لا يلحظ المرء تبدل أحوال العالم والحياة اليومية من حوله إلا عندما يستذكر ماضيه وطفولته، أو عندما يتطلع جيل معين إلى الجيل اللاحق به.
ويقال عموماً إن الحاضر مؤلم، وإن المستقبل مصدر قلق، وإن الماضي هو المرحلة الزمنية الوحيدة الخالية من الألم والقلق، ولذا فهو دائماً مثير للحنين. فهل الأمر صحيح؟
الزميل عبّود عطية اختار أن يرحل بنا في هذا الملف إلى الماضي.. إلى مرحلة زمنية تقع في منتصف عمر حضارتنا العربية والإسلامية.. اختار عشوائياً سنة محددة، وأعاد في هذه الصفحات رسم صورة العالم آنذاك بما فيه من قضايا وهموم وفرسان وشعراء وأسوار وقلاع وحياة يومية لم يصلنا منها سوى بعض الخرائب والأطلال وذكريات متفرقة في الكتب.
اضطراب الأحوال وتسلطن الظاهر
صباح يوم الثلاثاء الثامن عشر من ذي القعدة 658هـ (أكتوبر 1260م)، كانت شوارع القاهرة في أبهى حلة بعدما استكملت زينتها استعداداً لاستقبال السلطان المظفر قطز بطل معركة عين جالوت، الذي ردّ خطر المغول عن الديار المصرية وطاردهم حتى ما بعد حلب شمالاً وألحق أول هزيمة بهم. وفجأة، طاف المنادي في الشوارع وهو يصيح “ترحمّوا على الملك المظفر وادعوا لسلطانكم الملك القاهر ركن الدين بيبرس”. فأصاب الناس الذهول والحزن. لأن بشرى الانتصار على المغول جاءت مقرونة باسم الملك المظفر.. فمن هو هذا الملك الجديد؟
لم يعرف الناس ما حصل في قلعة الجبل الليلة الفائتة، فقد وصلتها على عجل كوكبة من الفرسان تضم ستة أمراء هم فارس الدين الأتابك، وبدر الدين بيسري، وبيليك الخازندار، وقلاوون الألفي، وبلبان الرشيدي، وبيبرس البندقداري.
ولم يعرف الناس آنذاك أن القدر يخبئ لهم في تلك الكوكبة من الفرسان اثنين من أعظم سلاطينهم. أولهما بيبرس الذي سارع إلى تثبيت سلطانه بجلوسه على التخت في الإيوان واستدعاء كل من في القلعة ليحلفوا بالولاء له.
وكان من بين الذين حضروا حفل التنصيب المقام على عجل، الوزير زين الدين يعقوب بن الزبير، الذي أشار على بيبرس بتغيير لقبه القاهر، لأن ما من واحد تلقّب به فأفلح، فأبطل بيبرس لقبه وتلقب بـ “الظاهر”. وما عرفه الناس هو أن المنادي عاد بعد الظهر إلى الشوارع ليطلب الدعاء إلى “الملك الظاهر”.
سقنا هذه الواقعة التاريخية للدلالة على ما كان عليه اضطراب الأحوال في ذلك الزمن. اضطراب على كل الصعد، لا يكتفي بترك بصماته على معالم الحياة، بل يحيد بها عن مجراها ويعيد رسمها جملة وتفصيلاً، بدءاً بأسوار القلاع وانتهاء بالنقوش على الدنانير الذهبية، مروراً بالعادات والتقاليد ومعالم الحياة اليومية. وتلافياً للأحداث المثيرة التي يمكن أن تشدنا إلى زخارف وتفاصيل يضيق المجال بها، سنحاول حصر رحلتنا التاريخية هذه قدر الإمكان في العام التالي لموقعة عين جالوت، أي عام 659هـ (1261م).
العالم آنذاك
باستثناء الحجاز الذي كان مستقراً نسبياً آنذاك، كانت خارطة العالم الإسلامي تتبدّل من شهر إلى آخر. فقد كان الفرنجة يحتلون ساحل بلاد الشام بطوله من أنطاكية شمالاً حتى قيسارية وعكَّا جنوباً. وكانت بغداد وحلب قاعاً صفصفاً على أيدي المغول الذين لن تثنيهم هزيمتهم في عين جالوت عن معاودة الكَرّة هذا العام. فدفعت حلب الثمن مرتين إضافيتين: خلال اجتياحها وخلال تراجع المغول المهزومين في موقعة حمص.. وإضافة إلى توالي غارات الإسبان على المدن العربية في الأندلس التي صارت تحت رحمتهم، كانت الأوضاع الداخلية على درجة عالية من الاضطراب.
بويع في الثامن من شهر رجب في تلك السنة أبو القاسم أحمد العباسي بالخلافة في القاهرة، وتلقّب بالمستنصر بالله ليسد بذلك الفراغ في سدّة الخلافة منذ مقتل المستعصم بالله قبل ثلاث سنوات. غير أن الخليفة الجديد سيلقى حتفه لاحقاً في السنة نفسها وعلى أيدي المغول أيضاً.
ومن الأعلام الذين قتلوا في تلك السنة ثلاثة من ملوك الأيوبيين كانوا في مهمة عند هولاكو الذي ما إن بلغه نبأ هزيمة جيشه في حمص حتى أمر بقتلهم جميعاً، وهم: الملك الناصر يوسف الأيوبي صاحب مدينة دمشق “الشرعي”، وأخو الملك الظاهر سيف الدين غازي، والملك الصالح نور الدين اسماعيل صاحب حمص. وتقلّصت بقايا الدولة الأيوبية هذا العام لتقتصر على حمص وحماه. إضافة إلى قلعة الكرك (الأردن). وفي دمشق تمرد الأمير علم الدين سنجر الحلبي وهو من مماليك قطز، وسارع إلى إعلان سلطنته على المدينة، الأمر الذي استدعى من سلطان القاهرة الجديد تجريد حملة لإخراجه منها.
وإذا أضفنا إلى ذلك أن القاهرة كانت قد عرفت خلال السنوات العشر الأخيرة (بعد نجم الدين أيوب)خمسة سلاطين قضوا كلهم قتلاً وهم: توران شاه، شجر الدر، المعز أيبك التركماني، المنصور علي بن أيبك والمظفر قطز، لاكتملت صورة الاضطراب الذي ساد الحياة ككل، واصطبغ به وجدان الناس. ولأن البقاء كان للأقوياء فقط، كان من الطبيعي أن “تتعسكر” معظم معالم الحياة، وأن تتسم بكل معالم الصراع من أجل البقاء.
قلاع وأسوار وناس من كل الأجناس
المدن والقلاع
على طول الجبال الساحلية في بلاد الشام كانت القلاع تحتل القمم، حتى زاد عددها على الثمانين. كانت جديدة ترفرف فوقها رايات مختلفة، منها ما هو باللون الأحمر وعليه صورة “الببر” (يشبه الأسد) شعار بيبرس، ومنها رايات الفرسان الفرنجة من داوية واسبتارية ونورمانديين وغيرهم..
كانت أبواب القلاع لا تقفل إلا في الليل وفي حالات الاستنفار، أما نهاراً، فقد كانت مشرعة، ومن حولها حركة لا تهدأ. فسكان الواحدة منها يعدون بالمئات، وربما تجاوزوا في أوقات المحن الألف أو الألفين. كانت قرى صغيرة لها مستلزمات الحياة اليومية. وعلى فرسانها التفاعل والتعاطي مع القرى والمزارع المجاورة، حتى ولو كانوا من أتباع أعدائهم.
وكانت لكل مدينة قلعتها، إضافة إلى السور الذي يحميها. ففي حال تداعى السور، تبقى القلعة الملاذ الآمن للنخبة أو لمن يستطيع الوصول إليها، خاصة في المدن التي كانت قد نمت وتوسعت خارج الأسوار كما هو حال دمشق وطرابلس.
وأشهر قلاع العالم في ذلك الوقت كان “حصن الأكراد” الذي بناه الفرنجة ولا يزالون فيه، وهو حصن عصى على صلاح الدين الأيوبي، لكنه سيسقط لاحقاً في أيدي بيبرس، وقلعة “المرقب” التي عصت على صلاح الدين وبيبرس، لكنها ستسقط لاحقاً في أيدي المنصور قلاوون. وقلعة حلب التي لم تؤخذ عنوة مرة واحدة في التاريخ، غير أنها سقطت في العام الفائت في أيدي المغول بالحيلة. وقلعة الجبل في القاهرة كانت بعيدة عن أيدي الأعداء، لكنها استمدت أهميتها من كونها مقر السلطان وحاشيته التي تضم إدارة الدولة بأسرها. أما قلعة دمشق فقد كانت في تلك السنة تعاني أضراراً في رؤوس أبراجها، فأمر علم الدين سنجر الحلبي بترميمها وإصلاحها، وانصرف الدمشقيون إلى هذه المهمة وسط الاحتفالات ابتهاجاً بالأمر.
وفي طليعة المشاريع الإعمارية التي بدأها بيبرس تلك السنة كان ترميم القلاع التي خرّبها هولاكو. وهي: بعلبك والصبيبة والصلط وصرخد وعجلون وبصرى وشيزر وحمص وشميميش.
وكانت المدن تؤتى من أبوابها. وبعض الأبواب كان أقرب إلى القلاع الصغيرة، يتعرج في الداخل لمنع الأعداء من اقتحامه بالكبش (وهو عامود خشبي طويل يحمل في طرفه رأس تيس ماعز من المعدن تدك به الأبواب عند اقتحامها). وكانت الأبواب تغلق ليلاً فقط. أما في النهار، فكانت تتحول إلى أسواق أو أماكن عامة تتجمع عندها طائفة معينة من التجار كما هو حال باب أنطاكية، أو طائفة من الحرفيين كما هو حال باب النصر في حلب، أو الباحثين عن اللهو والفساد كما هو حال باب زويلة في القاهرة.
السكان
كان النسيج السكاني لمعظم المدن يتبدل بسرعة ولا يستقر على حال. فانتصار الفرنجة على مدينة أو بلدة كان يعني قتل بعض السكان وتهجير الباقي أو معظمهم. أما انتصار المغول فكان يعني إنزال ما يشبه الإبادة بسكان هذه المدينة، كما هو حال حلب في العام الفائت وهذا العام. فقد تعرض سكانها إلى مذبحتين عملاقتين.. ولا بدّ من تشريع أبواب المدينة أمام سكان جدد. وكان المماليك في معظم الأحيان هم السكان الجدد.
كان يُؤتى بالمماليك بواحدة من طريقتين: إما الأسر خلال المعارك والحروب، وإما الشراء من تجار متخصصين في هذه المهنة.
وفي تلك السنة، وصل إلى مينائي الإسكندرية ودمياط ألفا مملوك. هذا عن طريق البحر ولمينائين مصريين فقط. ولمعرفة مدى تدفق هؤلاء على المدن العربية يجب أن نضيف ما كان يصل إلى القاهرة براً من بلاد النوبة والحبشة، وإلى بلاد الشام براً من آسيا الوسطى وأوروبا الشرقية.
ولأن الغاية الأساسية من استقدام هؤلاء كانت إعدادهم ليصبحوا عسكريين لما تتطلبه الحروب المستمرة من وقود، وأيضاً حماية الدولة وسلطانها من كيد المتآمرين، فإن أسعار المماليك كانت تتفاوت تبعاً لأجناسهم ومدى الحاجة إليهم وبنية الواحد منهم. في هذه السنة، تراوح سعر التتري ما بين 130 و 140 دوكاتو، والجركسي ما بين 110 و 120، أما اليوناني والألباني فحوالي 90، وكان أرخصهم ثمناً الصربي الذي تراوح سعره ما بين 70 و 80 دوكاتو.
غير أن الأسعار لم تكن ثابتة. فالمملوك سيف الدين قلاوون الذي تسلطن في وقت لاحق كان ثمنه ألف دينار، ولقب بسبب ذلك بالألفي. ولاحقاً سيشتري السلطان برسباي مملوكاً يُدعى قايتباي، سيصبح بدوره سلطاناً، بخمسين ديناراً فقط رغم أنه كان جركسي الجنس.
أفضل المماليك من كان في سن الفتوة وقوي البنية، إذ يبدأ تدريبه العسكري فوراً، ويسهل تطويعه وتطبيعه مع نمط الحياة، في واحد من مركزين رئيسين: إما في جزيرة الروضة على النيل (المماليك البحرية)، أو في القلعة (البرجية أو الجراكسة).
أما أسوأ أنواع المماليك فكانوا الذين يؤتى بهم كباراً في السن لقلّة الفتيان، ويدعى هؤلاء “الجلبان”. إذ يصعب تطبيعهم، فيبقون على عاداتهم التي شبّوا عليها في أصقاع الأرض المختلفة يتصرفون مع العامة بأشكال همجية لا رحمة فيها.
وأعلى طبقات المماليك كانت الخاصكية، وهي النخبة منهم التي اشتراها السلطان بنفسه أو انتقاها مما ورثه عن سلفه. فمن هذه الطبقة كان يؤمّر الأمراء، وتدار الدولة ويقاد الجيش.
وإضافة إلى الأتراك والجركس والفرس والتتار وباقي أجناس المماليك، كان الأكراد قد تغلغلوا في المدن العربية وأصبحوا جزءاً ثابتاً في نسيجها على عهد الدولة الأيوبية، وسلاجقة الروم أيضاً، والتجار الأوروبيين، خاصة البنادقة والفلورنسيين.. الأمر الذي يكشف مدى تنوع الأجناس والأقوام التي كانت ترسم معالم الحياة في مدننا آنذاك.
سكنى المدن ومعالم الحياة فيها
الحياة اليومية في المدن
كانت الجندية أجزل المجالات عطاءً، والعسكريون يحتلون قمة الهرم الاجتماعي. كانت هناك رواتب ثابتة، ونفقات خاصة لمناسبات عديدة مثل الخروج إلى القتال أو النصر. ويمكن لنفقة النصر أن تصل إلى مئة دينار لكل جندي من المماليك، عدا ما يستولي عليه خلال الغزو. حتى أن صغار الجند من العرب الذين كانوا يكتفون تقريباً بالطعام والشراب خلال تجريد حملة على مكان معين، كانوا يعودون بثروات صغيرة إذا حالفهم النصر.
وعمل الرجال في البناء الذي كان ناشطاً جداً آنذاك: قصور ومنازل للأمراء الجدد، مساجد، قلاع وترميم أسوار. وكان العاملون في هذا الحقل يتدرجون على السلم الوظيفي من الصبي إلى الحرفي ثم المعلّم. غير أن أوسع مجالات العمل في المدن آنذاك كانت الحرف والصناعات اليدوية وتجارتها. ولكل حرفة وتجارة سوقها شبه الخاص بها، وينتظم الذين يتعاطونها في ما يسمى “طائفة” ذات نظام داخلي وتقاليد تنظم أصول المهنة، وتؤمن المساعدة لمن تتعثر حاله من أبنائها.. مثل طائفة السقائين، والحدادين، والنجارين، والمراوحين (صنّاع المراوح)، والأمشاطيين (صنّاع الأمشاط)، والفاخرانيين (صنّاع الفخار) والحلاقين الذين يمارسون إلى جانب حلاقة الرأس والذقن وظائف أخرى تخرج عن حدود التسمية مثل الختان وثقب الآذان وخلع الأسنان!!.
وكان المحتسب يراقب أداء هؤلاء الحرفيين ويمنعهم من الغش الذي تصل عقوبات بعض أشكاله إلى القتل، وإن كان معظمها يقتصر على التجريس، أي حمله بالمقلوب على ظهر حمار والطواف به في الشوارع والجرس في رقبته يرن باستمرار للفت نظر الناس إليه وإهانته.!
كان الحمار وسيلة التنقل الرئيسة في شوارع المدن. وهي أزقة ضيقة ومتعرجة تعلوها المشربيات الخشبية من الجهتين. أما الخيول فكانت من نصيب المماليك فقط. لا ينال العامة منها سوى السقوط تحت حوافرها عندما يجتاح السوق مملوك أو شلّة مماليك على صهوات جيادهم الراكضة بسرعة وسط الزحام.
ويقطن معظم التجار في دار أو “رباع” (مبنى سكني) يعلو متجرهم، أو على مقربة منه. وكان التاجر يمضي نهاره على مصطبة أمام دكانه يتحادث مع زواره وعابري السبيل، ولا يدخل متجره إلا إذا أتاه أحد الزبائن، ولا يذهب إلى منزله إلا للنوم.
وفي المدن الكبيرة فنادق وخانات لإقامة التجار والغرباء الوافدين من المناطق البعيدة. وأشهر الفنادق الناشطة في القاهرة في هذه الفترة كانت من منشآت العهد الأيوبي ومنها فندق ابن قريش وفندق طرنطاي وفندق القصب وفندق العسل وفندق دار الخضر.. (ومعظمها يضم حوانيت تبيع السلع التي يحملها إليها التجار). ولكن الفنادق والوكالات كانت حكراً على التجار والميسورين. أما الفلاحون والفرسان والعسكريون خارج خدمتهم، فإنهم كانوا يقضون حاجياتهم في المدينة نهاراً، ويخرجون منها ليلاً إلى البراري المجاورة للنوم.
وأكثر المناطق حيوية في المدن كانت في جوار مساجدها الكبيرة. في القاهرة، كان الأمراء وأعيان المدينة يؤمّون مسجد ابن طولون للصلاة، أما الفقراء فكانوا يصلّون في جامع عمرو بن العاص. ويعكس محيط المسجدين الانتماء الطبقي نفسه. وفي دمشق كان جامع بني أمية هو قبلة المصلين من كبار الموظفين والوجهاء.. أما الفقراء فكانوا يصلون في المساجد الأيوبية الصغيرة في حي الصالحية وغيره وفي المدارس والخانقوات. وفي جوار هذا المسجد قامت كل أسواق دمشق وتجمع كل حرفييها.
كانت الخانقاوات من العمائر الدينية المهمة والكثيرة المخصصة لإيواء الصوفيين المنقطعين للعبادة. وقد ارتبطت وظيفة بعض الخانقوات في هذه الفترة ببعض المظاهر الدينية مثل إقامة خطبة الجمعة، ولذ أطلق عليها اسم “الجامع الخانقاه” تمييزاً لها عن المسجد الجامع الذي اقتصرت وظيفته على إقامة الصلاة.
وإضافة إلى الخانقاه كمؤسسة تعليمية دينية، كان هناك ما يشبهها ويدعى “الرباط” الذي يؤوي الصوفية والفقراء من دون أن يكونوا من أتباع أية طريقة، لا بل يمكنهم أن يكونوا أيضاً من صغار العسكريين القدامى الذين ضاقت بهم السبل.
عمل المرأة
تركت الحروب الكثيرة والاضطرابات الأمنية أعداداً كبيرة من العائلات من دون معيل، الأمر الذي دفع المرأة إلى ميدان العمل أكثر من أي وقت مضى.
كانت صناعة الغزل والحياكة والخياطة من أوسع المجالات التي عملت فيها المرأة آنذاك. وأيضاً صناعة الفخار التي وصلنا منها طبق يحمل في قاعه توقيعاً يقول “من عمل خديجة”. ومن المهن النسائية الأخرى كان هناك: “البلاّنة” التي تعمل في تحفيف النساء في الحمامات العامة، و”الماشطة” التي كانت تقوم بتجميل النساء في الحمامات أيضاً، و”الصانعة” التي كانت تمشي في الشوارع وتنادي “الصانعة يا بنات” وقد غرزت في عصابة رأسها الإبر التي تستعملها في وشم أيدي النساء ووجوههن بالحنّاء. و”الخاطبة” التي تدبّر الزيجات وترشد الشبّان أو ذويهم إلى بيوت يمكنهم أن يجدوا فيها العرائس المناسبات.
إضافة إلى ذلك، كانت هناك مهنة “الداية” أو “المولدة” كما هو الحال دائماً وأينما كان. غير أنه كانت لهذه المهنة في ذلك العصر سماتها الخاصة. فقد كانت الداية تحضر إلى البيت الذي ينتظر مولوداً قبل يومين أو ثلاثة أيام، حاملة معها الكرسي الخاص بالولادة، وهو ذو شكل فريد وخاص تجلس عليه المرأة أثناء الوضع. وكان الكرسي يغطى بشال أو ملاءة مطرزة خصيصاً للمناسبة، ويزين ببعض الورود أو الزهور ويوضع أمام منزل السيدة الحامل إعلاناً عن قرب وضع المولود. وفي منازل الأثرياء، كانت الأم ترتاح في سريرها بعد الولادة لفترة تتراوح بين ثلاثة وستة أيام. أما الفقيرات فلا ينقلن إلى السرير على الإطلاق، بل يعدن إلى ممارسة أعمالهن العادية في اليوم التالي إذا كانت لا تحتاج إلى مشقة جسدية كبيرة.
الطعام وألوانه
بسبب انهماك المرأة في العمل وأنماط التصاميم الداخلية للبيوت، خاصة الصغيرة، كان سكان المدن، لا سيما أبناء الطبقات الشعبية منهم يأكلون في “المطابخ”.
في القاهرة وحدها فاق عدد المطابخ تلك السنة العشرة آلاف.. منها ما يطبخ ويبيع الطعام لروّاده، ومنها ما يطبخ للمنازل. إذ كانت العائلات تشتري حاجيات الطبخة التي تريدها وترسلها إلى المطبخ، وقرابة الظهر أو عند المساء، يأتيها الطعام جاهزاً على صينية يحملها أحد الصبية.
أفضل أنواع الخبز المرافق للطعام هو “الحواري” المصنوع من الدقيق المنخول جيداً وناصع البياض، وهو بطبيعة الحال ليس من نصيب الفقراء والطبقات الشعبية. فعلى هؤلاء القبول بخبز الذرة، أو بـ “الكماج” الذي يعجن من دون خميرة. أما الخباز الذي يضبط وهو يبيع خبزاً ناقص الوزن فيعاقب بتسمير إحدى أذنيه بعارضة باب مخبزه.
وكانت أسعار المواد الغذائية تختلف من مكان إلى آخر. غير أن الغلاء بلغ ذروته هذه السنة في حلب التي خرّبها المغول وضربتها المجاعة. فبلغ ثمن رطل اللحم سبعة عشر درهماً، ورطل اللبن خمسة عشر درهماً، ورطل السكر خمسين درهماً، وبلغ ثمن الدجاجة خمسة دراهم، والبيضة درهماً ونصف الدرهم، والبصلة نصف درهم، وحزمة البقل درهماً، والتفاحة خمسة دراهم.
في مصر، كان الفول هو الطبق الرئيس في مطابخ الفقراء.. أما في بلاد الشام فكانت المعجنات المقلية بالسمن والزيت هي الأكثر شعبية. ولكن هذا لا ينفي وجود مطابخ متخصصة في طبخ الحبوب واللحوم والطيور على أنواعها. ومن فئات الطباخين هناك النقانقيون (الذين يبيعون النقانق)، والكبوديون (باعة كبدة الأغنام والدجاج) والرواسون (باعة رؤوس الماعز المطبوخة)، والبقلانيون (باعة البقلاء) .. وقد ورد في الأدب الشعبي الذي وصلنا من تلك الفترة حديث عن الكباب، والكبابجي، والاوز المحشي بالأرز.. دون أن ننسى الحلوانيين.
كانت طرابلس أشهر المدن في صناعة الحلوى منذ زمن بعيد. حتى أن الفرنجة الذين احتلوا المدينة أخذوا عن سكانها عادة تناول الحلوى بعد الطعام ونقلوها من هناك إلى أوروبا بأسرها. ومنذ احتلال المدينة فرّ عدد كبير من معلمي صناعة الحلويات، وانتقلوا بفنهم إلى دمشق.
كان عسل النحل هو المادة الأساس في صناعة الحلوى، تغمس فيه المعجنات المختلفة المقلية بالسمن البقري. وكان بعض الحلوانية يغش الحلوى بصناعتها بعصير الليمون بدلاً من عسل النحل، أو قد يستعملون “القند” وهو عسل قصب السكر بدلاً من عسل النحل في المشبك والقاهرية. كما كانوا يغشون الخبايص الناعمة التي يجب أن تصنع من دقيق القمح أو السميد أو دقيق الأرز، بالنشا الزائد عن الحد. وكان المحتسب بالمرصاد لهؤلاء. ومن الحلويات الشعبية هناك الميمونية المصنوعة من السميد المقلي بالسمن البقري والممزوج بالعسل، وتؤكل مع الخبز لتخفيف حلاوتها الجارحة. وفضلاًِ عن تناول الحلوى يومياً، ارتبط استهلاك الفاخر منها بالمناسبات. ففي ختان أولاد أحد القضاة، استطاع أحد الحلوانيين ويدعى ابن الزيبق الحلواني أن يبيع المتفرجين حلوى بمبلغ مئة وعشرين ديناراً.
الأغنياء والفقراء والنقد الذي عرفوه
الطبقات الشعبية
كان الأمراء المماليك يشكلون النخبة الاجتماعية في كل شيء، يليهم الأشراف الذين كانوا ينتظمون في كل مدينة ضمن “نقابة”. وكان لنقيبهم كلمة مسموعة عند السلطان أو نائبه.. ولكن دوره كان يقتصر في معظم الأحيان على نقل الشكاوى من تعسف بعض المماليك وظلمهم للناس. وتوزع التجار على مختلف الطبقات، وعاشوا أنماطاً مختلفة من الحياة. فكبارهم عاشوا كالأمراء في منازل كبيرة مفروشة بأفخر أنواع الأثاث، وانضم صغارهم إلى أدنى الطبقات الشعبية.
من هذه الطبقات الدنيا كان هناك الزعر أو الزعّار. ولكل حي في كل مدينة حصته منهم. وينقسم الزعر إلى قسمين: العيّارون والشطّار. والعيارون هم جماعة من صغار الباعة في الأسواق والفقراء والعاطلين عن العمل. كان لهم نظام كالجند، فعلى كل عشرة منهم عريف وعلى كل عشرة عرفاء نقيب، وعلى كل عشرة نقباء قائد، وعلى كل عشرة قواد أمير. وكانوا يعرفون بـ “جلاجل” من الصوف الأحمر والأصفر يلفّون بها أعناقهم. وكانوا يقاتلون في المعارك شبه عراة، وفي أوساطهم المآزر، وعلى رؤوسهم أكياس من الخوص أسموها الخوذ.
أما الشطّار فهم الجماعات العاملة في اللصوصية والنهب وفرض الخوات. وكان لهم زيهم الخاص، ويئتزرون بمئزر خاص يعرف بـ “إزار الشطّار”. وبالنسبة لأخلاق هؤلاء فقد اتصفوا بالصبر على الشهوات وتحمل الأذى كالضرب وتقطيع الأعضاء والصلب والسمل. كما كانوا أمناء على أسرار أصدقائهم ويحافظون على المحارم ولا يتعرضون للنسوة (بخلاف المماليك) ويقدسون شرف الكلمة ويتجنبون الكذب. وكان يحصل في كثير من الأحيان أن تندلع مواجهات دموية بين الزعر في هذه الحارة وآخرين من حارة أخرى، مثل المعركة التي نشبت بين زعر باب الجابية وزعر الصالحية في دمشق ودوّنها المؤرخون.
ومن الفئات الشعبية واسعة الانتشار كان هناك الحرافيش. وهم من الفقراء المعدمين العاطلين عن العمل، ويعتاشون من صدقات التجار والأثرياء، أو من التسول، وسيزداد لاحقاً عدد هؤلاء لينتظموا في ما يشبه الجيش الشعبي وينصبوا عليهم سلطانهم الخاص، الذي سيكون بدوره في خدمة سلطان مصر والشام.
المال والنقد
تتألف العملة السارية من الدنانير الذهبية والدراهم الفضية والفلوس النحاسية. وكان كل من تسلطن قبل سنوات قد ضرب كميات قليلة من النقود التي تحمل اسمه. ولكن أكثرها تداولاً بين الناس كان لا يزال دينار الملك الكامل الأيوبي الذي سكّ قبل نحو نصف قرن. وهذا “عيب” سيسعى بيبرس إلى معالجته بدءاً من هذا العام بسك دينار جديد يحمل اسمه وشعاره في داري الضرب في القاهرة والإسكندرية إضافة إلى دمشق وحلب.
وإلى جانب دنانير السلطنة، كانت المدن الساحلية تتعامل أيضاً بالدوكاتو البندقي الذي كان يصل إلى أيدي المسلمين إما عن طريق التجار، أو عن طريق تحرير إحدى المستعمرات التي يحتلها الفرنجة. وقد تميّز الدوكاتو بوزنه الثابت ودقة السكة وعياره البندقي المرتفع، فكان موضع ثقة، وسيتحول خلال سنوات قليلة إلى عملة عالمية بسبب عبث المماليك بالدنانير التي كانوا يسكونها من جهة عيار الذهب والوزن.
أما في الحجاز، فقد كان على التجار في جدة ومكة المكرمة والمدينة المنورة التعامل مع سلّة عملات ذهبية وفضية لا حصر لتنوعها في جيوب الحجاج، وتبدأ بالمسكوكات الهندية شرقاً وتنتهي بالحفصية والأندلسية غرباً. وكان التجار يعرفون قيمة هذه العملات مقارنة ببعضها غيباً.. ومن لا يعرف، فهناك الميزان لمساعدته.
إلى ذلك، كان هناك ما يعرف باسم “الدينار الجيشي”، وهو ليس عملة حقيقية، بل كان ديناراً وهمياً أو وحدة قياس، تقاس به قيمة الإقطاعات والأراضي ومواردها خلال توزيعها على كبار الجند من الأمراء والمماليك.
الفنون حيثما يتوفر المال والمهارات
الفنون والحرف
وسط هذا الخليط الفريد من الأجناس البشرية وطبقاتها المختلفة، لا بد أن نتساءل عمّ كانت عليه الحياة الفنية والثقافية عموماً.
بعيداً عن الأضواء، كان ابن النفيس في تلك السنة قابعاً في بيته يدوّن موسوعته الطبية الكبرى التي ستضعه في مصاف أعظم أطباء العرب على مر العصور. ولكن لماذا بعيداً عن الأضواء؟ والجواب هو لأن الاهتمام كل الاهتمام هو بما يستجيب للتحديات السياسية والعسكرية بالدرجة الأولى، ويوطد دعائم مشروع الدولة الجديدة، ويضفي شرعية على انقلاب المماليك على سادتهم الأيوبيين. وهذا ما يفسر الانفصام الكبير الذي عرفته الحياة الثقافية آنذاك. فمقابل إهمال (وقمع) لكل ما هو نشاط فكري، كان هناك ازدهار وتشجيع للفنون الحرفية بشكل لم يسبق له مثيل.
فقد أدى اجتياح المغول لبلاد فارس والعراق إلى تدفق آلاف الحرفيين على دمشق والقاهرة. وحمل هؤلاء معهم مهاراتهم المختلفة ليضيفوها إلى مهارات الدمشقيين والمصريين. وشكّل الأمراء المماليك الجدد أفضل أنواع الزبائن بالنسبة لهؤلاء. فقد احتاجت القصور الجديدة إلى المفروشات، واحتاج الأمراء إلى أسلحة وحلي وأقمشة وأدوات يستعملونها في حياتهم اليومية وتزيد من التشابه بينهم وبين سادتهم القدامى.
في العمارة، بقيت الأسس الجمالية في تلك الفترة قريبة جداً من تلك التي كانت في الصروح الأيوبية من مساجد وقصور. ولكن فن تعشيق الحجر الأبيض بآخر ملون سيتطور بسرعة، وستزداد التصاميم والزخارف الهندسية تعقيداً. والثروات الهائلة في أيدي السلاطين والأمراء تفتح الأبواب على مصراعيها أمام المشاريع الأكثر تكلفة من غيرها، والأصعب من حيث التنفيذ.
وانتعشت صناعة المفروشات الخشبية وحفرها بأشكال هندسية تتلاءم والصرامة العسكرية التي ميّزت طابع الطبقة الحاكمة. ولأن المال والوقت متوفران عند الزبون والحرفي، وصل فن الزخرفة إلى مستويات من الإتقان لم يعرفها الأيوبيون، خاصة في مجال تعشيق المعادن ببعضها، وتكفيت الفولاذ بالذهب والفضة. وهذا ما اشتهرت به دمشق بفضل الوافدين عليها من حرفيين. فازدهرت فيها صناعة “الجوهر” وهو أقوى أنواع الفولاذ، وتفنن الحرفيون بتكفيته بالذهب والفضة، حتى أن أفضل أسلحة السلاطين والأمراء أينما كان في العالم الإسلامي صارت تصنع في هذه المدينة. الأمر نفسه ينطبق على الصناعات الزجاجية المطلية بالذهب والميناء الملونة، واتخذت أشكال قوارير وأطباق ومشكاوات وغيرها. ومن بين كل فنون الخط، سينتصر العصر المملوكي لخط الثلث دون غيره، وسيصبح سمة مميزة لكل الفنون في ذلك العصر.
وبشكل عام يمكن القول إن كل الفنون القائمة على الزخرفة والمهارة اليدوية وصلت في هذه المرحلة إلى مستوى سيجعلها تدخل التاريخ كواحدة من القمم التي وصلها الفن الإسلامي على مر العصور، وتحت اسم “الفن المملوكي”.
الشعر والأدب بعيداً عن التجني
على الرغم من أن شعر تلك الفترة يوصم عادة بـ “الانحطاط”، وليس في الأمر كثيراً من التجني، وقبل إعطاء بعض الأمثلة عمّا آل إليه الشعر آنذاك، نشير إلى أنه كانت هناك دائماً حفنة من المثقفين المحيطين بالسلطان أو من أصحاب النفوذ الذين قرضوا الشعر وفق الأصول.
نذكر من هؤلاء الذين كانوا في أوج عطائهم عام 659هـ (1201م) الإمام العلاّمة كمال الدين أبو القاسم عمر العقيلي الحلبي المعروف بابن العديم المتوفى في السنة التالية، وكان شهيراً بشعره وخطه الحسن، ويقال إنه هو الذي اخترع خط الحواشي، وقال فيه:
بوجهِ معذبي آيات حسنٍ
فقل ما شئتَ فيه ولا تحاشي
ونسخة حسنه قُرِئَت وصحّت
وها خطُّ الكمالِ على الحواشي
ومما قاله أيضاً في مدح ديوان الشيخ أَيْدَمُر مولى وزير الجزيرة:
وكنت أظن الترك تُختصُّ أعينٌ
لهم إن رنت بالسحر منها وأجفانُ
إلى أن أتاني من بديع قريضهم
قوافٍ هي السحرُ الحلالُ وديوانُ
فأيقنت أن السحر أجمعه لهم
يُقرُّ لهم هاروتُ فيه وسَحْبانُ
والملك الناصر صلاح الدين يوسف حاكم دمشق الذي قُتل في تلك السنة على يد هولاكو، كان شاعراً وصلنا بعض شعره ومنه:
البدر يجنحُ للغروبِ ومُهجَتي
لفراقِ مشبِهِهِ أسىً تتقطَّعُ
و«القَوْمُ» قد خاط النعاسُ جفونَهُمْ
والصبحُ من جِلبابه يتطلّعُ
ومن شعر الملك الشهيد لدى مروره بحلب وكانت تحترق على أيدي المغول:
سَقى حَلَبَ الشهباءَ في كُلِّ لَزْبةٍ
سحابةُ غيث نوؤها ليس يُقْلَعِ
فتلك دياري لا العقيقُ ولا الغَضا
وتلك ربوعي لا زَرُودُ ولَعْلَعُ
وهناك الشاعر والمحدث عز الدين أبو محمد عبدالرزاق الذي توفي عام 661هـ، ومن شعره:
ولو أن إنساناً يُبَلِّغُ لَوْعتي
وشوقي وأشجاني إلى ذلك الرَشا
لأسكنتهُ عيني ولم أرضَها له
فلولا لهيب القلب أسكنته الحَشَا
والشاعر كمال الدين أبو يوسف أحمد المعروف بابن العجمي، توفي عام 666هـ بظاهر مدينة صور ودُفن في دمشق. ومن شعره في خالِ مليحٍ:
وما خالُه ذاكَ الذي خالَه الوَرَى
على خده نَقْطاً من المسكِ في وردِ
ولكن نارَ الخدّ للقلب أحرقت
فصار سوادُ القلب خالاً على الخدِّ
ومن أشهر الشعراء رسمياً آنذاك القاضي والكاتب محي الدين بن عبد الظاهر الذي كان مقرباً جداً من السلطان بيبرس وكتب سيرته كاملة، ورثاه حين وفاته بقصيدة طويلة جداً، من أبياتها:
ما مثل هذا الرّزء رزءٌ يُحْمَلُ
كلاّ ولا صبرٌ جميلٌ يَجمُلُ
الله أكبر إنها لمصيبةٌ
فيها الرواسي خفّةً تتزلزَل
ما للوجودِ عَلَت عليه كآبةٌ
أتُرى القيامَة عن قريبٍ تُقْبلُ!
ما للجياد كئيبةٌ محزونةٌ
أفَذا الحنينُ أنينها إذ تَصهُلُ!
ما للِقسِيّ تئنُ أنَّةَ فاقدٍ
إن القِسيَّ لَفيه أيضاً ثُكَّلُ!
ما للسيُوفِ قد انحنَت أتُرى دَرَتْ
أنّ المنون لحدّها ستفلّلُ!
ما للرماحِ تَخَوّلتها رعدةٌ
أَلِتَرْكِها أنْ ليس تُعقَل تَعقِلُ!
الخطبُ أعظمُ أن يُقال فجيعةٌ
إن الفجايع رُبّما تتسهّل
ولكن إضافة إلى هؤلاء، كان الشعر في تلك الأيام مورد رزق للكثيرين ممن لم يحصلوا من الثقافة ما يتجاوز القراءة والكتابة. فقد كان يطيب للأمراء المماليك والأثرياء الجدد الذين راحوا ينبتون فجأة أن يسمعوا قصائد تمتدحهم، حتى ولو كان هؤلاء من الأتراك أو الجراكسة الذين لا يعرفون العربية، وبعضهم لم يكن يفهمها على الإطلاق. إنحطّ الشعر، وأصبح مجرد سجع في أبيات ركيكة، ولا أحد ينتقد حتى افتقادها إلى الأوزان الصحيحة.
معظم ذلك الشعر الشعبي ضاع في غياهب الزمن، لكن عينات كثيرة منه وصلتنا عن طريق الأدب الشعبي. ومن السيرة الشعبية للظاهر بيبرس نختار عشوائياً هذه النماذج وننشرها كما وصلتنا حرفياً من دون أي تدخل من قبلنا:
ففي الفخر يقول أحد الشعراء الفرسان:
لا أبالي بأهل الارض جمعا
لو أتونى من جميع كل الجهات
ستعلموا من المغلوب منا
ومن يكون من الفائزات
وتعلموا اني قرما عنيدا
بامثالي في الورى ضاربات
انا ابراهيم فارس كل قرم
انا ابراهيم طبعى في ثبات
وفي فراق الأحبّة والشوق إليهم يقول آخر:
فراق الأحبا أطلق النار في الحشا
وحرمني لذيذ المنام
واسهر مقلتى وأجري دموعى
ومن فارق الاحباب كيف ينام
فرق الدهر حبي وابتلاني بما
لم أطيق دون الانام
ومن بعد عزى وارتفاع القباب
سكنت المحابس في دجاء الظلام
وانقسام المجتمع ثقافياً إلى طبقتين عليا ودنيا لا وسطى بينهما، ينطبق أيضاً على حال اللغة. ففي حين أن كتّاب الإنشاء والقضاة، والذين تلقوا قدراً معقولاً من العلوم الدينية كانوا يكتبون بلغة فصحى وسليمة، فإن حال العامة كان مختلفاً تماماً: يكتبون كما يتكلمون، ويتكلمون بلسان نصفه عربي ونصفه الآخر أعجمي.!!
ومن السيرة الشعبية للظاهر بيبرس ننتقي مثالاً معبراً عن الأمر. ففي الحديث عن تسلق بعض “الفداوية” (الفدائيين) لسور إحدى القلاع كتب الراوي ما يأتي:
“وقفوا الاثنين وأخرجوا من أوساطهم السرياقات، وكل واحد منهم أرمى مفرده ودور شككه بعدما طرح الكلاليت على صور الخان وشد رحاياته، وتعلق كل واحد منهم على مفرده، وبعدما كانوا تحت الجدار بقوا فوق الأصوار…”..!!
وفي تلك الفترة كانت تصاغ وتعاد صياغة الكليشهات الأدبية الشعبية القائمة على السجع شكلاً والمبالغة مضموناً، كما هو الحال في وصف المعارك، إذ احتلت البطولات العسكرية مكانة في الأدب لم تعرفها في أي عصر آخر: “وغنّا البتار وقلّ الأنصار ولحق الجبان الانبهار والنذل ولّى وحار، لا ترى إلا دماغ طائر ودماء فائر وجواد بصاحبه غائر، تفرقعت المرائر، كانت وقعة يا لها من وقعة تجلى عليها الملك الظاهر…”
ولكن لا بد للمنصف من أن يعترف بأن هذا الأدب الشعبي رغم ركاكته اللغوية لا يخلو من التشابيه والصور الجميلة التي تكشف عن أحاسيس أدبية راقية، وتنقل بأمانة في بعض المواضع صوراً مختلفة عن ذلك العصر.
ففي وصف بعض الأبطال من فرسان المسلمين يمكننا أن نقرأ: “لبس عدته وتقلد شاكريته، وخرج إلى حومة الميدان كأنه جلة من الجلل، أو قطعة من جبل، أو قضاء الله إذا نزل…”. وأيضاً: “وإذا بالغبار قد غبر، وعلا إلى السماء وتكدر، وانكشف وبان عن حجرة دهما كأنها ليلة ظلما، مكسية بجلد النمورة وعلى ظهرها فارس شديد كأنه برج مشيد”.
وفي وصف أحد ساسة الخيل: “..وإذا به غلام جميل الصورة، أبيض اللون، يمدغ اللوبان وعليه من الملابس ألوان، باللباس الدندكي والدكة المزركشة السائلة إلى الأرض وعلى رأسه شال أحمر وكأنه البدر ليلة أربعة عشر..”
قاموس مملوكي – عربي غير مكتوب
بسبب انتماء المماليك إلى شعوب وأجناس مختلفة، وازدحام المدن العربية آنذاك بموزاييك بشري يستحيل حصره، دخلت على اللغة العربية المكتوبة والمحكية مجموعة هائلة من التعابير والمفردات الأعجمية، وراجت على ألسنة العامة كما في الكتب المدونة بالفصحى. بحيث أنه بات يستحيل اليوم على قارئ مؤلفات ذلك العصر، خاصة قارئ الأدب الشعبي، أن يفهم صفحة كاملة أو حتى فقرة من دون أن يكون مطلعاً على ما كانت تعنيه هذه المفردات آنذاك، رغم أن بعضها عربي فصيح، لكنه خرج اليوم من التداول. ومن المفردات التي كانت رائجة آنذاك نختار العينة التالية التي يكشف استعمالها ما يتجاوز المسألة اللغوية ليصل إلى معالم الحياة اليومية أيضاً.
_ الشابردي: المغني.
_
غندار: الشاب، أو الشاب الوسيم، للمناداة تحبباً.
_
ياسرجي: تاجر الرقيق بالعامية (وردت أيضاً يسرجي).
_
الخوند: السيد الكبير. وكان الأمراء ينادون السلطان بهذا اللقب. والخدم ينادون سادتهم والأمراء به أيضاً.
_
الكخيا أو الكيخية: نقلها الترك عن الفارسية كتخدا، وهي بمعنى صاحب مزرعة أو قيّم عليها، وجمعها كواخي، وبالعامية تعني أتباع الخوند.
_ العرضي: تعبير عامي للإشارة إلى الجيش.
_
الزرد: كلمة عربية فصحى تعني اللباس العسكري المؤلف من حلقات معدنية صغيرة، يغطي جسم المقاتل أو بعضاً منه.
_
الزردكاش: المسؤول عن صناعة السلاح وصيانته.
_
الزردخانة: المكان الذي يحفظ فيه السلاح. وأيضاً السجن المخصص للمجرمين من الأمراء وأصحاب المقامات العالية.
_
صاري عسكر: قائد عسكري، أو قائد الجيش ككل، أو قائد فرقة كاملة.
_ الجامكية: الراتب الذي يصرف للعسكري.
_
الرنك: شعار يتخذه السلطان وكبار الأمراء. ويكون رسمه مستوحى إما من الوظيفة التي يشغلها الأمير، أو رمزاً يتشبه به السلطان، وجمعها رنوك.
_ الخازندار: المسؤول عن الخزينة.
_ السلاحدار: المسؤول عن سلاح السلطان.
_ شاه بندر تجار: نقيب أصحاب المتاجر.
_
الطواشي: المملوك المخصي المعني بخدمة السلطان وحريمه، وجمعها الطواشية.
_
الأوشاقي: الذي يتولى أمور النخيل. وفي بلاد الشام بالعامية الوجاقي.
_
باشت كواخين: القائم بأعمال القلعة في غياب سيدها.
_ التاسومة: فصحى قديمة وتعني الحذاء.
_
الطرحة: رداء مشرشر يوضع على المناكب ويشبه الطيلسان.
_
الفرجية: ثوب واسع من الصوف طويل الكمين.
_
الأتك: كلمة تركية تعني ذيل الرداء. وكان يتم تقبيل ذيل رداء السلطان للتوسل والصفح.
_ الجوسق: القصر.
_ الطبر: الفأس.
_ الشاكرية: سيف قصير ذو نصل غليظ.
_
الانجرشية: نوع من السهام الصغيرة تطلق من القوس.
_
التوسيط: طريقة إعدام شائعة تقضي بقطع المحكوم إلى نصفين من وسطه بواسطة منشار أو سيف.
_
حلقم: خنق شخص بواسطة زج جسم كبير في بلعومه (حلقه).
_
التسمير: شكل من أشكال الإعدام تدق فيه أطراف المحكوم بالمسامير إلى الخشب، ويعلق لساعات أو لأيام حتى يموت.
_
أولاد الناس: فرقة في الجيش المملوكي ضمّت أبناء الأمراءالمماليك الذين لم تمسهم العبودية، أي أن آباءهم مسهم الرق ثم أعتقوا. معظمهم لم يكن يعمل، بل يعيش حياة مترفة بسبب الميراث الذي وصله عن أبيه. لهم تربية وأدب، ومنهم على سبيل المثال المؤرخ المشهور ابن تغري بردي.
_
الصحنجي: الذي يرصف الصحون على المائدة.
_
دقاقة: العملة الذهبية المضروبة في البندقية وأصلها باللاتينية دوكاتو.
_
الزر والمحبوب: من التعابير العامية للإشارة إلى الدينار.
_ البزّاز: تاجر الأقمشة.
_
السماط: ما يبسط على الأرض لوضع الطعام فوقه وجلوس الآكلين. ويطلق التعبير أيضاً على المآدب الكبيرة.
_
التخت: المكان الذي يجلس عليه السلطان وهو مرتفع نسبياً حتى لا يتساوى مع غيره من جلسائه.
_
التختروان: المحمل المرفوع على جملين من الأمام وجملين من الخلف لتنقل الملوك وأسرهم في أسفارهم.
_ شوطية: زورق صغير.
_
الشنّك: كلمة تركية تعني البهيج، وشنلك تعني البهجة. وراجت للإشارة إلى الاحتفالات التي تطلق فيها الألعاب النارية، ولاحقاً نيران المدافع من دون كلة.
_
المهتار: لقب فارسي الأصل يطلق على كبير طائفة من غلمان البيوت مثل مهتار الشراب خانة ومهتار الركاب خانة.
_
الركبدار: المكان الذي تحفظ فيه أسرجة الخيول وعدتها. والعاملون فيه يدعون الركبدارية.
_
خشداش: رابطة الزمالة التي تجمع مملوكين عند سيد واحد. فيقال مثلاً إن بيبرس كان خشداش قلاوون لأن الإثنين كانا مملوكين عند الملك الصالح نجم الدين أيوب.
وبسبب الحروب المستمرة مع الفرنجة كان ولا بد للعامة من أن تتحدث في شؤون السياسة وتتناقل أخبار الأعداء. ويكشف الأدب الشعبي المدى الذي حُرّفت فيه الأسماء الأجنبية على ألسنة العامة. فملك فرنسا آنذاك لويس التاسع كان عند المؤرخين الرسميين والعامة “الريدفرانس”، وملكا طليطلة وبرشلونة حملا الاسم نفسه “الفنش” (على الأرجح من الفونسو)، وامبراطور القسطنطينية الذي كان على علاقة طيبة بسلطنة بيبرس أسماه العامة “البب رومان” أو “البب” فقط. أما كلمة “البرنز” التي تعني “الأمير” فكانت على ألسنة العامة اسم حاكم طرابلس الإفرنجي أياً كان اسمه الحقيقي! أما القائد المغولي هولاكو فقد عرف عند الكثيرين باسم “هلاوون”..
كتب حول ذاك العصر
كتب حول ذاك العصر
الفترة الزمنية التي تناولها هذا الملف هي من الأهمية التاريخية إلى درجة أنه يصعب تعداد المصادر والمراجع التي يمكن للقارئ أن يعود إليها إذا رغب بالغوص أكثر في هذا الموضوع.
هناك أولاً الأعمال الموسوعية الكبرى التي وضعها مؤرخو العصر الوسيط مثل المقريزي صاحب كتاب “المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار” و”السلوك في معرفة دول الملوك”، وهناك أيضاً كتاب “نهاية الأرب في فنون الأدب” للنويري. وكتاب الحوليات الدقيقة الذي وضعه أبو المحاسن ابن تغري بردي بعنوان “النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة” وكان خير معين لنا على إعداد هذا الملف. كل هذه الكتب حققت وطبعت في العصر الحديث وهي متوافرة في معظم المكتبات.
وإضافة إلى المجموعة الكبيرة من الكتب التي تتناول فترة زوال الدولة الأيوبية وقيام دولة المماليك وأيضاً الحروب الصليبية، يجد القارئ في المكتبات مجموعة كبيرة من الدراسات التي تركز على شؤون وتفاصيل وعناوين محددة بدقة أكبر، ومليئة بالزخارف الممتعة. منها “تاريخ الملك الظاهر” لعز الدين محمد بن شداد (تحقيق الدكتور أحمد حطيط)، و”الطبقات الشعبية في القاهرة المملوكية” للدكتورة محاسن محمد الوقاد، و”النظم المالية في مصر والشام زمن السلاطين المماليك” للدكتور البيومي اسماعيل، والكتابان الأخيران صدرا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب.
ولا بد لفهم روح ذلك العصر ومزاجه الاجتماعي من المرور بأدبه الشعبي. والعمل الأكبر في هذا المجال هو “السيرة الشعبية للظاهر بيبرس” التي تقع في خمسين جزءاً جمعت في خمسة مجلدات، وتضم نحو 3200 صفحة. صدرت مطبوعة للمرة الأولى عام 1923م، وأعادت الهيئة المصرية العامة للكتاب مؤخراً تصويرها ونشرها.
—————————————————
كادر
مولانا السلطان الملك الظاهر بيبرس
كان وصول الإمام أحمد أبو العبّاس إلى القاهرة في التاسع من شهر رجب، وبويع بالخلافة في الثالث عشر منه. ثم جاء دور الخليفة في تثبيت سلطنة بيبرس شرعياً.
.. ولما كان يوم الاثنين الرابع من شعبان، ركب السلطان إلى خيمة ضربت له بالبستان الكبير بظاهر القاهرة، ولبس “الخلعة الخليفتي” وهي جبّة سوداء وعمامة بنفسجية وطوق ذهب وسيف بداوي وقيد ذهب، وجلس مجلساً عاماً حضره الخليفة والوزير والقضاة والأمراء والشهود، وصعد القاضي فخر الدين ابن لقمان منبراً نصب له، وقرأ التقليد وهو بخطه وإنشائه، ثم ركب السلطان بالخلعة والطوق والقيد ودخل من باب النصر وشقّ المدينة وقد زينت له، وحمل الصاحب بهاء الدين الوزير التقليد على رأسه قدامه راكباً والأمراء يمشون بين يديه، وكان يوماً مشهوداً تقصر الألسنة عن وصفه.
——————————————
الحج في تلك السنة
أدى الغزو المغولي إلى قطع كل الطرق البرية أمام الحجاج المسلمين من أبناء كل الدول الآسيوية الواقعة شرق الفرات وحتى حدود الصين. وإلى ذلك أدت أحداث السنة الفائتة إلى انفلات عقال الأمن في بادية الشام التي أصبحت مرتعاً للصوص وقطاع الطرق، فانخفض عدد الحجاج بشكل لم يسبق له مثيل من قبل حتى قال بعض المؤرخين “وفي تلك السنة لم يحج أحد من الناس”.
أما هذه السنة، فسيبدأ الاعتماد على طريق قديم-جديد يقضي بتوجّه الحجاج من معظم أصقاع الأرض إلى ميناء عيذاب المصري على البحر الأحمر، والانتقال من هناك بحراً إلى جدة التي راح ميناؤها يكبر، حتى وصفه ابن تغري بردي لاحقاً بأنه “أعظم ميناء في الدنيا”.
وكان موعد انطلاق الحجاج من مصر إلى الديار المقدسة مناسبة لإطلاق سلسلة من الاحتفالات الشعبية تبلغ ذروتها عندما ينتهي إعداد كسوة الكعبة الشريفة، فتوضع على محمل، يطاف به في شوارع القاهرة وسط مظاهر احتفالية ينتظرها الناس من عام إلى عام.
————————————————
فنون الصياغة
في منتصف القرن الثالث عشر الميلادي، كانت فنون صياغة المعادن قد بلغت ذروة الإتقان عند سلاجقة الروم كما يبدو من مجموعة الحلي الظاهرة في الصورة. وفي بلاد فارس حيث صنعت علبة الأقلام هذه من النحاس المطعّم بالفضة والذهب.
وإن كانت الفنون المملوكية قد عرفت لاحقاً ازدهاراً مماثلاً في فنون صياغة المعادن بحيث صار لكل سلطان أو وزير علبة أقلام مثل هذه، فالفضل يعود أساساً إلى ما شهدته هذه السنة والسنوات القريبة منها من نزوح الفنانين والحرفيين صوب دمشق والقاهرة هرباً من المغول.