ملف العدد

الزمن

  • 48Malaf3-29
  • 48Malaf3-30
  • 48Malaf3-31
  • 48Malaf3-32
  • 48Malaf3-33
  • 48Malaf3-34
  • 48Malaf3-35
  • 48Malaf3-36
  • 48Malaf3-37
  • 48Malaf3-38
  • 48Malaf3-39
  • 48Malaf3-40
  • 48Malaf3-41
  • 48Malaf3-42
  • 48Malaf-1
  • 48Malaf3-24
  • 48Malaf3-25
  • 48Malaf3-26
  • 48Malaf3-27
  • 48Malaf3-28

هو في جزء منه كل الماضي، وفي جزئه الآخر كل المستقبل، وما بينهما الحاضر، الذي قبل أن ننتهي من كتابة اسمه يكون قد أصبح من الماضي.
هو في مروره من حولنا واحد. ومع ذلك، فهو في العلم غيره في الأدب، وفي الأدب غيره في الحياة اليومية، وفي الحياة اليومية غيره في الشعر، وفي الشعر غيره في الفلسفة..
اخترع الإنسان أدوات لقياس بعض أجزائه فقط.. أما هو ككل فيبقى في طرفيه خارج كل المقاييس مهما تعددت الأصفار. فكان الخيال المعين الوحيد للإنسان في التطلع إليه، وكانت ثمرة هذا الخيال تارة فلسفة وتارة شعراً وتارة أخرى علماً.
في هذا الملف، يجول بنا عبود عطية على هذا الوعاء الذي يحتوينا، الشاهد على ماضينا، ومحدد كل خطوة في طريقنا إلى المستقبل: الزمن.

..ومن أين نبدأ للإمساك بطرف الحديث عن الزمن، وهو الذي لا طرف له.
ففي مرحلة ما من مراحل جمع مادة هذا الملف، خطر لنا أن نستطلع على شبكة الإنترنت الأقوال المأثورة التي قيلت في الزمن. فطالعنا ما أدهشنا بكثرته وتنوعه، وما يمكنه أن يملأ وحده صفحات هذا الملف. وكأن تناول الزمن (وضمناً الوقت) ولو بكلمة في العمر، هو طقس يجب أن يمارسه كل أديب وشاعر وفنان وعالم، من هوميروس إلى آينشتاين، وكل من الزاوية التي تروق له، سواء أكانت هذه الزاوية مستمدة من متاعب الحياة اليومية مع عامل الوقت، أم من حيثما عجزت العلوم عن تحديد أمر ما في الزمن، فلجأت إلى الفلسفة أو الخيال لتقول شيئاً بصدده.

تاريخ الزمن
درجت العادة أن تتضمَّن بدايات ملف القافلة نبذة موسعة قليلاً عن تاريخ الموضوع الذي يتناوله الملف. وعلى الرغم من أن الزمن هو في جزء منه كل التاريخ، يمكننا أن ننطلق من الزاوية نفسها التي درجت عليها العادة.

في العام 1988م، أصدر عالم الفيزياء الشهير ستيفان هوكينغ كتابه الشهير «مختصر تاريخ الزمن»، وهو كتاب في علم الفيزياء الكونية، يتناول بأسلوب مبسط للعامة موضوعات مختلفة مثل نظرية «الانفجار الكبير» و«البقع السوداء» و«القُمع الضوئي» وغير ذلك.. وكانت النتيجة أنه خلال سنوات عشر فقط، أعيد طبع هذا الكتاب عدة مرات وبيعت منه 10 ملايين نسخة، وظل لمدة سنوات ثلاث ضمن الكتب الأكثر مبيعاً حسب استطلاعات الصحف الأمريكية والبريطانية.

وكان هذا الرواج مثار دهشة لكل المعنيين بعالم النشر، لأن الأمر
لا يتعلق بعمل أدبي لأحد حملة جائزة نوبل، بل بكتاب علمي في الفيزياء، ما كان أحد يتوقع له مثل هذا الرواج. وفي تفسير ذلك، تردد كثيراً أن العنوان الذي يضع عبارة «الزمن» على الغلاف حرك آلاف الأسئلة الموجودة في لا وعي الإنسان حول هذا «المفهوم» الغامض للزمن، ودفع الملايين إلى قراءة هذا الكتاب بحثاً عن أجوبة لهذه الأسئلة. ليس فقط لأنها تتراوح حول بدايات الزمن، ونظريات نشوء الكون وتطوره، بل أيضاً لارتباط الحياة من الولادة إلى الموت بعامل الزمن، وما بين الولادة والموت يرتبط كل ما يقوم به الإنسان وما لا يقوم به أيضاً بالزمن نفسه.

فإن تعذر علينا بدء الحديث عن الزمان من طرفه، يمكننا أن ننطلق من موضع ما منه.. من زمننا الحاضر المؤلف من مستقبل قريب نقترب منه بسرعة منتظمة ليصبح ماضياً قريباً.. ونشير إليه بمصطلح «الوقت».

فالوقت هو السلم المعتمد لتنظيم كل أمور الحياة، تلك التي يفعلها الإنسان أو تلك التي يخضع لها من دون أية قدرة على التدخل في مسارها.. والساعة التي نتقلدها في معصمنا صارت بتطور الحضارة، قائداً يوجه مسار الحياة اليومية.. في أي وقت نذهب إلى العمل، وبعد كم من الوقت نعود إلى البيت، وفي أي وقت نأكل لتلافي الجوع، ومتى سنلتقي بفلان.. وكل هذه التفاصيل والزخارف تحصل تباعاً. وهذه الملاحظة البديهية حول تتابع حركة الحياة، هي التي وفرت لأينشتاين مجالاً لتحديد الزمن بشكل مبسط للعامة، عندما سُئل مرة عن ذلك، فقال: «الزمن هو ما يمنع الأشياء من أن تحصل دفعة واحدة».

فبمرور الأجزاء الصغيرة من الوقت تباعاً ما بين المهمات الموزعة على الساعات والأيام والأشهر والسنين، ينتبه الإنسان إلى أنها مجتمعة غيَّرت العالم من حوله، وصارت مسافة فاصلة بين الولادة والموت، بين ضعف الطفولة وقوة النضوج وعجز الشيخوخة.. ومن هذه النظرة إلى هذه الأوقات مجتمعة، يفتح هذا الإنسان ملفاً في ذاكرته ووجدانه بعنوان «الزمن»، هذا الشيء غير الملموس الذي يتحكم بكل ما هو ملموس، ويتقدم وفق مسار خطي لا عودة فيه إلى الوراء. وهذا ما دفع كاتباً يدعى روبرت برو إلى السخرية ممن يعتقدون أن الزمن «يدور»، أو أنه من الممكن أن يكرر نفسه فقال: «ظل الإنسان لقرون يعتقد أن الشمس تدور حول الأرض. وبعد ذلك بقرون لا يزال يعتقد أن الزمن يتحرك باتجاه عقارب الساعة». فهل هو الزمن الذي يتحرك من حولنا، أم نحن من يتحرك ضمن الزمن الواحد؟ لا يمكننا أن نعطي جواباً قاطعاً بالأدلة والبراهين، ولكن يمكننا أن نتهرب من الجواب بالقول إن الزمن هو «مفهوم»، ويمكن لأي كان أن يفهمه وفق ما يرتئيه صحيحاً. وهذا بالفعل ما قام به كل إنسان حاول أن يتنطح لهذا السؤال.

من الوعي بالزمن إلى أدوات قياسه
تكشف الأفلام الوثائقية التي تدور حول الحيوانات المفترسة، أنها تحتسب غريزياً الوقت الملائم والسرعة المناسبة للانقضاض على طريدتها. وبالتالي يمكننا أن نرجِّح أنه في حالة الإنسان، فإن وعيه للوقت تشكَّل مع بداية تشكل وعيه على الحياة. ألا يتطلب حمل المرأة وقتاً تشرق فيه الشمس وتغيب 270 مرة تقريباً قبل أن يولد الطفل؟ ومن المرجح أيضاً أن عامل الوقت راح يزداد أهمية عندما تعلَّم الإنسان الزراعة. فكانت له مقاييسه آنذاك وعلى الأرجح من خلال تعداد الشروق والغروب، بعبارة أخرى اليوم. وكان عليه أن ينتظر نشوء الحضارات الكبرى ليتمكن من وضع مقاييس للوقت، وليجمع كل هذه الأوقات تحت عنوان الزمن.

فالمسلات الفرعونية كانت أدوات لقياس تقدم الوقت خلال النهار من خلال متابعة حركة ظلها على الأرض. وبموازاة المسلات هذه، اخترع البابليون على الأرجح، وليس الفراعنة، المزولة، كأول نبيطة تسمح بقياس الزمن اعتماداً على حركة ظل الشيء بتحرك الشمس من الشرق إلى الغرب، وكان ذلك حوالى العام 2000 ق.م.

والواقع أن للبابليين فضلاً كبيراً في تأسيس مقاييس الزمن. فهم الذين قسَّموا اليوم إلى 24 ساعة. منها 12 ساعة مابين الشروق والغروب، و12 ساعة من الغروب وحتى الشروق. وبهذا تكون الساعة البابلية متحركة، تطول أحياناً ثم تقصر بتتابع فصول السنة.

ولأن النظام الذي وضعه البابليون للرياضيات وعلم الحساب هو النظام «الستي» وليس العشري الذي نعرفه اليوم، فقد اعتمدوا مضاعفات العدد 6 في كل شيء، بما في ذلك الساعة التي قسَّموها إلى 60 دقيقة، واستطراداً، الدائرة إلى 360 درجة أو زاوية.

وبتطور الحضارات واتساع دائرة المعارف الإنسانية، راحت وسائل قياس الزمن وأدواته تتطور بتطورها. فظهرت الساعة المائية والساعة الرملية، ثم الساعة الميكانيكية فالكهربائية والإلكترونية، وساعات المعصم في القرن العشرين. ووضعت التقاويم لضبط أعداد الأيام في مقاطع الزمن القريبة من الحاضر، أو من الأصح القول، توضيح ترتيبها أمام أعيننا، لتساعدنا على تنظيم شؤوننا خلالها. ولكن هل تقتصر أدوات قياس الزمن على هذه الأجهزة والأدوات الدقيقة؟ ألا يشمل ذلك أيضاً تلك الخطوط التي يرسمها السجناء على جدران زنزاناتهم لعدّ الأيام والأسابيع والسنوات؟ ألا يشمل ذلك أيضاً قراءة المزارع لتطور نمو الغلال في حقله موسمياً، أو اقتراب نضوب مخزونه من هذه الغلال؟ ألا نقرأ الزمن من حين إلى آخر في المرآة، ونحن نرى إطلالة الشيب في المفارق، أو تجاعيد بشرة الوجه؟

إن كل ما تقدَّم هنا يندرج تحت عنوان الوقت، أي المقطع الزمني الذي نتفاعل معه أو يفعل فينا.. ولكن من أهم ما أنجزه التطور الحضاري للإنسان هو في توسعة وعيه للزمن. فهناك من جهة، إعطاء أصغر المقاطع الزمنية أهمية متزايدة لم تعرفها في السابق، علماً أنها قصيرة إلى درجة ألاَّ تحولات ملحوظة تحصل خلالها عادة مثل الثانية أو جزء الثانية. ولكن ألا تُوزَّع الميداليات الأولمبية على الذين كانوا أسرع من غيرهم بجزء من مئة في الثانية؟ ألم يدخل جهاز قياس هذا الجزء من المئة في الثانية ضمن الساعات التي نتقلدها في معاصمنا، علماً بأننا لا نخصه ببرامج محددة علينا أن نقوم بها خلاله؟

من الثانية إلى الدهر
كل شيء نسبي
من جهة أخرى، أدى تطور العلوم، وبشكل خاص علوم الأرض والجغرافيا والتاريخ، إلى وضع مقاييس مختلفة للزمن، مقاييس يمكن أن يصل احتمال «الخطأ المقبول» فيها إلى ملايين السنين. واستخدمت لهذه الغاية جملة مفردات ومصطلحات قد نستخدم الكثير منها في حياتنا اليومية، ولكن ما تعنيه في موضع ما قد يكون نقيض ما تعنيه في مكان آخر.

ففي حياتنا اليومية قد تكون الملابس قديمة إذا تجاوز عمرها الثلاث أو الخمس سنوات. وعند تجار العاديات (الأنتيكا) يكون الشيء الذي صُنع قبل عشرين أو خمسين سنة جديداً. ولكي يكون قديماً يجب أن يكون قد صُنع قبل قرن أو قرنين من الزمن. واستطراداً نشير إلى أن القوانين الجمركية في بعض الدول (مثل أمريكا وأوروبا الغربية) تصنِّف الآثار على أنها كل ما أنتجه الإنسان قبل أكثر من مئة سنة، في حين أن علماء الآثار أنفسهم يصنِّفون ذلك على أنه «تراث» إلا إذا كان مستخرجاً من باطن الأرض. وفي حين أن المؤرخين يصنفون الحضارات التي قامت قبل الميلاد وحتى بُعيده بـ «القديمة» ومن ثم يتحدثون عن «العصور الوسطى» التي انتهت قبل خمسمائة سنة، نجد أنه في علم الجيولوجيا، تكون الصخور التي تشكَّلت قبل ثلاثين مليون سنة «جديدة».

ومن باب الجيولوجيا وتاريخ الأرض يمكننا أن نطل على الزمن بأوسع مقطع منه، فطالما تشكلت الأرض قبل 4.570 بليون سنة، كيف يمكن قياس المقاطع الزمنية التي يتألف منها هذا المقطع الكبير الذي
لا يقدم فيه كثيراً ولا يؤخر ما يضاف إليه باستمرار؟

في بحثنا عن جواب، لجأنا إلى «الموسوعة العربية العالمية» حيث طالعتنا مقاييس قد تختلف قليلاً عما طالعناه في غيرها. ولو بدأنا بما تقوله هذه الموسوعة، لوجدنا أن تاريخ الأرض يُقسَّم علمياً إلى مقاطع وكل مقطع إلى مقاطع فرعية على الشكل الآتي:
1 – الدهر العتيق، الذي يشمل أول أربعة بلايين سنة من عمر كوكبنا الأرضي.
2 – الدهر القديم، الذي بدأ قبل 570 مليون سنة وانتهى قبل 240 مليون سنة.
3 – الدهر الوسيط، الذي بدأ قبل 240 مليون سنة وانتهى قبل 63 مليون سنة.

ولا يحدثنا المصدر نفسه عن أي شيء اسمه «الدهر الحديث». بل عن «حقب الحياة الحديثة» التي بدأت قبل 8 ملايين سنة، وحقب الحياة المتوسطة التي بدأت في مطلع الدهر الوسيط. وكل دهر يتألف من عصر. مثل العصر الكمبري الذي بدأ قبل 570 مليون سنة واستمر لنحو 70 مليون سنة، والعصر الكربوني الذي استمر نحو 30 مليون سنة وبدأ قبل 360 مليون سنة، والعصر الطباشيري الذي بدأ قبل 138 مليون سنة واستمر 75 مليون سنة… إلخ. وهناك العصر الحديث المستمر منذ 63 مليون سنة، ومقسم بدوره إلى فترات، تبدأ بفترة الباليوسين التي استمرت 8 ملايين سنة وتنتهي بـ «فترة الهولوسين» التي بدأت قبل 10 آلاف سنة من يومنا هذا، أي قبل التاريخ المدون بكثير.

أما المصادر الأوروبية فتتحدث عن وحدات قياس للزمن بالمقاييس الجيولوجية، ولكن من دون ارتباط قسري بهذا العلم. وهذه المقاييس هي:
1 – Eon = نصف مليار سنة، غير مترجم إلى العربية، ومن الممكن الاصطلاح على أنه دهر.
2 – Era = عدة مئات ملايين السنين. ومعناها حقبة.
3 – Epoch = عشرات ملايين السنين، ومعناها العصر.
4 – Age = ملايين السنين، ترجمتها إلى العربية هي العصر أيضاً، ولكن الأصح اعتماد تسميتها «فترة».
5 – Chron = أصغر من Age، غير مستعمل.

أما أكبر وحدة زمنية فهي «Supereon» التي تتألف من عدة إيونات. وطالما أن عمر الأرض لا يزيد على 9 إيونات، فابتكار هذا المصطلح الذي لا مجال لاستعماله في معارفنا الحالية، يشير إلى استعداد العلماء للتنطح إلى دراسة الزمن حتى قبل تكون كوكبنا الأرضي. إنه الزمن الذي يستحيل تخيل عدم وجوده قبل مئة مليار «سوبر إيون»، والمستمر في التقدم والنمو إلى ماشاء الله.

الزمن في الوجدان
سريع في أمريكا بطيء في الهند
وكما أن الزمن بمقاساته المختلفة هو نسبي في المعارف والعالم، فهو نسبي أيضاً في الوجدان الإنساني، يتطلع إليه المرء وفق نظرته إلى الحياة والعالم من حوله.

ففي الغرب مثلاً، نجد الرئيس الأمريكي الأسبق جون كينيدي يقول: «يجب أن تستخدم الوقت كأداة، وليس كأريكة». وهذا واحد من آلاف الأقوال التي ظهرت على ألسنة الكتَّاب والمفكرين الغربيين، وكلها تدعو إلى الاستفادة من الوقت وملئه بالعمل والإنتاج. والأمر طبيعي في بيئة خاضعة لفلسفة تمجِّد العمل والإنتاج، وإيقاع الحياة اليومية فيها هو في سباق دائم مع عقارب الساعة.

أما في بيئة مختلفة، كالهند مثلاً، حيث إيقاع الحياة أبطأ، حتى إن التأمل هو مجال من مجالات الإنتاج الفكري، نجد الشاعر رابندرانات طاغور يقول: «الفراشة لا تكيل عمرها بالأشهر، بل بالساعات. ومع ذلك، فهي تملك متسعاً من الوقت». ومثل هذا القول يحمل ما معناه أن الأوقات القصيرة تكفي لأمور كثيرة.. ولكنه يعني من جهة أخرى، أن هناك دائماً متسعاً من الوقت للعمل والإنجاز.

من جهة أخرى، ما من إنسان إلا ويردِّد من حين إلى آخر أمام بعض الأمور: «لا أملك وقتاً»، وذلك لإعفاء نفسه من عمل أو مهمة ما. وعلى هذه الذريعة يرد جاكسون براون جونيور بقوله: «لا تقل أبداً أنك لا تملك وقتاً. لقد أُعطيت نفس عدد الساعات في اليوم الذي أعطي لباستور وميكل أنجلو وليوناردو دي فنشي وتوماس جيفرسون وألبرت أينشتاين..».

فكل هؤلاء أنجزوا الكثير لخدمة الإنسانية، مقابل الكثيرين الذين عاشوا حياتهم من دون أن يتركوا أي أثر وراءهم.. وهل هناك ما يبرئ الوقت مما يُحمِّله الإنسان من مسؤوليات أكثر من هذا القول؟

أمام الماضي والحاضر والمستقبل
حنين وألم وقلق
لو قسَّمنا الزمن بأسره إلى ثلاثة مقاطع هي الماضي والحاضر والمستقبل، لوجدنا أيضاً تحديدات مختلفة لكلٍ من هذه المقاطع، تتنوع بتنوع ثقافة صاحب التحديد.

فالماضي هو بالنسبة للبعض الحاضر الذي لم يعد موجوداً. والحاضر بالنسبة إلى البعض الآخر «نقطة مرت لتوها»، حسب تعبير دايفيد راسل، والمستقبل حسب تحديد باراسيلسوس «هو ما يصل إليه كل شخص بمعدل 60 دقيقة في الساعة، مهما كان ومهما فعل». أما سومرست موم فيقول: «إني لا أفكر بالماضي. كل ما يهمني هو الحاضر الأبدي». فبالنسبة إليه الحاضر سيبقى دائماً موجوداً، وإلى الأبد.

أما ما يشترك به معظم البشر فهو ليس في تحديد هذه المراحل الزمنية، بل في الموقف منها. فالحاضر (الذي يشمل بمعناه العام ما مضى منه قبل قليل والمستقبل القريب جداً) هو دائماً متعب ومؤلم ومثقل بالقضايا التي تتطلب من الإنسان جهداً وعملاً لمواجهتها. والمستقبل هو دائماً مصدر قلق. قلق من المحاذير التي قد تحملها الأيام والسنوات المقبلة: الفقر، المرض، المشكلات الاجتماعية، الحروب، الموت.. ولا ينجو من هذا القلق كل ما ومن يقع بين الأفراد والحكومات الدول. وفي مواجهته هناك ما سماه الإنسان «التخطيط للمستقبل»، الذي يشمل نطاقات ومجالات لا حصر لها، تبدأ بسعي الإنسان إلى ادخار بعض أمواله درءاً لـ «غدر الزمان»، وتنتهي بالمشاريع المستقبلية للحكومات والدول والمؤسسات العلمية العالمية. أما الماضي فحكايته مختلفة.

الماضي هو المرحلة الزمنية الوحيدة التي أصبحت خالية من الألم والقلق. ولهذا، فهو دائماً مثير للحنين.

إن رصد المواقف التي تصدر من حولنا في حياتنا اليومية حول تبدل بعض الأمور ما بين الأمس واليوم، يكشف دائماً شكلاً من أشكال الحنين إلى الماضي. وهذه الملاحظة عامة، يمكننا أن نلحظها في كل المجتمعات، وبوضوح وحزم، وكأن لسان حال العالم يقول إن كل ما كان في الأمس من أمور وعادات وتقاليد وصناعات ومنتجات هو أفضل مما أصبح عليه اليوم. علماً بأن المقارنة المجردة والحسابات الباردة تعطي لكل هذه الأشياء والأمور كما هي الآن أفضلية على ما كانت عليه بالأمس. ولكن هيهات أن تستطيع المقارنة المنطقية أن تتغلب على الحنين إلى الماضي.

إن كل شعوب العالم ترى هوياتها الوطنية في تاريخها وتراثها العظيم. وتبجيل «الماضي الجميل» صاغ بشكل ما المعارف الإنسانية. فإن كانت بعض العلوم، مثل علم الآثار وعلم التاريخ، غير مرتبطة بالمزاج الإنساني وحنينه إلى الماضي، فإن صناعات كاملة ما كانت لتقوم لولا هذا الحنين. ومنها كل ما يربط الإنسان بالتحف القديمة، سواءً أكانت فنية أم لا. إذ يكفي أن تمر بضعة قرون من الزمن على إناء فخاري لشرب الماء، لكي يصبح أغلى على قلب الإنسان (وأغلى ثمناً أيضاً) من أي منتج معاصر يؤدي الوظيفة نفسها بشكل أفضل.

في نظرة الإنسان إلى ما مضى من الزمان، يبدو العالم وكأنه كان خالياً من الآلام والهموم والمساوئ. فتختار كل ثقافة مرحلة من تاريخها لتطلق عليها اسم «العصر الذهبي». ولكن من المرجح أن هذه العصور لم تكتسب «ذهبيتها» إلا بعدما ولَّت إلى غير عودة.

وفي مواجهة طغيان مقارنة زمننا بالأزمنة السابقة في صِيغ عاطفية وأدبية عموماً، كتب أرت بوشوالد، المعلِّق الساخر في جريدة «هيرالد تريبيون» ذات مرة: «سواء أكان هذا الزمن هو أفضل الأزمنة أم أسوأها.. إنه الزمن الوحيد الذي نملكه».

الزمن في اللغة والأدب

هو أبو اللغة
عندما يكون الحديث عن حضور الزمن في الآداب وثقافات الشعوب، لا يمكن الاكتفاء بتعداد الأعمال الشهيرة التي حضر فيها بشكل مباشر، رغم أن هذه الأعمال هي أكثر من أن تُحصى، بل يجب التطلع إلى الموضوع من زاوية اللغة أولاً.

فالكلام هو ما يصوغ، بمفردات معبِّرة، وعي الإنسان إلى العالم ونظرته إلى الكون. ولأن هذا الوعي تشكل على أساس الزمن ومفاعيله، نجد أن مئات وآلاف المفردات ما كان يمكنها أن تظهر في كل لغات العالم لولا العلاقة الوثيقة ما بين الإنسان ووعيه من جهة والزمن من جهة أخرى.

فإضافة إلى الكلمات المرتبطة مباشرة بالزمن مثل الماضي والحاضر والمستقبل واليوم والدهر والثانية والغد والأمس.. هناك آلاف المفردات التي ما كانت لتظهر لولا دور الزمن الذي دفع الإنسان إلى استنباطها عندما كان يصوغ لغته. ومنها، نذكر بشكل عشوائي حفنة صغيرة يمكن لكل قارئ أن يزيد عليها العشرات وربما المئات.

الحنين، الذكرى، التذكار، الأثر، التاريخ، الأمل، التشاؤم، التفاؤل، التخوف، التوقع، القديم، الحديث، الجديد، المهلة، الانقضاء، الانتهاء، البدء، المتحف، السباق… وأيضاً: حين، حتى، سوف، لما، منذ، عندما.. إلخ. وإلى ذلك، ألا نجد الأفعال تُصرَّف في كل لغات العالم في ثلاث صيغ هي صيغة الماضي والحاضر والمستقبل (الأمر)، لكي تصبح الكلمة مطواعة وصالحة بما يتماشى مع ممشى الشزمن. فهل من المبالغة بعد هذا القول إن الزمن هو أبو اللغة، وكل اللغات؟

الزمن في الرواية والسينما
مجال للرحلات
لو تصفحنا المواقع الإلكترونية على شبكة الإنترنت بحثاً عن «الزمن في الرواية»، لطالعنا فيها جميعها حديث عن أشهر رواية على الإطلاق كان الزمن بطلها وعنوانها، وهي رواية الكاتب البريطاني هـ. ج. ويلز «آلة الزمن»، التي صدرت عام 1895م.

تدورهذه الرواية حول عالم بريطاني يخترع آلة تسافر به عبر الزمن إلى العام 802701 بعد الميلاد، حيث يكون الجنس البشري قد انقسم إلى قسمين: قسم متحضر وأنيق ولطيف، وقسم يعيش «تحت الأرض» في شكل متوحش ويأكل لحوم البشر.

كان النجاح الذي لقيته هذه الرواية مدوياً. وصوَّرتها السينما في فيلم بالعنوان نفسه عام 1960م، وأعيد تصويرها في فِلم تلفزيوني عام 1978م.

ويبدو أن ويلز فتح بروايته هذه الأبواب أمام مذهب روائي جديد. فتعددت الروايات المطبوعة، أو تلك التي تكتب للسينما، وتتمحور حول شخص ينتقل عبر آلة أو فجوة في مكان ما أو حتى خزانة، إلى عصر غير عصره. سواء أكان هذا العصر عصراً قديماً، أم عصراً مستقبلياً. ففي بعضها عاد البعض إلى عصر الملك الأسطوري «آرثر» الذي تنسب إليه مجموعة فضائل أخلاقية وتنظيمية تدخل في صميم الحضارة الغربية اليوم. وفي بعضها الآخر مسعى لقراءة الحاضر على ضوء الماضي مثل «أثر الفراشة»، وهي قصة شاب يعود إلى الماضي لمحو المشكلات التي اعترضت طفولته وتركت آثارها على شبابه، فيعود أكثر من مرة ليعالج كل مشكلة على حدة، وفي كل مرة تكون النتيجة أسوأ من الواقع.

وتوسعت دائرة الرحلات عبر الزمن في الروايات والأفلام السينمائية، لتشمل سفر شخص من الماضي ليعيش بيننا اليوم ويقارن عصرنا بعصره، مثل الفِلم الذي شاهدناه مؤخراً على شاشة إحدى الفضائيات العربية بعنوان «كيت وليوبولد» حيث ينتقل شخص نبيل من القرن التاسع عشر إلى نيويورك في يومنا هذا، لينتقد ويقارن في إطار كوميديا عاطفية خفيفة. ولم تتأخر السينما المصرية عن ركوب هذه الموجة، فوجدنا عادل إمام يقوم في أحد أفلامه بدور فارس من عصر محمد علي باشا يصل عن طريق كهف إلى مصر الحاضرة بكل شؤونها وشجونها الحالية لينقدها في قالب فكاهي.

ولكن بعيداً عن روايات السفر عبر الزمن (المباشرة جداً، وأحياناً السطحية)، يمكننا بسهولة أن نكتشف أن الزمن هو حاضر في الأدب والرواية بشكل أعمق من ذلك بكثير.

لقد كتب هوميروس الإلياذة (وعلى الأرجح الأوديسة) في وقت ما يدور حول العام 850 ق.م. وفي هاتين الملحمتين الشعريتين يروي لنا هوميروس القصة الملحمية لحرب طروادة. ولكن حروب طروادة، إن جرت فعلاً، فقد جرت في وقت ما بين نهاية القرن الثالث عشر ومطلع القرن الثاني عشر قبل الميلاد، أي قبل مولد الشاعر اليوناني بنحو خمسة قرون. فهو إذن كتب عن الماضي، ترك عصره وسافر بشاعريته خمسة قرون إلى الوراء لينقل إلى أبناء عصره صورة عن هذا الماضي، أو مقطعاً منه.. وليس هوميروس وحده هو الذي سافر إلى طروادة التي محا معالمها الزمن، بل أيضاً كل من قرأ هذه الملحمة ويقرأها اليوم أو سيقرأها غداً.

وفي العصر الحديث (نسبياً) أي بعد تبلور شخصية الرواية في أوروبا بعيد عصر النهضة، ظهرت الرواية التاريخية كلون أدبي مستقل من ألوانها. هذه الرواية التي تعود بالقارئ إلى مراحل زمنية مضت قبل قليل أو كثير، إما لمجرد أن تأخذه إلى حيث يستحيل عليه الذهاب فعلاً، وإما لتحفزه على تكوين نظرة مختلفة إلى حاضره. ومن أشهر الأسماء في هذا المجال يمكننا أن نذكر ألكسندر دوماس في الأدب الفرنسي، وجرجي زيدان في الأدب العربي الذي كتب سلسلة روايات تاريخ الإسلام الشهيرة. فمن خلال هذه الروايات يمكننا أن ننتقل بخيالنا إلى عوالم مضت، مثل عالم الخليفة المأمون، أو عالم شجر الدر.. إنها قدرة الأدب على الإمساك بالزمن وتثبيته.

وحتى لو وضعنا جانباً الروايات التاريخية والرحلات عبر الزمن، يبقى هذا الزمن حاضراً في بنية كل رواية، وفي الصنعة الروائية ككل، منذ أن يضع مؤلفها تصميماً لها. فبموازاة الموضوع والحبكة وتحديد الأبطال، يجد المؤلف نفسه مضطراً لأن يرسم الإطار الزمني الذي به تبدأ وبه تنتهي. ولهذه القاعدة، لا يوجد استثناء يستحق الذكر.

وإضافة إلى ما تقدَّم، هناك المذكرات واليوميات، التي يلعب الزمن الهارب دوراً كبيراً في صياغتها، وفي وجودها ككل. فالمذكرات هي فن استعادة مقطع زمني كامل دفعة واحدة، واليوميات هي فن جمع ما حمله كل يوم بيومه.

وأخيراً، لا يجب أن ننسى عبارة: «كان ياماكان في قديم الزمان..»، هذه اللازمة التي تبدأ بها حكايات الأطفال، وتكفي وحدها كي تكون تذكرة سفر لخيال الطفل يرحل بها بعيداً عن يومه وسريره.

بين الفيزياء والاقتصاد..
لكل علم زمنه الخاص

الزمن في الفيزياء
بعدما أضاف ألبرت أينشتاين الزمن بُعداً رابعاً إلى الطول والعرض والعمق (وهي عناصر كلها قابلة للقياس)، أصبحت الفيزياء الحديثة تقول إن الزمن كمية أساسية يمكن قياسها.

وبعدما اعتقد الفيزيائيون لقرن أن الزمن ينساب بشكل خطي منتظم، بدأ هذا الاعتقاد يخضع للمراجعة، طالما أن الزمن هو أحد أبعاد الكون الأربعة. والكون يتوسع ويصبح عديم الانتظام أكثر فأكثر. من هنا ظهرت أفكار تقول إن مسار الزمن هو منحنٍ وليس مستقيماً. وذهبت نظريات أخرى إلى القول باحتمال انسياب الزمن إلى الوراء في ظروف محددة، إلا أن هذه النظرية تبقى بعيدة حتى الاختبار.

الزمن في علوم الأرض
ولعلماء الجيولوجيا «ساعاتهم» الخاصة لقياس أعمار الصخور وطبقات القشرة الأرضية التي تعود إلى مئات وبلايين السنين.

ومن وسائهلم في ذلك تحليل الأورانيوم حيثما وجد. فالأورانيوم يتحول ببطء إلى مادة الرصاص من خلال تفككه الإشعاعي. ومن قياس كمية الرصاص في عينة من الأورانيوم الخام يستطيع العلماء تقدير عمر الصخرة الحاضنة له.

وإضافة إلى الأورانيوم، هناك ساعة جيولوجية أخرى، هي «الكربون المشع». فكل الكائنات الحية تمتص هذا الكربون وتفككه، ومن خلال قياس معدل تفكك الكربون في جسم قديم يحتوي عليه، يمكن للعلماء تحديد موت هذا الجسم سواء أكان حيواناً أو نباتاً.

والساعة البيولوجية
في تكيفها مع الزمن، وقتت الكائنات الحية دورتها الحياتية وأوجه النشاط اللازمة لها استناداً إلى إيقاع الليل والنهار. فجسم الإنسان يحتاج إلى النوم ليلاً، وإلى التغذية كل ست أو سبع ساعات. كما أن النبات يتنفس خلال النهار بشكل معاكس لتنفسه ليلاً (تبدل امتصاص الكربون والنيتروجين من جهة والأكسجين من جهة أخرى). وقس على ذلك حياة كل الكائنات الأخرى وهذا ما يُعرف باسم الزمن البيولوجي، أو الساعة البيولوجية.

السنة المالية
وفي عالم الاقتصاد، وتحديداً عالم المصارف والشركات الكبرى، هناك ما يسمى السنة المالية، التي تشبه السنة الميلادية لجهة عدد الأيام، ولكنها تبدأ من وقت ما من هذه الأخيرة، وليس من مطلعها. ويختلف بدء السنة المالية من بلد إلى آخر. والغاية منها هو استطلاع أداء المؤسسة المالية أو الاقتصادية خلال سنة كاملة، ووضع مفصل محدد للمشاريع المستقبلية واحتساب العوائد وما شابه ذلك،

الشعر والمغنى
يشكوان الزمن.. للزمن

«قضية الزمن في الشعر العربي، الشباب والمشيب» هو عنوان دراسة من إعداد فاطمة محجوب، وصدرت عن دار المعارف في مصر. وتتضمَّن هذه الدراسة أكثر من 1500 بيت شعر، من القديم والحديث، تدور كلها حول مفاعيل الزمن على شخصيات قائليها.

سقنا هذه المقدمة لإيضاح سعة المساحة التي احتلها الزمن في الشعر العربي، من خلال موضوع واحد. فكيف الحال إذا أضفنا إليه كل الحُلل الأخرى التي ظهر بها؟

ففي إطار مفاعيل الزمن على شخص الشاعر، كلنا نعرف قول أبي العتاهية:
ألا ليت الشباب يعود يوماً
فأخبره بما صنع المشيب

والتمني الذي يبدأ به هذا البيت يؤكد إقرار الشاعر لاستحالة تحقيق ما يتمناه. وهذا ما يقوله في صيغة أوضح أبو العلاء المعري:
وقد تعوَّضتُ عن كلٍ بمشبِهِهِ
فما وجدت لأيام الصبا عوضا

وهناك شعراء ممن بكوا على الشباب باكراً جداً، مثل حبيب بن أحمد الأندلسي الذي قال وهو في الثلاثين من عمره:
ثلاثون من عمري مضين فما الذي
أؤمل من بعد الثلاثين من عمري؟
أطايب أيامي مَضَينَ حميدةً
سراعاً ولم أشعر بهن ولم أدْرِ

ومن هذين البيتين اللذين يهمسان بالحنين إلى الماضي أكثر مما يتضمنان شكوى من متاعب الشيخوخة، يمكننا أن ننتقل إلى «تيمة» الحنين إلى الماضي، الخالصة. وواحد من أكثر الأمثلة وضوحاً عليها، هو ما قاله الشاعر الأندلسي زهير بن بكر، في قصيدته «هل تُستعاد». وهي قصيدة تتغنى بمحاسن العيش في الأندلس وبهجته، مع ذلك يبدؤها الشاعر بقوله:
هل تستعاد أيامنا بالخليج
وليالينا
أويستفاد من النسيم الأريج
مسك دارينا
واد يكاد حسن المكان البهيج
أن يحيينا
فبهجة العيش في المكان البهيج، لم تقوَ على حنين الرجل إلى لياليه في الخليج.

والواقع أن الشعر العربي لم يترك جانباً من جوانب الزمن ومفاعيله واختلاف النظرات إليها إلا وعبَّر عنه. فالزمن حاضر في البكاء على الأطلال الذي كان قديماً من مستلزمات مطلع أية قصيدة. وهل الطلل هو غير صورة لمفاعيل الزمن على المكان؟
قفا نبكِ من ذكرى حبيب ومنزل
بسقط اللوى بين والدخول فحومل

فالصورة التقليدية كما يرسمها صدر هذا البيت ما كان يمكنها أن تكون على ما هي عليه لولا الزمن الحاضر هنا بمفاعيله كما هو حاضر بقوة في زمن الشاعر، وإن غاب ذكره مباشرة.

إن الجولة العشوائية على حضور الزمن في الشعر يمكنها أن تمتد إلى ما لا نهاية. فماذا لو حصرنا هذه الجولة في إطار؟ وليكن ذلك على سبيل المثال القصائد المغناة من شخص واحد: أم كلثوم.

في هذه الباقة وحدها، يمكننا أن نجد الزمن ومشتقاته في كل الصور التي يمكنها أن تخطر على بال.

ففي قصيدة جورج جرداق «هذه ليلتي» نرى اختيار الإنسان للحظة زمنية معينة ذات مكانة في نفسه:
هذه ليلتي وحلم حياتي
بين ماضٍ من الزمان وآت

وفي رباعيات عمر الخيام كما ترجمها الشاعر أحمد رامي، نقرأ شعراً يذكِّرنا بما قلناه سابقاً حول القلق الذي يثيره المستقبل في وجدان الناس:
غدٌ بظهر الغيب واليوم لي
وكم يخيب الظن في المقبل

وفي الرباعيات نفسها تطالعنا أيضاً نظرة إلى استمرارية الزمن وامتداده:
فكم توالى الليل بعد النهار
وطال بالأنجم هذا المدار

وفيها أيضاً نظرة إلى الحاضر مطابقة لبعض ما أوردناه سابقاً عن لسان بعض المفكرين، الذين يرون في الحاضر كل شيء:
لا تشغل البال بماضي الزمان
ولا بآتي العيش قبل الأوان
واغنم من الحاضر لذاته
فليس في طبع الليالي الأمان

وتتضمن هذه الباقة من القصائد المغناة صوراً شتى من صور الزمن الذي تحول على أيدي الشعراء إلى «شخص» يستمع ويتجاوب ويخون ويظلم وينتقم ويجور ويهنأ..

ففي قصيدة «ليه يازمان» العامية التي كتبها أحمد رامي أيضاً، نسمع أم كلثون تخاطب الزمن:
ليه يا زمن كان هواي
سبب شقاي وهواني
ثم تسأله:
يا هل ترى يا زماني
أرجع وأشوف الحبيب
ثم تشكك في وفاء الزمن:
وإلا تخون الأماني
وأحيا حياة الغريب

وفي قصيدة عبدالفتاح مصطفى «لسه فاكر» يصبح اسم الزمان، كل الزمان، مرادفاً للماضي الذي انتهى برمته: «لسه فاكر؟ كان زمان، كان زمان».

وفي القصيدة نفسها نرى «الأيام» بقسوة الإنسان:
ياما حليت لك آهات قلبي وهي
من قساوتك انت والأيام عليَّ

ولكن أقوى صور الزمن «المشخصن» في كل ما غنته أم كلثوم هو ما جاء في الكلمات التي كتبها عبدالوهاب محمد بعنوان «حسيبك للزمن»، حيث يصبح الزمن بحد ذاته ومن دون أي فعل مصاحب من قبل الإنسان، أداة انتقام مخيفة، لا تعرف الرحمة:
رايحة أسيبك للي
لا بيرحم ولا تقدر عليه
مش حَ قول لك
انت عارف الزمن رح يعمل إيه
الزمن هو اللي حيخلص لي تاري
الزمن هو اللي حيطفيلي ناري.

وختاماً، نشير إلى أن الشعر قادر على إعادة ترتيب الزمن كما يشتهي قائله. ومن أقوى الصور الشعرية في هذا المجال، هو ما نجده في قصيدةٍ وطنية لسعيد عقل خصَّ بها مدينة دمشق، ويقول فيها:
رُبَّ أرضٍ من شذى وندى
وجراحات بقلب عِدى
سكنت يوماً، فهل سكتت؟
أجمل التاريخ كان غدا

هل من الممكن
السفر عبر الزمن؟

على هامش الآلات التي اخترعها خيال الأدباء والسينمائيين، بقي السفر عبر الزمن حتى الأمس القريب موضوعاً خارج البحث في صفوف علماء الفيزياء. ولكن يبدو أنه بدأ يتسلل إلى اهتماماتهم، وإن كان لا يستحوذ منها إلا على بعض أوقات فراغهم. وغالباً ما يغلب على الأفكار المطروحة في هذا المجال شيء من الهزل والسخرية.

يقول علماء الفيزياء إن السفر عبر الزمن إلى الماضي أو المستقبل هو نظرياً أمر ممكن. ولكن شتان ما بين النظري والعملي.

نظرياً الأمر ممكن، لأن الفيزياء الحديثة (ما بعد أينشتابن) تنظر إلى الزمن كبُعد رابع بعد الأبعاد الثلاثة الأخرى. واستناداً إلى نظرية أينشتاين يرتبط هذا البعد الرابع بسرعة الحركة وفق الأبعاد الثلاثة الأولى. وتخلص هذه النظرية إلى أن الزمن يتوقف عن التقدم عند بلوغ سرعة الضوء، أي 300,000 كلم في الثانية. ونظرياً أيضاً، إذا تم تجاوز هذه السرعة يبدأ الزمن بالتراجع.. ولكن من المرجح أن وقتاً طويلاً جداً سيمضي قبل السعي جدياً إلى وضع هذه النظريات موضع تطبيق، أو حتى اختبار.

ولكن المدهش في الأمر أن أحد المواقع الإلكترونية الذي يبحث هذا الشأن، وطرح السؤال على مرتاديه، تلقى مئات الأجوبة التي تُجمع من دون استثناء على إمكانية السفر عبر الزمن في وقت ما قريباً. والأمر لا يكشف حتى الآن إلا عن الثقة الكبيرة التي استطاع العلم أن يغرزها في أنفسنا تجاه قدراته على الإنجاز.

بعض ما قيل في الزمن

• «الزمن مثل الريح، يحمل كل ما هو خفيف ويترك الثقيل فقط».
دومينيكو استرادا

• «الزمن هو المصحح عندما نخطئ في أحكامنا».
اللورد بايرون

• «الزمن هو أفضل الأطباء.. إنه يشفي كل الجروح».
مجهول، ينسب إلى عديدين

• «الزمن هو سيد عادل. كل إنسان يمتلك عدد الدقائق والساعات نفسه في اليوم. فلا الأثرياء يمكنهم أن يشتروا ساعات إضافية، ولا العلماء بمقدورهم أن يخترعوا دقائق جديدة».
مجهول

• «الزمن هو أطول مسافة بين مكانين».
تينيسي وليامس

• «إذا اعتنينا باللحظات، فستعتني السنوات بنفسها».
ماريا إدجورث

• «التحسر على الزمن الضائع هو مزيد من الزمن الضائع».
مايسون كولي

• «الوقت يبقى طويلاً بجانب الذين يستخدمونه».
ليوناردو دي فينشي

الزمن في
أكشاك الصحف والمجلات

تكمن المهمة الأساسية للصحافة في تدوين مجريات الأحداث خلال فترة زمنية محددة، ونشرها على الملأ. ونظراً للمنافسة ما بين المطبوعات الصحافية، يشكل اختيار اسمها قضية بالغة الأهمية، نظراً للدور الذي يمكن أن يلعبه في ترويجها. ومن كل مصادر الوحي التي اختارت منها الصحف والمجلات أينما كان في العالم، يبقى الزمن بمشتقاته المصدر الأول من دون منازع، استفادة من المكانة التي يحتلها الوقت والزمن في وجدان الناس.

فما من بلد في العالم إلا وتحمل بعض أبرز منشوراته الصحافية أسماء مشتقة من الزمن:
في المملكة، نجد صحيفة «اليوم»
في مصر، مجلة «آخر ساعة».
في لبنان، صحيفتا «النهار» و«المستقبل».
في فرنسا، نجد «نوماتان» (الصباح)، و«فرانس سوار» (فرنسا المساء)، وغيرهما..
وفي إيطاليا، «آل تامبو» (الزمن).

أما الاسم الأكثر رواجاً على مستوى العالم فهو «تايم» (أي الوقت أو الزمن) بالمفرد، أو بالجمع «تايمز». فإضافة إلى مجلة «تايم» الشهيرة، فلكل مدينة تقريباً في أمريكا والعالم الأنكلو ساكسوني بأسره صحيفتها اليومية التي تحمل اسم «تايمز» بعد اسم المدينة، مثل «نيويورك تايمز» و«لوس أنجلوس تايمز».. وصولاً إلى مجلة وصحيفة في «تايمز أوف إنديا» في الهند.

لكل حضارة تقويمها

أن يكون الزمن واحداً في كل الحضارات، فالأمر لا ينعكس توحيداً للقراءات المختلفة له في كل هذه الحضارات. وكلنا نتلمس يومياً مقياسين مختلفين للسنة: هجرية وميلادية.

فالتقويم الهجري يعتمد حركة القمر حول الأرض لقياس الزمن، وينطلق من تاريخ الهجرة النبوية الشريفة كبداية للسنة الأولى فيه. وهو التقويم المعتمد اليوم في بعض الدول الإسلامية ومنها المملكة، وهو أيضاً التقويم الذي اعتمد في كل تاريخ الثقافة الإسلامية. وهناك أيضاً التقويم الميلادي الذي يُعرف أيضاً بالتقويم الغريغوري نسبة إلى بابا الفاتيكان غريغوريوس الثالث عشر الذي أمر علماء الفلك في القرن السادس عشر بتصحيح التقويم «الجولياني» الذي وضعه الإمبراطور الروماني يوليوس قيصر عام 45 ق.م.، وكان لا يزال معمولاً به حتى آنذاك.

ويُعد التقويم الغريغوري أن تاريخ ميلاد النبي عيسى المسيح هو بداية السنة الأولى فيه. وقد تم اعتماد هذا التقويم تدريجاً في أوروبا الغربية بدءاً من العام 1582م، ولم يصل إلى أوروبا الشرقية إلا في بدايات القرن العشرين. وبسبب النفوذ الاقتصادي للدول الصناعية الغربية، وازدياد حركة التجارة العالمية في العصر الحديث، حظي هذا التقويم بما يصح أن نسميه «أخذه في الاعتبار» أكثر مما هو اعتراف عالمي به، أو تبنٍّ عام له.

فحتى اليوم، لا يزال لكل حضارة تقويمها السنوي الخاص بها. فهناك السنة الصينية (شمسية وقمرية في آنٍ) التي تبدأ من يوم مختلف. وفي الهند وحدها مثلاً، هناك التقويم الهندوسي، وفي إحدى ولاياتها (كيرلا) هناك تقويم سنوي آخر يُعرف باسم تقويم «الماليالام»، وفي دولة النيبال المجاورة هناك تقويم سنوي مختلف عن الاثنين السابقين. وتعدد المصادر عدد التقاويم السنوية المعمول بها في العالم حالياً بنحو 43 تقويماً، عدا التقاويم القديمة التي انقرضت بانقراض الثقافات التي أنجبتها، مثل تقويم حضارة المايا، الذي يحدد موقع «نهاية الزمن» في العام 2012م!! وكان وراء إنتاج الفِلم السينمائي الشهير الذي يحمل العنوان «2012»، وعرض مؤخراً في دور السينما وعلى شاشات التلفزيون.

أضف تعليق

التعليقات