الثقافة والأدب

«الأدب للوقاية من التعاسة»
يوسا.. آخر الفائزين بجائزة نوبل

بخلاف السنوات القليلة الماضية حين منحت جوائز نوبل للآداب لروائيين فاجأت أسماؤهم الكثيرين -بغض النظر عن مسألة استحقاق هؤلاء للجائزة- كانت جائزة هذا العام من نصيب الكاتب البيروفي ماريو بارغاس يوسا، «المرشح» منذ سنوات طويلة، والذي حظي منذ ما قبل ذلك بكثير بمكانة عالمية، وترجمت أعماله إلى كل اللغات الكبرى، بما فيها العربية منذ أكثر من عِقد أو عقدين.
رانيا منير تلخص هنا الخطوط الكبرى في سيرة هذا الأديب البيروفي، وتتوقف بشكل خاص أمام رؤيته الخاصة للأدب ودوره في الحياة، والقضايا التي تمحورت عليها معظم أعماله، قبل أن تختار لنا مقتطفات من روايته «التيس».

في نصيحة قدَّمها لروائي شاب يتمنى أن يكتب أدباً جيداً لا يموت حتى بموت كاتبه قال ماريو بارغاس يوسا:

«إن الجوائز والاعتراف العام، ومبيعات الكتب، والسمعة الاجتماعية للكاتب، لها مسار من نوعها، مسار تعسفي إلى أبعد الحدود. فهي تتجنب، بعناد أحياناً، من يستحقها بجدارة كبيرة وتحاصر من يستحقها أقل، وتثقل عليه، وهكذا يمكن، لمن يعتقد أن النجاح والشهرة هما الحافز الجوهري لميوله الأدبية، أن يرى انهيار حلمه وإحباطه، لأنه يخلط بين الميل الأدبي والميل إلى بريق الشهرة والمنافع المادية التي يوفرها الأدب لبعض الكُتَّاب (وهم محدودون). والأمران مختلفان. ربما كانت السمة الأساسية للميل الأدبي، هي أن من يمتلكه، يعيش ممارسة هذا الميل، باعتباره مكافأته الأفضل، وبأنه أكبر، بل أكبر بكثير، من كل المكافآت الأخرى التي يمكن له أن ينالها، كنتيجة لثمرات ميله. وهذا أحد الأمور المؤكدة لدي، بين أمور كثيرة أخرى غير مؤكدة، حول الميل الأدبي، فالكاتب يشعر في أعماقه، بأن الكتابة هي أفضل ما حدث، وما يمكن أن يحدث له. لأن الكتابة في نظره، هي أفضل طريقة ممكنة للعيش، بصرف النظر عن النتائج الاجتماعية أو السياسية أو الاقتصادية التي يمكن له أن يحققها، من خلال ما يكتبه.. أظن أن من يدخل الأدب، بحماسة، ويكون مستعداً لأن يكرس وقته وطاقته وجهده لهذا الميل، هو وحده من سيكون في وضع يمكنه من أن يصير كاتباً حقاً، وأن يكتب عملاً يعيش بعده».

وهكذا وبعد سنوات طوال من تجاهل نوبل لهذا الأديب البيروفي الذي كان لا يكتب ليعيش بل يعيش ليكتب؛ وعدم اكتراثه بالحصول على الجوائز طالما أنه يكتب ما يؤمن به، ها هو الآن يطل علينا في عقده السابع بشعره الفضي وأناقته اللافتة والكاريزما التي تتمتع بها عادة الشخصيات السياسية المشهورة؛ ليعلن أن نيله لجائزة نوبل يُعد اعترافاً بأهمية أدب أمريكا اللاتينية واللغة الإسبانية التي حصلت على نوع من المواطنة في العالم، وتأتي كذلك تأكيداً على قدرة هذه البلاد على إنتاج الفنانين والموسيقيين والرسامين والمفكرين والروائيين، وليس فقط الكوارث والطغاة والثوريين..

نشأته
ولد ماريو بارغاس يوسا في 28 مارس 1936م، من عائلة متوسطة في مدينة المقاطعات البيروفية أريكويبا. انفصل والداه قبل ولادته بأشهر، فعاش في بوليفيا مع عائلة أمه التي أخفت عنه طلاقها من أبيه، وأخبرته بأنه توفي. إذ كان انفصال الوالدين في ذلك الوقت يُعد فضيحة كبرى.

وبعد حصول جده على وظيفة دبلوماسية في المدينة الساحلية للبيرو عادت العائلة إلى البيرو ودخل ماريو المدرسة الابتدائية. في العاشرة من عمره انتقل للعيش في ليما وهناك قابل والده الذي عاد ليعيش معهما مجدداً في حي متوسط من أحياء ليما حيث قضى سنوات مراهقته.

كان ماريو يحب القراءة والأدب ولكن والده رأى في ذلك مضيعة للوقت، فقرر إرسال ابنه ذي الأربعة عشر عاماً إلى مدرسة عسكرية، ليتعلم الانضباط والالتزام فينضج ويتخلى عن أوهامه. إذ كان يرى أن من يعيش في بلد كالبيرو ليس بإمكانه أن يحلم بأن يصبح كاتباً، وإنما ينبغي له أن يفكر كيف سيجني عيشه. ولكن يوسا تابع القراءة والكتابة بنهم أشد. وقبل تخرجه بعام بدأ العمل كصحافي هاوٍ لجريدة محلية. وشهد في ذلك الحين الأداء المسرحي لأول عمل له.

سنة 1953م بدأ بدراسة القانون والأدب في الجامعة الوطنية في سان ماركوس، وهي أقدم جامعة في الأمريكيتين. وبعد سنتين تزوج بامرأة تكبره بسنوات عشر، وكان حينئذ في التاسعة عشرة من عمره، لكن هذا الزواج الذي اقتبس منه روايته الكوميدية «العمة جوليا والكاتب» 1977م، لم يدم أكثر من بضع سنوات، وانتهى بالطلاق ليتزوج بعدها من قريبة له، وهي باتريشيا يوسا التي أنجبت له ثلاثة أطفال. وما زالت ترافقه مسيرة حياته حتى اليوم.

مدخله إلى معترك الأدب
بدأ حياته الأدبية بشكل ملتزم وجاد سنة 1957م مع إصدار مجموعته القصصية الأولى وكتابته في بعض الجرائد المحلية. كانت أعماله الأولى مشبعة بروح الظلم والتعسف وبمشكلات التعصب والجهل والفقر التي تعانيها بلاده. ورغم معالجته فيما بعد لموضوعات وأفكار عالمية، إلا أن مشاعره المعقدة والمتناقضة تجاه البيرو تتسرب عبر جميع أعماله لتشكل حبلاً سرياً يربط بينها جميعاً.

بعد تخرجه سنة 1958م، تلقى منحة للدراسة في جامعة كومبلوتنس في مدريد لمدة سنتين. انتقل بعدها إلى فرنسا، آملاً بالحصول على منحة دراسية أخرى هناك. إلا أن طلبه قوبل بالرفض ورغم حالته المادية السيئة، لم يشأ مغادرة باريس مهبط وحي الشعراء والأدباء، فقرر البقاء هناك وبدأ يكتب بغزارة. فهو كأي مثقف من بلدان العالم الثالث يحلم بالذهاب إلى فرنسا ومقابلة أدبائها، فقد كان مغرماً بسارتر وكامو، وكان يعشق غوستاف فلوبير الذي كانت الكتابة بالنسبة له عبارة عن «طريقة في الحياة». وقد استفاد كثيراً في بداياته من قراءة مراسلات فلوبير التي صاغ فيها نظرية متكاملة حول الجنس الروائي. وكذلك كان معجباً ببورخيس وسرفانتس وفوكنر وهيمنغواي ومالرو ودوس باسوس. وقد ربطه الأدب بصداقة مع غابرييل غارسيا ماركيز حيث نشر يوسا سنة 1971م دراسة نقدية لقصة ماركيز، وكانت موضوع أطروحته لنيل شهادة الدكتوراة في جامعة مدريد. إلا أن خلافاً حول الشؤون السياسية وقع بينهما سنة 1976م انتهى بلكمة من يوسا على وجه ماركيز، وقطيعة استمرت بينهما لثلاثين سنة دون أن يصرح أي من الطرفين عن أسباب هذا الخلاف.

الناقد الصارم
نشر يوسا روايته الأولى سنة 1963م بعنوان «مدينة الكلاب». وتجري أحداثها في أكاديمية عسكرية في البيرو، حيث يروي تجربته الخاصة في تلك الكلية منتقداً نظامها التعسفي. ورغم أنها حظيت بإعجاب النقاد لقدرته على استخدام أسلوب أدبي معقد رغم حداثة سنه وتجربته، إلا أنه أثار استياء إدارة الأكاديمية التي أحرقت ألف نسخة من الرواية في الساحة العامة متهمة يوسا بالعمالة للأكوادور وتقويض هيبة الجيش البيروفي.

يقول يوسا: «إن لعبة الأدب ليست من النوع غير المؤذي. فالخيال الذي هو نتاج عدم رضا حميم ضد الحياة، كما هي عليه، هو أيضاً مصدر استياء وعدم رضا، لأن من يعيش، من خلال القراءة وهماً كبيراً، يعود إلى الحياة الواقعية بحساسية أكثر تيقظاً بكثير، حيال محدوديتها ونقائصها. ويعرف من خلال تلك الروايات التخيلية العظيمة، أن العالم الواقعي، والحياة المعيشة، هما أقل صدقية بكثير من الحياة التي اختلقها الروائيون. هذا القلق، في مواجهة العالم الواقعي، الذي يثيره الأدب الجيد في النفوس، يمكن له، في ظروف معينة، أن يترجم أيضاً إلى تمرد. ولهذا السبب، ارتابت محاكم التفتيش الإسبانية بالروايات التخيلية، وأخضعتها لرقابة صارمة، بلغت حد حظرها في كل المستعمرات الأمريكية، طوال ثلاثمئة سنة».

لكن يوسا لم يتوقف عند هذا الحد، وتابع معركته الكيخوتية في محاربة الظلم والتعسف. فجاءت روايته الثانية «المنزل الأخضر» 1965م التي حازت لجائزة «رومولو غاليغوس» للرواية الدولية، لتؤكد إبداعه وترسخ اسمه في أدب أمريكا اللاتينية. وتتحدث عن بيت دعارة يطلق عليه اسم «المنزل الأخضر» ووجوده شبه الأسطوري الذي يؤثر في حياة الشخصيات السياسية التي ترتاده.

أما رواية «محادثات في كاتدرائية» 1969م، فتعد من ألذع رواياته. فهي تروي قصة سانتياغو زافالا، ابن وزير في الحكومة، الذي تجري بينه وبين سائقه محادثات في حانة، حيث يحاول زافالا من خلالها البحث عن حقيقة دور والده في مقتل شخص سيء السمعة في البيرو. وينتهي هذا البحث بمقتله من دون أن يتمكن من إيجاد إجابة واضحة أو بريق أمل لمستقبل أفضل. انتقد يوسا من خلال هذه الرواية حكومة الجنرال أودريا، وسلَّط الضوء على ممارسات السلطة الدكتاتورية التي تحكم وتسيطر على حياة الآخرين وتدمرها.

أعماله الكبرى
عام 1981م، نشر يوسا عمله المهم الذي يُعد تحفة يوسا الفنية وكتابه المفضل، حسب تعبيره، والذي تطلب منه جهداً كبيراً لإنهائه وكان أول تجربة له في مجال الرواية التاريخية المأساوية وهي بعنوان «حرب نهاية العالم». تستند أحداث هذه الرواية على وقائع حقيقية جرت في البرازيل في القرن التاسع عشر في فترة التدهور الاقتصادي الذي تلى سقوط الإمبراطورية البرازيلية. ويجسد فيها حلمه الدائم بالبحث عن المدينة الفاضلة، ويطرح من خلالها موضوعات جديدة كالخلاص والسلوك البشري اللاعقلاني والبحث عن دوافع تمجيد العنف والتعصب. كما كانت أول رواية يخرج بأحداثها من نطاق المجتمع البيروفي حيث اعتادت أن تجري أحداث رواياته السابقة.

وأتت رواية «حفلة التيس» عام 2000م، لتتوج أعماله التي توجه انتقاداً لاذعاً للحكومات والسياسات الاستبدادية. وتتناول قصة الديكتاتور رافائيل تروخييو الذي استمر حكمه الدموي لجمهورية الدومينيكان منذ عام 1930م وحتى اغتياله عام 1960م. حيث تصور أحداث الرواية جرائم الحاكم المستبد وفضائح حاشيته الفاسدة، مما أثار بعض البلبلة في مجتمع سانتو دومينغو، نظراً لكون جميع الشخصيات مأخوذة من الواقع. كما تكشف الرواية أثر النظام الديكتاتوري والعنف والتعسف على الإنسان من خلال قصة امرأة تتم خيانتها من قبل والدها الذي يقدِّمها وهي طفلة للدكتاتور الفاسد لإشباع نزواته.

ومن أعمال يوسا في الرواية أيضاً: «الحياة الحقيقة لاليخاندرو مايتا»، «من قتل بالومينو موليرو»، «قصة مايتا»، «دفاتر دون ريغوبيرتو»، «ليتوما في جبال الاندير»، «بانتا ليون والزائرات»، «شيطنات الطفلة الخبيثة»، «امتداح زوجة الأب». كما كتب في النقد: «لغة الشغف»، «رسائل إلى روائي شاب»، «السمكة في الماء»، «الحقيقة من الأكاذيب»، «بين سارتر وكامو».

خسر كرسي الرئاسة
وكسب القرَّاء
ظل يوسا مؤمناً بالأدب الملتزم بقضايا أمته، ورافضاً هروب الأديب من واقعه، وأن يكون أدبه مجرد كيخوتية تحارب طواحين الهواء. فهو يحلم بمدينة فاضلة يشارك الأديب فيها بتغيير مجتمعه، لا من خلال عالم الكلمات والخيال فقط، وإنما بالمشاركة الفعلية ودخول معترك الحياة السياسية. فقد كان يرى أنه من المستحيل على أدباء أمريكا اللاتينية أن يتجنبوا الحديث في السياسة «فالأدب هو تعبير عن الحياة ولا يمكن إلغاء السياسة من الحياة».

في فترة الحياة الجامعية ومرحلة الشباب الجامح المتحمس، كان يوسا من أشد أنصار حكومة فيدل كاسترو. ثم بدأت معتقداته بالتبدل عندما وجد أن الاشتراكية الكوبية لا تتفق مع متطلبات الحريات العامة، ولا سيما عندما قام نظام كاسترو بسجن الشاعر هيبرتو باديلا سنة 1971م. فتقدم مع مجموعة من المثقفين باحتجاج للحكومة على سجن الفنان. وبهذا مرَّ يوسا بعدة مراحل سياسية وتعرَّض لكثير من خيبات الأمل والصدمات، انتقل خلالها من اليسار المتطرف إلى اليمين الليبرالي معارضاً جميع الأنظمة الاستبدادية ومتبنياً القضايا الإنسانية العالمية.

وفي عام 1990م دخل الانتخابات الرئاسية في البيرو، لكنه خسرها بعد أن أدرك كيف يمكن للأديب والسياسي أن يستخدما اللغة ذاتها وإنما بأسلوب مختلف تماماً. واكتشف أنه لم يكن من المفيد أن يملك أفكاراً في حملة انتخابية.. وكم أن الشعارات والأكاذيب كانت فعالة!.

يعيش يوسا حالياً في لندن منذ عام 1990م. وقد حصل على الجنسية الإسبانية حيث يقضي هناك إجازاته ويحضر المؤتمرات. وقد انتخب عام 1994م عضواً في الأكاديمية الملكية الإسبانية وما زال يكتب للصحافة، وينشر الروايات الأدبية ويسافر كثيراً، ويدرّس كأستاذ في عدة جامعات مرموقة ويُعد الضمير الأخلاقي لبلاده، فهو المفكر الليبرالي الأكثر تأثيراً.

في الإعلان عن فوزه بجائزة نوبل لعام 2010م جاء أن تكريمه هذا كان: «لبراعته في تجسيد الصراع على السلطة وتصوير المقاومة والثورة والهزيمة داخل الفرد». وتبرز هذه الموضوعات بقوة في روايتيه: «محادثات في الكاتدرائية» و«حفلة التيس». إذ لم يتناول فقط موضوع الديكتاتورية باعتبارها عنصراً رئيساً في أدب أمريكا اللاتينية وإنما قدم تحليلاً نفسياً دقيقاً للسلطة المطلقة وقدرتها على تشويه القيم الأخلاقية والجمالية في نفوس الشعب.

مقتطفات من «حفلة التيس»
صدرت الترجمة العربية لهذه الرواية عام 2000م، بقلم صالح علماني الذي تولى ترجمة معظم أعمال ماريو بارغاس يوسا..

«هل أحسنتِ صنعاً بالعودة؟ ستندمين يا أورانيا. تبددين أسبوع إجازة، أنت التي لم تجدي الوقت قط للتعرف إلى مدن ومناطق وبلدان كثيرة كنت تحبين مشاهدتها- الجبال والبحيرات الجليدية في ألاسكا مثلاً- تبددينه في الرجوع إلى الجزيرة التي أقسمت ألا تعودين إلى وضع قدميك فيها. أهي أعراض انحطاط؟ أهي عاطفة خريفية؟ إنه الفضول، وليس أكثر. أن تثبتي قدرتك على المشي في شوارع هذه المدينة التي لم تعد مدينتك، التجول في هذا البلد الغريب من دون أن يثير فيك ذلك الحزن أو الحنين أو الحقد أو المرارة، أو السخط».

****
«أتشمئزين منه؟ أتكرهينه؟ هل ما زلت كذلك؟»، «لا، لم أعد كذلك»، تقول بصوت عالٍ. «ما كنت ستعودين لو أن الضغينة ما زالت تتأجج، ولو أن الجرح مازال ينزف؟» مثلما كانت في شبابها، حين كانت تدرس، تعمل، حين تحولت الدراسة والعمل إلى هاجس ووسيلة لعدم التذكر. لقد كانت تكرهه فعلاً آنذاك . بكل ذرات كيانها، بكل الأفكار والمشاعر التي يتسع لها جسدها. «تمنيت له النكبات، الأمراض، الحوادث. ألا يكفي أن النزيف الدماغي قد قتله في الحياة؟ انتقام لذيذ أن يعيش منذ سنوات عشر على كرسي متحرك، دون قدرة على المشي، على الكلام، معتمداً على ممرضة في أكله، نومه، لبسه، خلع ثيابه، قص أظفاره، حلاقة ذقنه، تبوله، تغوطه؟ أتشعرين بالتعويض؟ لا».

****
«لا تتذكر من طفولتها، عندما كانت العاصمة سانتو دمنغو تسمى مدينة تروخييو، أنه كان هناك مثل هذا الصخب في الشارع. ربما لم يكن موجوداً، ربما كانت المدينة أكثر صمتاً وأقل هستيرية قبل خمس وثلاثين سنة، عندما كانت أصغر مما هي عليه الآن بثلاث أو أربع مرات، مجرد مدينة ريفية، معزولة، هاجعة في الخوف والخضوع والمذلة، روحها منقبضة توقيراً ورعباً من الزعيم، الجنراليسمو، المنعم، أبي الوطن الجديد، صاحب الفخامة الدكتور رافائيل ليونيداس تروخييو مولينا.»

****
«لقد وجد الزعيم بلداً تسوده البربرية بسبب حروب الزعماء المحليين، لا قانون فيه ولا نظام، بلد مُفقر، آخذ بفقدان هويته، يجتاحه الهايتيون، جيرانه المتوحشون. يخوضون نهر ماساكيري ويأتون لسرقة الممتلكات، المواشي، البيوت، وينتزعون العمل من عمالنا الزراعيين، ويشوهون ديانتنا الكاثوليكية بشعوذاتهم الشيطانية، يفسدون ثقافتنا، ولغتنا وعاداتنا الغربية الهسبانية، فارضين علينا عاداتهم الإفريقية الهمجية. وقد وضع الزعيم حداً لتلك المعضلة: «يكفي!». الدار الكبير يحتاج إلى علاج كبير! لم يكن أبوها يبرر تلك المجزرة ضد الهاييتيين في العام سبعة وثلاثين وحسب: بل كان يعدها إحدى مآثر النظام. ألم ينقذ الجمهورية من التعهر للمرة الثانية في التاريخ على يد ذلك الجار النهاب؟ وما أهمية موت خمسة، أو عشرة، أو عشرين ألف هاييتي إذا كان الهدف هو إنقاذ شعب؟»

****
«شقتي في منهاتن مملوءة بالكتب مثلما كان هذا البيت في طفولتي. كتب في الحقوق، في الاقتصاد، في التاريخ. أما في غرفة نومي فلا توجد إلا كتب دومينيكانية. شهادات، دراسات، مذكرات، كتب تاريخ كثيرة. احزر عن أي عهد كلها؟ وعن أي عهد ستكون، عن عهد تروخييو بالطبع. فهو أهم ما جرى لنا طوال خمسمائة سنة. هذا ما كنت تقوله بقناعة راسخة وهذا صحيح يا أبي. ففي الإحدى والثلاثين سنة تلك تبلور ما كنا نجرجره من خبث منذ الغزو الإسباني. إنك تظهر في بعض تلك الكتب، كشخصية مهمة. وزير دولة، سيناتور، رئيس الحزب الدومينيكاني. وهل هناك شيء لم تكنه يا أبي؟ لقد تحولت إلى خبيرة بتروخييو. فبدلاً من لعب البريدج أو الغولف، وبدلاً من امتطاء الخيول أو الذهاب إلى الأوبرا، صارت هوايتي هي معرفة ما حدث في تلك السنوات. من المؤسف أننا لا نستطيع تبادل الحديث. فكم من الأمور يمكنك توضيحها لي، أنت الذي عشت تلك السنوات في الممارسة، معك زعيمك المحبوب، الذي دفع ثمن ولائك له بأسوأ الأثمان.»

****
«لن تفهمي ذلك يا أورانيا. هناك أشياء كثيرة من العهد استطعت فهمها، بعضها بدت لك في البدء غير قابلة للتفسير، ولكنك من خلال القراءة، والاستماع، والمقارنة والتفكير، توصلت إلى فهم كيف يمكن لكل تلك الملايين من الأشخاص المهروسين بالدعاية والافتقار إلى المعلومات، المخبولين بالتلقين العقائدي والعزلة، المحرومين من حرية الاختيار، ومن الإرادة وحتى من الفضول بسبب الخوف منه وحسب، وإنما إلى حبه، مثلما يتوصل الأبناء إلى محبة الآباء المتسلطين، وإقناع أنفسهم بأن الجلد والعقوبات إنما هي لمصلحتهم. ولكن ما لم تفهميه مطلقاً هو أن الدومينيكانيين الأكثر تأهيلاً، أدمغة البلاد، من محامين، وأطباء، ومهندسين، متخرجين أحياناً من جامعات كبيرة في الولايات المتحدة أو أوروبا، الحساسين، المثقفين، ذوي الخبرة، والقراءات، والأفكار، والمفترض أن لديهم إحساساً متطوراً للشعور بالسخرية، يتقبلون أن يكونوا محط تنكيل بتلك الطريقة الوحشية (وجميعهم تعرضوا لذلك في إحدى المرات) مثلما جرى في تلك الليلة، في باراهونا.»

****
«أهناك ما يستحق كل ذلك يا أبي؟ أكان الوهم بالتمتع بالسلطة؟ أحياناً أفكر أن لا، وأن الازدهار كان أمراً ثانوياً. وأنكم في الحقيقة كنتم تستلذون التلوث بالقذارة. وأن تروخييو قد أخرج من أعماق أرواحكم ميلاً مازوشياً، ككائنات تحتاج إلى من يبصق عليها، يهينها، لأنها بالتحقير تجد ذواتها.»

****
«ليس هناك ما يقيد المرء مثل الدم، هذا صحيح. أيكون هذا هو سبب إحساسه بالارتباط ببلاد الجاحدين والجبناء والخونة هذه . فلكي يخرجها من التخلف، من الفوضى، من الجهل والبربرية، اضطر إلى أن يلطخ نفسه بالدم مرات كثيرة. هل سيشكره في المستقبل هؤلاء الأوغاد؟»

****
«إنها بلاد جميلة على الرغم من كل شيء. وستكون أجمل بعد موت هذا اللعين الذي أغرقها بالعنف وسمّمها خلال الثلاثين سنة الماضية أكثر مما جرى طوال قرن كامل عاشته الجمهورية تحت الاحتلال الهاييتي، وطوال الغزو الإسباني والأمريكي الشمالي، والحروب الأهلية وصراعات الفئات والزعماء المحليين، وأكثر من كل الكوارث- زلازل وأعاصير- التي نزلت بالدومينيكانيين من السماء، أو البحر، أو من أعماق الأرض. وما لا يستطيع أن يغفره له هو أن التيس، ومثلما عهّر وسفّل هذه البلاد، قد عهر وسفل كذلك أنطونيو دي لاماثا».

****
«كان الجنرال وراء مكتبه يرتدي بدلة عسكرية لا يتذكرها أنطونيو، سترة بيضاء وطويلة ذات أذيال، مع أزرار ذهبية وكتفيتين بحواش مذهبة، وعلى صدره تتدلى مروحة من الميداليات والأوسمة المتعددة الألوان. وكان يرتدي بنطالاً أزرق فاتحاً من قماش قطني ناعم مع خط أبيض عمودي على الجانبين. إنه مستعد لحضور احتفال عسكري ما. كان نور المصباح يضيء الوجه العريض، الحليق بعناية، والشعر الرمادي المسرح جيداً، والشارب الذبابي، على طريقة هتلر (الذي سمع أنطونيو أن الزعيم معجب به «ليس بسبب أفكاره، وإنما بسبب طريقته في ارتداء الزي العسكري وترؤس استعراضات الجيش»). تلك النظرة الثابتة المباشرة جمدت أنطونيو في مكانه فور اجتيازه العتبة. توجه إليه تروخييو بعد أن تفحصه لبعض الوقت:

– أعرف أنك تظن بأنني أنا الذي أمرت بقتل أوكتافيو وأن مسألة الانتحار ما هي إلا مهزلة دبرتها الاستخبارات. لقد بعثت في طلبك لكي أقول لك شخصياً إنك مخطئ. لقد كان أوكتافيو من رجال النظام. وكان مخلصاً وتروخييوياً على الدوام. وقد عينت للتو لجنة برئاسة مدعي عام الجمهورية، المجاز فرانثيسكو إيلبيديو بيراس، بصلاحيات واسعة لاستجواب الجميع، عسكريين ومدنيين. فإذا كانت مسألة انتحاره ملفقة، فسوف يدفع المذنبون الثمن.

كان يكلمه من دون عداء ومواربات، ناظراً إلى عينيه بالطريقة المباشرة والحاسمة التي يكلم بها على الدوام مرؤوسيه، وأصدقاءه، وأعداءه. بقي أنطونيو بلا حراك، مصمماً أكثر من أي وقت آخر على الانقضاض على ذلك المهرج والضغط على عنقه، دون أن يتيح له الفرصة لطلب المساعدة. وكما لو أن تروخييو أراد تسهيل المهمة عليه، فقد نهض واقفاً وتقدم باتجاهه، بخطوات بطيئة، وقورة، وكان حذاؤه الأسود أشد لمعاناً من خشب أرضية مكتبه المطلي بالشمع.

– كما خولت مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي بالمجيء للتحقيق هنا في موت ذلك المدعو مورفي- أضاف بالنبرة الحادة نفسها- إن في ذلك خرقاً لسيادتنا بالطبع. هل يسمح الأمريكيون لشرطتنا بالذهاب للتحقيق في مقتل دومينيكاني في نيويورك أو واشنطن أو ميامي؟ فليأتوا. وليعلم العالم بأسره بأنه ليس لدينا ما نخفيه.

كان على بعد متر منه. لم يكن بإمكان أنطونيو مقاومة نظرة تروخييو الهادئة، وكان يرمش دون توقف.

– أنا لا ترتعش يدي عندما يتوجب علي أن أقتل- أضاف بعد توقف قصير، وقد اضطررت من أجل مصلحة هذه البلاد إلى عمل ذلك مرات كثيرة. ولكنني رجل شرف. والمخلصون لي أحاكمهم، لا آمر بقتلهم. وأوكتافيو كان مخلصاً، من رجال النظام، تروخييوي مجرب. ولهذا السبب، تدخلت كي لا يذهب إلى السجن عندما أفلتت يده في لندن وقتل لويس بيرناردينو. سيتم التحقيق في موت أوكتافيو. وأنت وأسرتك يمكنكم المشاركة في أعمال لجنة التحقيق.

دار على عقبيه، وعاد بالطريقة الهادئة نفسها إلى مكتبه. لماذا لم ينقض عليه عندما كان قريباً في متناول يده؟ ما زال يسأل نفسه هذا السؤال بعد أربع سنوات ونصف السنة. ليس لأنه صدَّق كلمة واحدة مما قاله له. فذلك كان جزءاً من المهزلة التي كان تروخييو شديد التعلق بها والتي تفرضها الدكتاتورية على جرائمها، كلمسة إضافية ساخرة على الأعمال المفجعة التي تقوم عليها. لماذا إذن؟ ليس بسبب الخوف من الموت، لأنه لا وجود للخوف من الموت بين كل نقائصه التي يعترف بها. فمنذ أن كان متمرداً مع حفنة من القوات الهوراسية قاوم الدكتاتور بالرصاص، وقامر بحياته مرات كثيرة. ما منعه من الانقضاض عليه هو شيء أكثر غموضاً وإبهاماً من الخوف: إنه ذلك الشلل، تخدر الإرادة والقدرة العقلية وحرية المشيئة الذي يمارسه ذلك الرُّجيل المتأنق إلى حد الإضحاك، ذو الصوت الناييّ والعينين المنومتين، على كل الدومينيكانيين الفقراء والأغنياء، المثقفين والجهلة، الأصدقاء والأعداء. ذلك هو ما أوقفه هناك صامتاً، سلبياً، مصغياً إلى تلك الأكاذيب، كشاهد وحيد على تلك التلفيقة، عاجز عن تحول إرادته في الانقضاض عليه إلى ممارسة ووضع حد لاجتماع الساحرات والمشعوذين الذي تحول إليه تاريخ البلاد».

أضف تعليق

التعليقات