تهاتفني أمي من الجزائر لتطمئن على أحوالي بعدما أصبحت خبيرة في قراءة صفحات الصحف المتخصصة في الشؤون العربية والدولية وتحديداً المصرية وماتمر به من أحداث متسارعة وتغيرات مكثفة ومتباينة منذ أحداث ثورة 25 يناير المصرية. فأجيبها بلهجة جزائرية «نورمال» يعني «عادي» فتندهش، وتواصل حديثها أتمنى أن أعثر يوماً على تحوّل في نبرة صوتك وأن تصلني ذبذباته الأثيرية محملة بشفرات مختلفة تفوق «النورمال» أي «العادي» لتسعديني فدائماً حياتك تترواح بين كلمتي («مكانش مشكل» لا مشكلة «ونورمال» عادي) كنت أعتقد أن هذه المصطلحات تستعمل في الجزائر فحسب وأن وجودك بمصر هيَّأ جزائريتك لاستقبال مفردات جديدة.
أمي دائماً تتعطش وترنو لأشياء سرية تلوِّن مزاجها وأيامها التي تنتظر زيارتي، وإضافة إلى ذلك فأمي وأي حدث يتعلق بمصر أجدها تتصل لاعتقادها الدائم أنني موجودة داخل بؤرة الأحداث، فأجيبها «نورمال» لاتقلقي وهذا يثير جنونها. ذلك لأن أمي تتوقع مني أشياء كثيرة وجديدة في كل مرة، صحيح لقد منحتها بعض الانتصارات الصغيرة امتناناً وعرفاناً وحباً كبيراً واجلالاً لها، أسعدتها ولكنها انتصارات لاتنتظرها لأنها تتوقعها مني وحتى الصعوبات التي تعترض طريقي لا تزعجها كثيراً تقول لي «نورمال يابنتي» هكذا طريقتها أيضاً في المواساة.
أحيانا أتصل بصديقتي لأطمئن على أحوالها العاطفية فتجيبني «نورمال»، وبالتالي لا أنتظر منها شرحاً ولا تنتظر مني إلحاحاً على معرفة أخبارها العشقية.
قلت هذه الكلمة لم تتركني وشأني فعندما التقيت زميلاً فلسطينياً طلبت منه المساعدة في متابعة بعض الإجراءات المتعثرة والمتعلقة بمناقشة رسالة صديقتي الفلسطينية المقيمة برفح عن طريق «الفيديو كونفرنس»، بعدما باءت محاولات مرورها من معبر رفح للحدود المصرية بالفشل الذريع، فاجأني رده بكلمة «نورمال»! قلت له من أين لك هذا؟ فأجابني هذا ما سمعته وتعلمته من صداقاتي لبعض الجزائريين هنا، ثم سألني غريب جزائرية تسعى لأجل إتمام الإجراءات المتعلقة بفلسطينية فقلت له «نورمال» وما أعنيه هو مدى تعاطفي مع صديقتي ومع قناديل العلم الذين رغم كل الظروف الصعبة يحاولون التحدي والنجاح.
لقد تبنى الجزائري كلمة «نورمال» أمام كل فرح أو حزن لأن ما مر به ليس بالأمر اليسير، ففجائعه كثيرة ونتيجتها أنها حولت كلمة نورمال إلى حالة مجازية ليس المقصود منها معنى عادياً بقدر ما يقصد بها أن الأمر خارق ويفوق الوصف وتعبير شعبي عن غضب كبير واستياء في بلد لم يكن يعرف إلا لغة القتل والموت العبثي الذي حدث بالجزائر في العشرية السوداء، ولم تكن هناك خيارات سوى الهرب أو الموت، فأصبحت هذه الكلمة تضم كل المشاعر المختلفة من حب وكره وحقد وموت وحياة وقبح وحزن…الخ، وكأننا بهذه الكلمة نخفف فجيعتنا ونعزي أنفسنا وبأن هذه الأمور لا تستحق التهويل.
أضف إلى ذلك أن كلمة «نورمال» الفرنسية المتربعة على عرش اللهجة الجزائرية حظها أفضل من بعض الكلمات الفرنسية الأخرى التي تشوهت بالتصاقها في قاموس اللهجة الجزائرية لأنها أصبحت دون هوية انتماء فهي لا تمت إلى اللغة الفرنسية ولا إلى اللهجة الجزائرية بصلة.
غير أن استعمال كلمة نورمال في غير موضعها بهدف كبح جماح رعبنا ودهشتنا أعتبرها صفارة إنذار ومخدر قاتل لكل إرادة حقيقية للتغيير أمام الشعور بالعجز واللاجدوى، لأن ما نعيشه الآن في كل نقطة من العالم العربي في فلسطين والعراق وسوريا ومصر وتونس واليمن وليبيا والسودان يفوق العادي أو النورمال.