«لماذا على العالم أن يقرأ الشعر العربي الكلاسيكي»، هو عنوان محاضرة ألقاها في جامعة لايدن البروفيسور جيمس مونتغومري، الأستاذ في جامعة كامبردج، بدعوة مشتركة من الجامعة الهولندية الشهيرة وأرامكو فيما وراء البحار.
تحدث مونتغومري في محاضرته عن ثلاث شخصيات كبيرة في التراث العربي، وهم الفارابي والبيروني والجاحظ. كما قرأ بعض ما ترجمه من الشعر العربي إلى الإنجليزية. وكان لـ ∩القافلة∪ جولة أفق مع البروفيسور الأسكتلندي، تحدث فيها عن نظرته إلى اللغة العربية وآدابها التي أبهرته وأعطاها عقوداً طويلة من عمره.
ما الذي يدفع شخصاً من أسكتلندا، لكي يقضي أكثر من ثلاثة عقود من عمره، في دراسة الأديب العباسي الجاحظ، صاحب «كتاب الحيوان» و«البيان والتبيين»، و«البخلاء»، وغيرها من المؤلفات؟
قبل أن يرد الأستاذ الجامعي البشوش دوماً، يتنهد طويلاً وكأنه يسترجع بداية هذا العمل، حين كان طالباً في جامعة غلاسكو، ووضع أستاذه أمامه كتاب البخلاء. ولم تكن لغة الطالب العربية آنذاك كافية لفهمه، وبدلاً من أن يزيحه جانباً وينتهي الأمر، قرر أن يتعرف إلى السيرة الذاتية لهذا الأديب، وعن سبب استخدامه لهذه اللغة، وأن يطالع بقية أعماله. ولكنه عندما بدأ القراءة، لم يستطع أن يتوقف. وبعد مرور 33 عاماً على هذه الحادثة، يقول إنه ما زال يأمل أن يزداد فهمه لهذه اللغة وآدابها.
وعندما تسأله عما إذا كان هناك من يعرف الجاحظ أفضل منه بين العلماء الغربيين، يقول بالأسلوب الساخر المعهود عن البريطانيين، إنه لا يوجد أحمق آخر يقضي كل هذا الوقت في دراسة الأديب نفسه. ويرى أن كل إنسان يقرأ الجاحظ يحبه، سواء أكان القارئ عربياً، أم غير عربي يعرف هذه اللغة. ويشعر الجميع أن هذا الأديب قريب منهم، يتحدثون معه، ويضحكون من كلامه. ولكن تبقى الصعوبة في فهمه جيداً، لذلك، قرر ألا يكتفي بقراءة أعماله، بل سعى لأن يتعرف على المؤلفات التي قرأها الجاحظ نفسه، مثل ترجمات أرسطو إلى اللغة العربية، وعلى أساتذته في مختلف العلوم، وأن يتعرف إلى نمط الحياة في دمشق والبصرة في الفترة التي عاش فيها، حتى يدرك دوافع الجاحظ للكتابة، وما الذي يريد أن يقوله فيها.
وعلى الرغم من هذه المعرفة المتعمقة بالجاحظ، فإنه لا يتجرأ على اعتبار نفسه صديقاً له، بل يتحدث عنه مسبوقاً بلفظ (المعلم)، أو (الشيخ)، ويرى أنه لا يعدو أن يكون تلميذاً أو مريداً له. ثم يعود ليصحح ذلك قائلاً: «إن محقق التراث والمؤرخ المصري عبدالسلام محمد هارون، الحاصل على جائزة الملك فيصل عام 1981م، والذي حقق عديداً من أعمال الجاحظ، هو الذي يستحق أن يكون مريداً أو تلميذاً للجاحظ، أما هو فيتحدث عن نفسه باعتباره تلميذاً للتلميذ، ليجسِّد بجلاء تواضع العالم.
ترجمة الجاحظ إلى العربية
ظل سنوات طويلة يرفض أن يتحدث عن الجاحظ، لأنه كلما استزاد من المعرفة به، شعر بأنه ما زال في حاجة إلى مزيد من القراءة والاطلاع، وهو السبب نفسه الذي جعله لا ينشر كتباً عن الأديب العربي وأعماله، إلا قبل عامين فقط، أي بعد ثلاثة عقود من الدراسة المتعمقة للجاحظ، وهو كتاب «الجاحظ: في مديح الكتب»، الصادر عن جامعة إدنبره، وهو أحد الكتب المرشحة للحصول على جائزة الشيخ زايد لهذا العام.
عندما يتحدث مونتغومري عن الجاحظ يشيد بمنهجه في الكتابة، وبتشجيعه للقارئ على التفكير النقدي، قبل أكثر من اثني عشر قرناً من الزمان، وهو المنهج الذي تنادي به أوروبا الآن، حيث كان يرفض أن يسلِّم القارئ عقله له، ويشجعه على طرح الأسئلة، وعدم التقليد. ولكن مونتغومري يعتقد أن الجاحظ، كان يشعر بأن الله وهبه من العقل، ما يجعله قادراً على الوصول إلى أفضل الإجابات، وأنه كان يشعر بالسعادة، حين يعترف الآخرون بصحة ما وصل إليه، بعد أن يكونوا قد جربوا بأنفسهم.
سألناه عن رأيه في قيام البعض بإعادة صياغة التراث بلغة حديثة مبسَّطة، مثلما فعله الكاتب السوري نزار عابدين، مع كتاب الجاحظ، فقال إنه لا يجد مشكلة في ذلك، بشرط ألا يُعد ذلك النص الجديد بديلاً عن النص الأصلي للجاحظ، بل شرح أو تفسير له في نفس الكتاب، أي صفحة للنص الأصلي، وأخرى للنص المبسَّط، فيكون الهدف هو مساعدة القارئ على فهم لغة الجاحظ، ثم يضيف مداعباً «لو أصبح النص يسير القراءة، فإنه ليس نص الجاحظ».
وعن كيفية تعامل طلابه مع نصوص الجاحظ، يقول إنهم يحتاجون أيضاً إلى وقت طويل، حتى يصلوا لفهم لغته، وأنهم إذا بدأوا بمطالعة أعماله، يصيبهم ما أصابه من قبل، ولا يستطيعون التوقف عن القراءة، وعندها يستمتعون بهذه اللغة.
القنفذ والثعلب
ويشير البروفيسور الأسكتلندي إلى مشروع الترجمة الذي بدأه مع جامعة نيويورك في أبوظبي، لترجمة الشعر العربي الكلاسيكي إلى اللغة الإنجليزية، وهو المشروع الذي يحمل اسم «المكتبة العربية»، والطريف أنه يترجم الشعر العربي إلى شعر باللغة الإنجليزية، موضحاً أن ذلك لا يعني أن تكون هناك قافية في النص الإنجليزي، لأن ذلك ليس معتاداً في الشعر الإنجليزي، وأنه عرض ترجماته على شعراء بريطانيين، فأعربوا عن رضاهم عن النتيجة، ما شجعه على الاستمرار في ذلك. وحرص على أن يترجم قصيدة امرئ القيس، التي كانت أول قصيدة عربية قرأها في بداية دراسته الجامعية.
الجاحظ كان طول حياته، يشتغل على قضية واحدة، هي التوحيد، وكانت مسألة وحدانية الله، هي محور أعماله كلها..
وفي إشارة إلى محاضرته التي تناولت تقسيم البشر إلى قنافذ وثعالب، والمقصود بها أن هناك من يعرف مجالاً واحداً، يتقنه إلى درجة كبيرة، ويقضي عمره منشغلاً به، ويتمتع برؤية فريدة فيه، وهو من يرمز له بالقنفذ، وفي المقابل هناك فريق آخر يشتغل في مجالات كثيرة، وله اهتمامات وموضوعات متعددة، وهو ما يرمز له بالثعلب، سألناه عما إذا كان الجاحظ أقرب للقنفذ أم للثعلب، فقال إن كثيرين يتحدثون عن الجاحظ باعتباره متعدد المواهب، وواسع الاهتمامات مثل الثعلب. لكنه يرى في الحقيقة أن الجاحظ كان طول حياته، يشتغل على قضية واحدة، هي التوحيد، وكانت مسألة وحدانية الله، هي محور أعماله كلها.
الجاحظ وشكسبير
بعيداً عن الاتهامات المتكررة للمستشرقين، وافتراض سوء النية، سألناه بحيادية شديدة، عن سبب قيام شخص غربي بقضاء القسط الأكبر من حياته في دراسة اللغة العربية، فقال بتلقائية شديدة، إن السبب في ذلك يكمن في أن اللغة العربية هي واحدة من أهم الإنجازات إبداعاً في تاريخ البشرية.
ويبدو أنه رأى الدهشة من حديثه في أعيننا، لصدور هذا الكلام عن شخص أوروبي، فأوضح رأيه في اللغة العربية قائلاً إنها تتمتع بقدرة فائقة على الوضوح والدقة في وصف الظواهر العلمية، الأمر الذي يجعلها قادرة على استيعاب الرياضيات والفلك وكل الإنجازات البحثية، لذلك كانت لغة العلوم الأولى في العالم لستة قرون أو أكثر. وفي المقابل نجد أعمالاً مثل مقامات الحريري، التي تُظهر أن اللغة العربية قادرة على أن تحمل عباراتها موسيقى، مثل صوت خرير الماء، دون أن تفقد من قوة المعنى شيئاً، لأن الاهتمام بالصياغة في اللغات الأخرى، يعني التضحية بالمضمون، على عكس العربية.
وفي مقارنة عجيبة يشير إلى أشعار المتنبي، التي وجد فيها صياغة لغوية متقنة إلى أقصى درجة، ومفردات قوية، تحمل في طياتها لغة فريدة، تجعل القارئ يتعرف من خلالها دوماً إلى أسلوب المتنبي، وتعكس ما في داخله من غضب وطموحات وإحباطات وآمال، ثم يقارنها بأشعار شكسبير، ويقول إن المرء ربما وجد عند شكسبير بعضاً من هذه الرصانة اللغوية، وقوة المعاني، لكنه شخصياً يجد أن ما عند المتنبي يفوق ما يجده عند نظيره الإنجليزي.
كتابه «الجاحظ: في مديح الكتب»، الصادر عن جامعة إدنبره، أحد الكتب المرشحة للحصول على جائزة الشيخ زايد لهذا العام..
ويَعُد مونتغومري نفسه محظوظاً للغاية لأن الفرصة أتيحت له ليقضي حياته في دراسة التراث العربي، ويتحدث عن انبهاره مرة وراء مرة، كلما قرأ لأبي نواس والمعري والمتنبي، ويكتشف ما في لغتهم وصورهم البلاغية من إبداع وابتكار، ويعرب عن أسفه لعدم الاهتمام بذلك في مجتمعاتنا الحديثة.
وسألناه عن رأيه في رفض كثيرين في العالم العربي ترجمة مناهج الطب إلى اللغة العربية، والتشديد على أهمية تعلمها باللغة الإنجليزية، حتى يتمكن الطلاب من الاطلاع على المراجع والأبحاث، وكلها باللغة الإنجليزية، والقول إن اللغة العربية لا تملك المصطلحات الطبية، علَّق مونتغومري مستنكراً وقائلاً إن اللغة العربية أثبتت من قبل قدرتها على ذلك، فلماذا تعجز الآن عما استطاعت القيام به ببراعة من قبل.
العرب وتراثهم
تلمس في الحديث معه دوماً أنه يتجنب توجيه النصائح أو النقد للعالم العربي، رغم إدراكه لعدم الاهتمام بهذه اللغة بين أهلها. ولذلك يفضل الحديث عن تراجع الاهتمام بجمال اللغة في بلاده أيضاً، ويربط ذلك بهيمنة المفاهيم الاقتصادية والتجارية، مشدداً على أن اللغة ليست سلعة، ولا يجوز التعامل معها بمنطق التجارة، لكنه لا يكتفي بتوصيف المشكلة، بل يقترح أن تُقام الفعاليات التي تشدد على أهمية اللغة، مثلما تُقام المعارض الفنية، والمتاحف التي تعرض أعمال الرسامين العالميين. فتصبح عندئذٍ حديث المجتمع والمدارس، فيعرف الأطفال والشباب أهميتها، وهو ما يمكن تكراره مع اللغة.
ويشير إلى حادثة طريفة وقعت له أثناء إلقائه محاضرة في أبوظبي في ديسمبر 2013م، حيث لاحظ وجود مجموعة من الشباب من الجنسين، تتراوح أعمارهم بين 15 و17 عاماً، بين الحضور، ولم يكونوا ينصتون إليه طوال الوقت، بل كانوا منشغلين باللعب بالجوال، كما هي عادة الشباب في كل العالم، ولكن بعضهم جاء إليه بعد المحاضرة، وطلبوا التقاط الصور معه، فسألهم عن سبب حضورهم، فقال له أحدهم، إنه لم يفكر يوماً في الاهتمام بالتراث العربي، لكن عندما يجد شخصاً مثله يهتم به كل هذا الاهتمام، ويقدِّمه باللغة الإنجليزية، فإن ذلك دليل على أنه شيء يستحق الاطلاع عليه، فعلَّق مونتغومري على كلامه بأن التراث العربي مهم في حد ذاته، سواء اهتم به الغرب أو لو لم يهتم به، وأن فيه من الثراء ما لا يوجد له مثيل في اللغة الإنجليزية، والأولى أن يعاتبه العرب على إقحام نفسه في تراثهم، وأن يقولوا إنه ملكهم هم، وهم الأقدر على الاهتمام به.
مونتغومري والقرآن
بعد الحديث عن اللغة العربية وتراثها وقدرة البروفيسور مونتغومري على الانبهار بها إلى هذا الحد، كان لا بد من سؤاله عن النص القرآني من منظور لغوي، وليس ديني. فقال إنه يفضل أن يستمع إلى تلاوة القرآن، أكثر من قراءته. وأنه يرى أن النص القرآني يحتوي على لغة مركزة جداً، ومكثفة للغاية، بحيث تحتوي كل آية على معانٍ بالغة القوة، وعندها تصبح صعبة الفهم على غير المسلم.
وأوضح أنه قضى وقتاً طويلاً في قراءة القرآن، ولكنه لم ينشر أي بحث عنه حتى الآن، لنفس السبب الذي ذكره في البداية، وهو أنه يشعر أنه لا يمتلك المعرفة الكافية التي تؤهله للحديث عنه، ولا يعرف كيف يقرأه كما ينبغي، رغم فهمه لكل كلمة على حدة. ولكن هناك ما هو أكثر بكثير من فهم المفردات، وقال إن سورة الكهف، هي أقرب السور إلى قلبه، واعتبر أن ما تحتويه من لغة الخطاب، تمثل له واحدة من أروع النصوص اللغوية على الإطلاق في كل اللغات التي يعرفها.
وعن أدباء العصر الحديث قال إن الأديب السوري أدونيس يكتب شعراً مميزاً وقوياً للغاية، وإن نزار قباني صاحب قصائد جميلة، كما يرى أن محمود درويش شاعر فذ وفريد في نوعه، لأنه يمتلك حساسية كونية، تجعل شعره عابراً للثقافات.
وفي نهاية حديثنا قال إن على العرب أن يدركوا كم هم محظوظون بما يملكون من تراث، وأن لغتهم استطاعت أن تحقق في الماضي، ما لم تستطع أن تحققه إلا حضارات قليلة، ونبَّه المعلمين والأهل إلى أن يدركوا أن أي آراء سلبية يقولونها أمام الأطفال والشباب عن اللغة العربية وأهميتها، تترك آثاراً عميقة وطويلة الأجل، ولذلك عليهم أن يؤمنوا بأهمية لغتهم، قبل أن يطالبوا الجيل الجديد بذلك، وأن تترسخ لديهم قناعة بأنها تستحق أن يفخروا بها.
المحاضرة
بعد المقابلة انتقلنا إلى قاعة المحاضرة، التي امتلأت عن آخرها بأساتذة جامعيين من مختلف التخصصات، ودارسي اللغة العربية، وعدد من السفراء العرب وجمهور عادي، وأعرب ممثل جامعة لايدن في كلمة الافتتاح عن الامتنان لأرامكو فيما وراء البحار التي موَّلت بسخاء هذه المحاضرة، وكثيراً من النشاطات العلمية الأخرى للجامعة، وعديد من فعاليات احتفال جامعة لايدن بمرور أربعة قرون على تأسيس كرسي الدراسات العربية فيها.
وتناول البروفيسور مونتغومري حياة الفارابي والبيروني والجاحظ، وأعمالهم، ثم قرأ ترجماته لقصائد من التراث العربي، إلى اللغة الإنجليزية، وتحدث عن مشروع «المكتبة العربية»، الذي تشرف عليه جامعة نيويورك أبوظبي، والذي يشارك فيه.
«إن اللغة العربية تتمتع بقدرة فائقة على الوضوح والدقة في وصف الظواهر العلمية، الأمر الذي يجعلها قادرة على استيعاب الرياضيات والفلك وكل الإنجازات البحثية»..
وفي النقاش الذي أعقب المحاضرة، تساءل البعض عما يقصده بمصطلح «الشعر الكلاسيكي»، فأوضح أنه لا يقصد الشعر القديم، أي لا يربطه بحدود زمنية، ولذلك تناول الشعر الجاهلي والعباسي والأموي، ولا يرى غضاضة في إطلاق هذا المصطلح على الشعر الحديث، إذا توفرت فيه خصال تجعله «كلاسيكياً»، بالمعنى المستخدم في اللغة الإنجليزية أيضاً. وعلى الرغم من قيامه بترجمة أعمال التراث العربي، فإنه يدرك أن الترجمة تعني دوماً فقدان بعض المعاني، لعدم قدرة المترجم مهما كانت موهبته، على أن ينقل النص الأصلي إلى اللغة الأخرى بالقوة نفسها، وتحدث من جديد عن روعة اللغة العربية، مشيراً إلى قدرتها على استيعاب الفلسفة والأدب والعلوم الطبيعية، كما ظهر في محاضرته عن أعمال الفارابي والبيروني والجاحظ.