أحدثت ثورة الإعلام الجديد نقلةً نوعيةً في الذاكرة الموسيقية. وأعادت تعريف رسالة الفن، بحيث لم يعد الفن اليوم جامعاً للأجيال الجديدة كما كان يجمع آباءهم في ذائقة واحدة، وجمهور متقارب المشارب والتذوق. ففي وقتٍ مضى، كانت الشوارع تخلو من المارة حين تكون أم كلثوم على الموعد ليلة الخميس, وكانت الإشاعات تتسرب بعد نزول أغنية جديدة وتنشغل الصحف والأقلام في تأكيد القصة أو نفيها.
فلماذا لم تعد هذه الحفاوة موجودة اليوم لدى الجمهور؟ أهي التقنية المعاصرة؟ أم إيقاع الحياة الجديدة؟ أم ثغرة في الذائقة نفسها؟ ولماذا لم تعد المفردة الموسيقية تأخذ حقها في الانتشار والدعاية والسخرية حتى..
في ستينيات القرن الماضي، اشتهرت أغنية «لا خبر» للمطرب العراقي فاضل عواد, وكانت إذاعة بغداد تبثها على مدار الساعة, حتى إن أحد رسامي الكاريكاتير الظرفاء آنذاك رسم كاريكاتيراً في إحدى الصحف العراقية لمذيع يفتتح برامج الإذاعة قائلاً عبر المايكرفون: «أعزائي المستمعين هنا إذاعة لاخبر», بدلاً من قوله هنا إذاعة العراق!
كان الناس يستغرقون في لحظاتهم فلا ينسون شيئاً من تفاصيل الوقت والحكايا ..
بينما تجدك اليوم تنتقل من محطة إلى أخرى إلى ثالثة ومن أغنية إلى ثانية إلى ثالثة في ظرف دقائق معدودات, فكيف لخبر واحد أن يكون حديثنا طول اليوم ناهيك عن أسابيع, وكيف لأغنية واحدة أن تتعتق وتمر على جيل كامل في ظل آلاف المغنين ومئات الأغنيات في الأسبوع الواحد.
إن اللحظة الفنية لها حقها الواجب الذي تتطلبه من التأمل والهدوء والوقوف المتأني المنصت. وهذا ما أصبح مفقوداً اليوم. إذ طغت في المقابل الوجبات الفنية السريعة التي تشبه وجبات المطاعم السريعة. وأسهم في ذلك وجود المتلقي المشغول دائماً، الذي لا يملك وقته، والذي وُفرت له كذلك كل الأدوات التي تساعده على ألا يملك وقته كذلك. فلا عجب إذن أن تجد الإقبال الكبير على مواقع اجتماعية ذات إيقاع متسارع كتويتر وغيرها، لتهيئ للكاتب تدوين يومياته ليبيع متعة الاستغراق في اللحظة الحالية، بوهم تقاسم جمال الخبر مع الآخرين في الفضاء البعيد المجهول!
حتى الأطفال لم يسلموا من تشويش ذاكرتهم. فالطفل الذي كان يلعب الكرة في الحارة ويذهب إلى المناسبات العائلية، أصبح يقارع أصدقاء افتراضيين على ألعاب الفيديو الموصولة بالإنترنت، ويلعب مع منافسين من دول بعيدة وقارات أخرى، بينما قد لايعرف اسم ابن الجيران ولا مهاراته..
وقد يأتي العيد فتقتصر التهاني على رسائل قصيرة وكتابات على حائط الفايسبوك، ولا يملك الطرفان غير الابتسامات والورود الإلكترونية ناهيك عن الصناعية!
لي صديق يرفض أن يقتني ابنه جهاز الهاتف النقال حتى يتخرج في الثانوية العامة متعللاً بالحفاظ على حواس ابنه الخمس..
يزعم صديقي أن انشغال ابنه بالمحمول في هذه السن الصغيره، لن يترك له فرصة للتأمل في الألوان وجدران البيوت ومقابض الأبواب حوله, ولن يسأل يوماً عن اسم صوت الريح ولن يرحب بالربيع كما ينبغي!
قد يكون صديقي على صواب.. وقد يكون ابنه قد ولد في زمن غير زمن والده!