدن الصناعية وتجربة المملكة العربية السعودية في هذا المجال، إضافة الى مستقبلها ودورها في صناعة التنمية وتنويع الاقتصاد.
تعتمد التجمعات الصناعية على وجود بنية تحتية متكاملة لجميع المرافق والخدمات حتى تصبح موطن جذب للاستثمار، مما يساعد على توطين الصناعة وهذا لا يتحقق إلا من خلال وجود مدن صناعية نموذجية تحقق من خلالها أهداف التنمية الاقتصادية الشاملة للبلاد،
إذ إن المدن الصناعية تساعد على نشأة المصانع الوطنية ونموها، كما توجد تكاملاً بين المصانع الوطنية نظراً إلى التقارب فيما بينها، وتسهم في تنويع مصادر الدخل القومي لئلا يبقى معتمداً على مصدر وحيد مثل النفط، إضافة إلى أن وجود مدن صناعية على امتداد الوطن يحد من الهجرة الداخلية من الريف إلى المدينة مما يحقق تنمية متوازنة بين مناطق المملكة ويساعد في الوقت نفسه على تدريب القوى الوطنية العاملة وتأهيلها كما يوفر فرصاً وظيفية للمواطنين الخريجين وتدريبهم في هذه المصانع الوطنية بتعاون مع مؤسسات الدولة المعنية بتدريب الشباب السعودي، وبالتالي إحلال العمالة الوطنية محل العمالة الوافدة والحد منها مما يساعد على استقطاب القوى الوطنية في سوق العمل المحلي وتخفيف الاعتماد على القطاع العام أو الحكومي والحد من رقعة البطالة المقنعة فيه ومعالجتها وتقليل آثارها الاقتصادية والاجتماعية.
آثار خطرة
فالبطالة بتصنيفاتها المختلفة سواء أكانت مقنعة أم سافرة أم دورية واحتكاكية أم هيكلية، لها آثار اقتصادية واجتماعية وسياسية خطيرة، لذلك فإن مواجهتها تُعد من أهم التحديات التي يجب رفعها راهناً ومستقبلاً لمعالجة كل أبعادها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية إذ إن خطر البطالة يشكِّل تهديداً للاستقرارين السياسي والاجتماعي من خلال توفيره أرضاً خصبة لنمو التطرف والعنف.
فالدول الخليجية اعتمدت منذ بداية الجهود الإنمائية، على استقدام العمالة العربية والأجنبية من الخارج ومن عشرات الجنسيات، من أجل تلبية الطلب على القوة العاملة اللازمة لتنفيذ برامج التنمية الاجتماعية والاقتصادية، حتى الوافدين وقوة عملهم من أبرز الخصائص المميزة للمجتمع السكاني لهذه الدول. وتشير القراءة السريعة للمجالات التي يعمل فيها المواطنون الخليجيون، إلى تركيزهم الواضح على القطاع الحكومي خاصة القطاعات الإدارية والقيادية والكتابية، بينما تتركز العمالة الوافدة في القطاع الخاص لا سيما في مجالات المبيعات والخدمات.
كما نلاحظ أن قطاع الخدمات يحتل الصدارة لأهميته النسبية، إذ أدّى تركيز العمالة الوطنية في القطاع الحكومي، إلى زيادة نسبة البطالة المقنعة. وإذا كانت العمالة الوافدة أسهمت في توسيع قاعدة الإنتاج وتخفيض تكاليفه ومعالجة القصور في قوة العمل المحلية والتخفيف من الاتجاهات الانكماشية بسبب تسارع معدلات النمو في الإنفاق على الأجور والمرتبات وتحفيز الطلب الفعال من خلال زيادة الإنفاق الاستهلاكي خصوصاً في مجال الإسكان، فإن التحويلات المتزايدة للعمالة الوافدة إلى بلدانها الأصلية، تجعل أثر هؤلاء الوافدين على السوق المحلية يقل بدرجة ملحوظة عما تشير إليه دخولهم المطلقة، كما تؤثر سلبياً على موازين مدفوعات الدول الخليجية.
وفي الوقت نفسه تركت الأعمال التي تتطلب جهداً أكبر للعمالة الوافدة في القطاع الخاص حيث الأجور أقل بكثير وساعات العمل أطول. وقد أدّى ذلك التوجه إضافة إلى أسباب أخرى، إلى زيادة البطالة في دول الخليج، ومن ناحية أخرى استمر القطاع الخاص في توفير وظائف تتطلب مهارات متدنية وتمنح أجوراً متدنية لا تستهوي المواطنين وبالتالي استفادت منها العمالة الوافدة بدرجة كبيرة.
خصائص البطالة الخليجية
ويتسم العاطلون من العمل في الدولة الخليجية بخصائص تميزهم عن سواهم، فمن حيث السن تشير الإحصاءات إلى أن أكثر من %75 من العاطلين من العمل هم من الفئة التي تقل أعمارها عن 30 سنة، ومن حيث المكان فهناك تباين مكاني مستمر في نسبة البطالة، وعلى سبيل المثال تبلغ نسبة البطالة في الرياض %9 بينما ترتفع إلى %24 في الجوف.
أما من حيث النوع، فنجد أن البطالة بين الجامعيين تحدث بدرجة أكبر بين النساء أكثر منها بين الرجال. ففي المملكة العربية السعودية ووفقاً لمسح القوى العاملة لعام 2000م، بلغت نسبة البطالة %23 عند النساء، و%10 عند الرجال. كما بلغت %20 عند النساء و%4 عند الرجال، من حملة المؤهلات فوق الثانوي. كما شهدت الفترة بين عامي 1980 و2002م، زيادة كبيرة في نسبة البطالة في أوساط الذين أكملوا تعليمهم الثانوي، إذ ارتفعت في المملكة العربية السعودية من %8 عام 1980 إلى %27 عام 2002م. وارتفعت نسبة البطالة في أوساط الجامعيين من 3 إلى %8.
تطور المدن الصناعية
كانت النواة الأولى للمدن الصناعية في المملكة العربية السعودية، عبر إنشاء ثلاث مدن في كل من الرياض وجدة والدمام بمساحة إجمالية تبلغ 1.4 مليون متر مربع عام 1393هـ، وقد لاقت نجاحاً كبيراً في تشجيع المستثمرين السعوديين على الدخول في مجال الصناعة مما دفع الدولة إلى التوسع في إنشاء المدن الصناعية بدءاً من الخطة الخمسية الثانية للتنمية عام 1395 – 1400هــ والخطط التالية، حتى بلغ عدد المدن الصناعية في نهاية الخطة الخمسية السابعة 1420 – 1425هـ 14 مدينة صناعية بمساحة إجمالية 89.5 مليون متر مربع في كل من الرياض وجدة والدمام ومكة المكرمة والقصيم والأحساء والمدينة المنورة وعسير والجوف وتبوك وحائل ونجران، تضمّ 1800 مصنع منتج تتجاوز استثماراتها 60 مليار ريال ويعمل فيها نحو 152 ألف عامل.
«مدن»
وكذلك أنشئت هيئة المدن الصناعية ومناطق التقنية «مدن» عام 2001م، إلا أن انطلاقتها الحقيقية كانت في عام 2007م بقيادة مديرها العام آنذاك الدكتور توفيق بن فوزان الربيعة، وزير التجارة والصناعة حالياً.
وتتمثل مسؤوليتها في تطوير أراض صناعية متكاملة الخدمات، فعملت على إنشاء مدن صناعية في مختلف مناطق المملكة وتشرف حالياً على 29 مدينة صناعية ما بين قائمة أو تحت التطوير وهي: الرياض الأولى والثانية والثالثة، وجدة الأولى والثانية والثالثة والرابعة، والدمام الأولى والثانية والثالثة، ومكة المكرمة، والقصيم الأولى والثانية، والأحساء، والمدينة المنورة، والخرج، وسدير، وحائل، وتبوك، وعرعر، والجوف، وعسير، وجازان، ونجران، والباحة الأولى والثانية، والزلفي، وشقراء، وحفر الباطن. وهناك مدن تحت التخطيط والتصميم هي: سلوى، ورابغ، والصناعات الحربية.
وتطمح «مدن» خلال السنوات الخمس المقبلة أن يصل عدد المدن الصناعية إلى 40 مدينة بمساحات مطورة لا تقل عن 160 مليون متر مربع.
واللافت أن عدد المدن الصناعية تضاعف بشكل لافت في سنوات قليلة، حيث كان العدد قبل 4 سنوات 14 مدينة فقط لتبلغ حالياً 29 مدينة صناعية قائمة. أما من حيث مساحة الأراضي الصناعية المطورة، فكانت قبل 4 سنوات نحو 35 مليون متر مربع، لتتجاوز حالياً 100 مليون متر مربع أي أكثر من الضعف، وتخطط «مدن» لزيادتها إلى 160 مليون متر مربع في عام 2015م.
وسجل عدد المصانع المنتجة في المملكة نمواً كبيراً في العام الجاري، إذ بلغ 4952 مصنعاً منتجاً، مما ساعد في تحويل المملكة من بلد مستورد إلى بلد يصنع كثيراً من المنتجات وتصديرها. وقدّرت إحصاءات موثقة رأس المال المستثمر في هذه المصانع بنحو 509 بلايين ريال، فيما تجاوز عدد العاملين فيها 617 ألف موظف وعامل.
حجر الزاوية
تحتم الرؤية الاستراتيجية الصناعية الوطنية على الصناعة المحلية، أن تنافس عالمياً، وبالتالي يجب أن تكون المرحلة المقبلة مرحلة الانتقال إلى الثروة المكتسبة التي تعتمد على الإبداع والابتكار. فالاهتمام بتنمية الإبداع والابتكار باعتباره هدفاً من أهداف الاستراتيجية الصناعية الوطنية، يجب أن نؤمن به لكي نستطيع تحقيق الصناعة المستدامة، والخيار الأفضل هو توفير الدولة لأراض صناعية، خصوصاً أن الاستراتيجية الوطنية للصناعة تسعى إلى التوسع في إنشاء المدن الصناعية وانتشارها في المملكة بوصفها عاملاً مهماً سيحقق التنمية المتوازنة.
ولذلك تم تشكيل لجنة توجيهية عليا لإعداد مشروع الاستراتيجية الصناعية الوطنية لاستشراف الرؤية المستقبلية للقطاع الصناعي في المملكة حتى عام 2020م، تحت عنوان «البرنامج المتكامل لاستراتيجيات تعزيز القدرة التنافسية الصناعية وتنويع القاعدة الصناعية في المملكة العربية السعودية»، بالتعاون مع منظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية (يونيدو) وبمشاركة فاعلة ومستمرة من قبل كافة الجهات ذات العلاقة من القطاعين الحكومي والخاص بالمملكة، تحقيقاً للأهداف المنشودة لإعداد وتنفيذ هذه الاستراتيجية باعتبارها مشروعاً وطنياً يتطلب التنسيق التام لكافة الجهود والسياسات والاستراتيجيات لهذه الجهات والتعاون المشترك معها.
وستكون مهام هذه اللجنة، الإشراف العام على إعداد الاستراتيجية الصناعية وتنفيذها وتوجيه سير العمل وآليات التنفيذ في مراحلها المختلفة والتأكد من مواءمة برنامج الاستراتيجية الصناعية للأولويات الوطنية والأهداف التنموية المتعلقة بالقطاع الصناعي وتنسيق الجهود مع خطط التنمية الوطنية.
وفي هذا السياق تم إنشاء مكتب وطني لمشروع الاستراتيجية الصناعية وتعيين كفاءات وطنية متميزة لإدارة هذه الاستراتيجية بالتعاون مع خبراء «يونيدو» وبعض المختصين والخبراء الوطنيين في عدد من المجالات الصناعية وتحت الإشراف والمتابعة المباشرة من قبل وزير التجارة والصناعة.
تخطيط سليم
والخطوات المتسارعة نحو إيجاد تخطيط سليم يدفع باتجاه تنمية القطاع الصناعي، كان لها أثر ملموس في التحرك الصناعي، وبرز ذلك خلال الفترة الماضية إذ كان التحرك الصناعي جيداً على أكثر من مسار، منها: استكمال وإنشاء هياكل مهمة مثل «الهيئة العامة للاستثمار» و«الهيئة السعودية للمدن الصناعية ومناطق التقنية» ونظام الإغراق وفتح مجال التراخيص الصناعية والانتهاء من مشروع المسح الصناعي الشامل وتحقيق معدلات نمو عالية للصادرات السعودية غير النفطية والتوجه نحو الاستفادة من خدمات الحكومة الإلكترونية والتركيز على الجودة والإنتاجية والقدرة التنافسية والتكامل الصناعي.
وشكَّل التوسع في مجال الإنتاج الصناعي أحد عناصر النجاح المهمة الذي حققته جهود التنمية الاقتصادية في المملكة عبر خططها التنموية منذ الخطة الأولى 1970 – 1975م، وحتى الخطة التاسعة الحالية 2010 – 2015م، التي تعتمد على تنويع الاستراتيجية الوطنية لناتج الصناعة وتشجيع البيئة الاقتصادية الوطنية وتحقيق متطلبات المرحلة المستقبلية وإعطاء القطاع الخاص دوراً أكبر في أعمال التطوير والتشغيل وإدارة المرافق والخدمات التي تخدم الصناعة بما يحقق النمو الاقتصادي والصناعي في البلاد وتطويره بأسلوب تنافسي في ظل آلية السوق.
توطين القوى العاملة
وفي هذا السياق يؤدي القطاعان العام والخاص دوراً بارزاً في تطوير الصناعات الوطنية، فالقطاع العام يوفر الدعم المالي من الصناديق الحكومية والأراضي الصناعية وتدريب الكوادر الفنية، فيما يتمثل دور القطاع الخاص في الاستثمار الهادف تقنياً ومالياً وتوطين الأيادي العاملة معتمداً نظرة استثمارية بعيدة المدى تبني استراتيجية الابتكار والتطوير محلياً.
أما «مدن» فتسهم في إيجاد الوظائف عن طريق تشجيع المستثمرين على إنشاء المصانع وإيجاد فرص وظيفية للمواطنين، وبالتالي يتولى القطاع الخاص مهمة التوظيف عبر طرح فرص وظيفية واستقطاب الكفاءات والخبرات التي يحتاج إليها سوق العمل المحلي والخارجي. وتشير الإحصاءات إلى وجود أكثر من 300 ألف موظف وموظفة من مختلف الجنسيات يعملون في المدن الصناعية.
إذن فإن فكرة توطين المصانع في مدن صناعية، تكون بمثابة تجمعات صناعية متكاملة تتوافر فيها كل مقومات الصناعة من خدمات وتجهيزات أساسية وتراعى فيها شروط البيئة ومتطلبات السلامة وإيجاد فرص عمل للمواطنين وتوزيع التنمية على مناطق المملكة بشكل متوازن للحد من الهجرة إلى المناطق الرئيسة هي فكرة استراتيجية مثمرة، لذا تسعى «مدن» إلى تنمية المناطق الأقل نمواً لتحقيق توجه الدولة بالتنمية المتوازنة وتوطين الصناعة وإيجاد فرص عمل للمواطنين في جميع مناطق المملكة، وفي هذا السياق فقد أسست مدناً صناعية جديدة، وتعمل على توفير البنية التحتية الأساسية، كما تسعى إلى تعزيز الحوافز الجاذبة للاستثمارات المحلية والعالمية في القطاع الصناعي اللوجستي والخدمي والتجاري.
وكذلك تسعى إلى الارتقاء بالمدن الصناعية الحالية والجديدة لتكون مدناً صناعية متكاملة الخدمات تتوافر فيها المجمعات السكنية والتجارية والتعليمية وخدمات الاتصالات ذات التقنية العالمية والخدمات الفندقية والبنكية ومراكز التدريب المهنية والمستودعات والمراكز الترفيهية ومباني مصانع نموذجية ومحطات الوقود وخدمات النقل ومعارض بيع منتجات المصانع ومناطق التقنية والأعمال.
..وللنساء مدن صناعية
ولم تغفل «مدن» العنصر النسائي، إذ شرعت في أعمال تخطيط وتطوير أول مدينة صناعية تستهدف العنصر النسائي في المملكة، وذلك من خلال استيعاب الاستثمارات النسائية وتوفير فرص وظيفية في مجالات صناعية متعددة لاستقطاب الأيدي الوطنية العاملة النسائية، مؤكدة أن المرأة السعودية تملك القدرة على دخول غمار كثير من مجالات العمل الصناعي، وتستطيع إثبات كفاءتها بجدارة في العديد من القطاعات الصناعية الخفيفة والنظيفة التي تتناسب مع اهتماماتها وميولها الصناعية. فالمدن الصناعية التي تضم مصانع يملكها نساء ومصانع أخرى خصصت بعض خطوط إنتاجها لنساء.
كما صدر مؤخراً قرار موافقة وزير الشؤون البلدية والقروية الأمير الدكتور منصور بن متعب بن عبدالعزيز على اعتماد موقع مدينة صناعية تعمل فيها نساء بمدينة الهفوف بمحافظة الأحساء وتسليمه لهيئة المدن الصناعية.لتخطيطه وإنشاء البنى التحتية حيث ستتربع على مساحة نصف مليون متر مربع، ويتوقع أن تستقطب هذه المدينة الجديدة استثمارات تتجاوز نصف مليار ريال، بحكم قربها من المدينة الرئيسة، وأن توفر 10 آلاف وظيفة نصفها للنساء.