زياد السالم، قاص سعودي يحمل في ثنايا تجربته العديد من أمارات الإبداع والتفرّد، وتمثل مجموعته “وجوه تمحوها العزلة” واحدة من التجارب القصصية السعودية الجديرة بالاحتفاء النقدي، والمراجعة والمحاورة.
القاص والكاتب علي زعلة يتناول المجموعة في قراءة خاصة بـ “القافلة”..
“وجوه تمحوها العزلة” مجموعة قصصية صدرت عام 2001م عن دار “أزمنة” بالأردن، لكاتب ينتمي إلى الجيل الجديد من كتّاب القصة السعوديين، وهم أولئك الذين باشروا نشر أعمالهم في النصف الثاني من تسعينيات القرن المنصرم. وقد حملت تجربة زياد السالم، صاحب المجموعة، سمات عامة غلبت على إنتاج الجيل الجديد من القاصين الطافحة بمظاهر الإحباط والغربة، كما اللغة الجديدة ومحاولات التجريب عبر النصوص القصصية الحوارية، وارتياد آفاق جديدة في أشكال الكتابة السردية.
السالم تميز بلغته الخاصة ومراوغته وقدرته على قول ما لا يمكن قوله عبر القوالب المعتادة، بالإضافة إلى التجارب الحيوية التي يبدو أثرها جلياً من خلال النصوص، وهي تجربة قاسية في ما يبدو! وقد نجح من خلال مجموعته أن يمارس تجربة بكل تميز، كما سنحاول أن نقاربه في السطور التالية.
أربعة نصوص قصصية فقط هي التي ضمتها المجموعة في صفحاتها التي لم تتجاوز الخمسين، لكنها، وبما توفر لدى كاتبها من جرأة وتمكن من آلاته الفنية وثقة عالية، استطاعت أن تقدّم تجربة شعورية وإبداعية متكاملة إلى حدّ بعيد.
الإنسان حالة
تبرز هذه القيمة بوضوح في طرح المجموعة القصصية، عبر ثنائية حوار الإنسان / الحالة، والحالة / الإنسان، حتى إننا نحار في تحديد ما حاولت النصوص طرحه بدقة، هل تدور الفكرة حول الإنسان حين يدور في حالة معينة وترصد تقلباته أثناءها وتتقصى الظواهر والغوص في المجالات السيكولوجية والعقلية؟ أم أن فكرة الكتابة تدور حول حالة معينة في محاولة لرصد انعكاسات أعراض هذه الحالة على الذات الإنسانية وكيف يصبح الإنسان أنموذجاً متحركاً على هذه الحالة؟ الحالة أم الذات أم أنه لا خلاف بين الفكرتين ولا فرق، وأصبح أنا ساعتها أمارس هذياناً ما ، تماماً كالذي يمارسه زياد في بعض سطوره المتأرجحة.
الوجه الذائب… للصحراء
ابن الصحراء أو الكائن الصحراوي المنبسط انبساطها الواضح وضوحها، الفطري الساذج في شعوره وتفكيره وحتى انفعالاته وغرائزه التي من أهمها وأقواها غريزة البقاء والعزة والشموخ، الذي أخذ من عذريتها بياض سريرته ونقاءه ومباشرته وعدم القدرة على المراوغة والتقلب، بكل تلك المقومات الصحراوية لم يستطع ذلك الكائن التعايش مع هذا العصر الملوّن، والمتقلب في أشكاله وهيئاته، المتغير في قيمه الحضارية والإنسانية بعامة، حتى صار بحسب الشاعر العربي الكبير عبد الله البردوني:
كلّ شيءٍ صار ذا وجهين لا
شيءَ يدري أي وجهيه أصحّ
حين استعارت القرية وجه المدينة بكل مكتسباتها الحقيرة والسامية، بالثراء والتطور والحداثة والعيش الرغيد والحياة الإلكترونية، كما في المقابل بالقمع والظلم والأدلجة والعمالة والجاسوسية، يجد ابن الصحراء نفسه أمام قرية / مدينة لا يمكن توصيفها بدقة، فلا هي عادلة ولا هي ظالمة، وليست طيبة أو شريرة … فـ “كل شيءٍ صار ذا وجهين”! من هنا حلّت المعاناة مع الحضارة بوجوهها المتعددة وظواهرها التي تخالف، بل تخاتل جوهرها. ففرضت على سليل الصحراء المغروس في (حضوضا) سياج عزلة قسرية أقصته عن الناس الذين يحبهم بفطرته لأنه لا يستطيع التماهي معهم عبر مسارب حياتهم الراهنة.
دوامة العزلة
“أنا مسكين يا عم، حزين وأخاف الوحدة، أهرب من الناس لأنني أحبهم، وعاجز عن أن أكون ذرة رمل، كثيراً ما أرى وجوهاً شفافة على الجدران وفي منعطفات المدينة الجاثمة كنسر، تلوّح لي أيدٍ متداخلة، سجلّ حافل بالارتكاس والخناقات لديَّ خبرات فشل ولا أستطيع التخطيط لحياتي”. (ص 45)
ثمة صراع ديالكتيكي من نوع خاص يعتري هذا الإنسان / الحالة محور النصوص، إذ يهرب من الذوبان في الناس (الذوات الأخرى) الذين يحبهم ويميل إليهم باعتبار وحدة الجنس والنوع والمصير، لكنه عاجز عن التداخل معهم في ما صاروا إليه حين (استعارت القرية صورة المدينة) ما يشكّل غربة وعزلة حقيقية لينكفئ على نفسه ويذوب في ذاته مؤثراً عزلته مع أطياف أحلامه الذائبة وآماله المعطّلة موغلاً في الذكريات البعيدة.
رجلٌ في الظلّ… ولا ظلّ له
القصة الأولى في المجموعة هي “مرثية رجل الظل” التي يكاد يطل من خلالها (أولريش) بطل رواية (الرجل الذي لا خصال له) للروائي النمساوي روبرت موزيل. أولريش ذلك الرجل الذي لا يحمل خصالاً واضحة أو محددة ، ويتقلب في هذا العالم محاولاً إيجاد خصال له على نحو ما. وما يهمنا هنا مقولة أولريش “لا يمكن للمرء أن يغضب على زمنه الحاضر من دون أن يلحق الضرر بنفسه”!! فبطل زياد السالم يتبدى من خلال نصوصه نسخة أخرى عن أولريش بطل موزيل الذي لا خصال له، فهو رجل في الظل ولا يملك ظلاً خاصاً به، أولريش كذلك كان مستعداً دائماً لأن يحبّ كل التكوينات المعلنة عن الحياة، لكن ما لم يستطع تحقيقه قط هو أن يحبها من كل قلبه كما يقتضي الحسّ العام للتكوين الاجتماعي، فقد بقيت منذ فترة طويلة نسمة من النفور من كل شيء فعله أو عاشه!!
تُعدّ قصة “مرثية رجل الظلّ” اختزالاً ناجحاً لكافة القيم التعبيرية والفنية لنصوص المجموعة، كما تقصّ حالة العزلة التي تقاربها المجموعة..
“رجل ما
أخذ مقعده الشاغر في المقبرة مجاوراً الضباع المتوفزة لنبش القبور
الأرض : تتنفس في وجهه..
هو: سادر بحزنه ينفث دخان السجائر
بعد أن: أدرك أن كل حروبه الخاسرة، إن هي إلا شغب أطفال يخربون بيوتهم بأيديهم.
عن حبّ قديم: أين نوال يا ترى؟
وأخيراً قرر الرقص.. فتحلّلت أعضاؤه، فتحول إلى غيمة تطير في السماء”.
تعبُر هذا النص بكائية قاتمة، رجل أو ربما قلنا بقايا رجل، يقتعد المقبرة معتزلاً كل الأرض كما يليق بمحارب قديم خسر حروبه المجيدة كلها تماماً كما يخرب الأطفال بيتاً رملياً قضوا نهارهم في تشييده!
وعن حالته يقول “كنت منبتاً وقصياً كناي سقط سهواً من جعبة راعٍ ذاهل فعلقته طفلة البراري على غصن متهتك فبحّ من فرط الحزن صوته.. يا الله”!
المقبرة خير من معاشرة القبور المتحركة (البشر) الآثمة، البشر الملطخين بالمدنيّة، آثر التقوقع والتوحّد مع ذاته في عزلة عن العالم كما في خلوة صوفية، عزلة إلى الداخل كما يقول ريلكه في مفتتح الكتاب.
العزلة القصية وفي مقابلها الخلوة الروحية والفكرية أفرزتا وعياً مضاعفاً بمكنونات الذات ومساربها، فيما ضاعفتا المسافة ما بينه وبين البشر من أبناء مدينة اليوم، بينما بقي هو برؤية ابن الصحراء ومفاهيمه، غريباً عنها جاهلاً بفرضياتها وقوانينها (كيف له أن يبرّر براغماتية الوجود وقد أضاع أجندته في دهليز تتلاشى فيه كل الوجوه)!
كلّ شيء هامد، و.. يبكي
“سنوات العزلة” بهذا العنوان جاء النص الثاني في كتاب السالم، متقصياً عالم العزلة المفروضة، حين لا تكون طواعية ومضجرة باختيار، كما لدى ريلكه “آه، هذه الرغبة في البدء بالكتابة، ودائما أمامي كل هذا الطريق المسدود، ماذا سيكون عملي؟ كل الصباحات أستيقظ من أجل هذا الأمل غير المفيد معكّراً ومرفوساً من عدم أهليتي”.
حين لا تكون العزلة اختيارية، بل قسرية يصبح كل شيء في محيطها هامداً.. كالموت، ويبكي مثل ناي ألقاه راعٍ ذاهل.. “كانت نخلتنا بصمت تبكي، والمزاريب تنتحب وتبكي، والشبابيك تنتحب وتبكي والحمام كان يطاردنا ويبكي، والأشجار من موشور دموعها توضأت لتصلي صلاة الغائب.. فتنتحب وتبكي”.
وهو المعزول، الصامت، الأبكم المكمّم، رجل الظلّ.. الذي لا ظل له، ماذا سيفعل؟ يقول “إذن سيبكي وسيبكي وسيبكي”. (ص 31)
فقد تنكرت له كل الوجوه في هذا العالم الموبوء، ولم يمدّ أحد منهم يد المساعدة أو يشرع جسراً للعبور فيما بين الذوات، حتى أقرب تلك الذوات إليه “الحبيبة”.
لذا كلّ شيء هادئٌ.. هامد، كل شيء حزين “المطر يهمي بهدوء كهل أدركه الهرم، فيبعث في النفس حزناً عميقاً مما يؤكد الإحساس بالوحدة والحرمان”.
أعشاش القصب، بوح العاجز!!
العجز مفردة قاتلة، تضاف إلى المفردات التي يدخلنا السالم في فضاءاتها، العجز عن مواجهة العالم والذات والبشر والحضارة المزيفة، عندما لا تكون قادراً على البوح والإفصاح فجدير بك الموت.
الشخصية المحورية في النصوص تدخل موجة من القلق الوجودي أيضاً، مشوباً بقدر غير قليل من السخط على الواقع الذي رمي في دركه الأسفل من غير ذنب جناه، على طريقة الشاعر القديم “هذا جناه أبي عليّ / وما جنيت على أحد”.
مثل من غرق في حضوضا
“حضوضا: أرض رملية تبتلع الناس والدواب، تقع في الجزء المهجور من الشمال غامضة كمثلث برمودا”. (ص 47)
الفضاء المكاني عبارة عن جزيئات رملية متحركة تلوي بأجساد من يقفون عليها كدوّامة في عمق المحيط، بيد أن أكوام التراب هي التي ستتولى تكميم وطمر فتحات الجسد وإعاقته عن أي محاولة للتعبير أو حتى الصراخ!
ويا لسوء حظه من يطيح في حضوضا “وش طيّحك بحضوضا يا مقرود؟” هذه الجملة التي تتكرر مرات عديدة في هذا النص المتميز تحيلنا إلى مدى الكارثة المحيطة بهذا المشؤوم / المقرود. أطنان الرمال في حضوضا ترميز عالي الفنية إلى قوى ضاغطة متوارثة وحديثة كذلك، قيود المجتمع والعشيرة والتقاليد القبلية، كما الأجهزة وأنظمة القيم المستحدثة والديموقراطيات الهلامية. كل تلك القمعيات تمارس ضغطها على المثقف الذي يحاول جاهداً كسرها أو اختراقها باتجاه التنوير والحرية، لكن هيهات، فالدنيا “أضيق من خرم إبرة” كما يعبر الكاتب.
ها هم رسل العشيرة يعلنونها بوجه المثقف المسكين “قريت كم كتاب والآن تبي تتمرّد علينا؟ أنت مربوط بعشيرة يا غشيم !” (ص 46) نعم يا غشيم، وش طيحك بحضوضا يا.. مقرود؟! في هذا النص الذي يختم المجموعة توصّل الكاتب إلى فلسفة العزلة كحالة إنسانية فردية أو جمعية، لكنه توصيف يحمل دقته من كونه صادراً من داخل الحالة وليس خارجاً عنها، لنقرأ “في العزلة وحين تكون وحدك، تنمو معك كائنات متوحشة وجميلة، عالم غريب يقف حاجزاً صلداً بينك وبين البشر، علمتك قوقعة التوحّد كيف تمنع نفسك عن الأحلام”. كم هي قاسية وظالمة، العزلة.
الحق أن الكاتب لم يولِ حبكته القصصية اهتماماً كبيراً، ولعلّ حالته – في زمن الكتابة وفي زمن الحكاية على السواء – بها من اللوعة والذهول والتلاشي ما يبرر ذلك، بل ويستدعيه من وجهة نظر فنية، فجاءت النصوص تراتيل ناسكٍ أضناه التوحد مع ذاته ومحت ملامحه العزلة. كما أن النصوص جاءت من داخلها مقطعة إلى فقرات تصلح كل فقرة منها أن تكون نصاً بذاته لو أراد الكاتب وزادها اشتغالاً وتنويعاً. وبالعودة إلى تمزق الذات الساردة والذوات المدلوقة على الورق ندرك مغزى ذلك التقطيع الذي بدا أشبه بمونولوجات داخلية ونجوى مع الذات والأشياء.
لغة زياد السالم لغة عالية، فيها سمتان رئيستان، الأولى: البساطة في التركيب وتحاشي التقعر أو الانتقاء الفجّ، كما أن صياغتها سلسة بحيث يطلب بعضها بعضاً. الثانية: استخدام اللهجة الشمالية الدارجة بتقنين واعٍ، حين لم يكن للفصحى أن تنجح في أداء ظلال المشاهد القروية البسيطة التي تعرضها النصوص، خصوصا في الأغاني الشعبية القديمة مثلاً.
وللحقيقة فإن “وجوه تمحوها العزلة” هي واحدة من أبرز الإصدارات القصصية السعودية الجديدة، وكاتبها يقدم نفسه بوصفه واحداًً من أولئك الذين قال عنهم نيتشة “من أجل الحقيقة يعانون الجوع في أرواحهم”! أولئك العائدين، ذوي القلوب المنطفئة، الرخويين الذين يعزّون أنفسهم بهذيانات الروح، رغم أن العقل يقدّم لهم الحجارة بدل الخبز ليقتاتوا على العواطف.
—————————————
القاص زياد عبدالكريم السالم، ولد في دومة الجندل عام 1394هـ وتلّقى تعليمه العام في مدارسها، إلى أن حصل على شهادة البكالوريوس من كلية المعلمين بمدينة الجوف ثم عيّن مدرساً إلى أن تم اختياره مشرفاً للنشاط الثقافي بوزارة التربية والتعليم بالجوف.
له العديد من المشاركات في الصحافة، وأصدر مجموعته الأولى “رأسي قربانك يا وطني” في عام 1999م، كما أصدر المجموعة الأخيرة “وجوه تمحوها العزلة” في عام 2001م.