بموازاة احتفاء البعض بالشوط الذي قطعه الاهتمام بالشأن البيئي، والتهليل لبعض المنجزات في هذا الشأن مثل «إعادة التدوير»، ثمة جهود تحاول أن تتطلع إلى قضايا البيئة بنظرة تحاول أن تسبر أعماق هذه القضايا، بدلاً من التوقف عند معالجة الذيول للتخفيف من آثارها السلبية.
أشرف إحسان فقيه يعرض آخر ما توصلت إليه الأفكار الهادفة إلى مواجهة التحديات البيئية جذرياً، كما يتناولها الباحثان وليم ماكدونو ومايكل برونغارت في كتابهما «من المهد إلى المهد»، حيث يدعوان إلى فلسفة صناعية-بيئية جديدة، ويحددان أطر ملامحها العامة القائمة أساساً على تطوير أنماط التصنيع وإدارة منتجاتها.
لوهلة، يبدو الجمع بين كلمتي «بيئي» و«صناعي» متنافراً ومتضاداً. ففي الذهنية التقليدية ثمة تعارض أزلي بين محبي البيئة دعاة كل ماهو «أخضر»، وبين أساطين المال والأعمال الذين يحملون نظرة مختلفة كلياً للبيئة وللكوكب كمجرد «مَورِد» للمادة الخام.
مبدئياً نحن إذاً أمام فلسفتين متضادتين بالكليّة. وهذا وضع يبدو مفهوماً. فالذاكرة الشعبية متصالحة مع مشهد منسوبي الجماعات البيئية كـ «السلام الأخضر» وسواها وهم يخوضون الاحتجاج تلو الآخر ضد كل رموز الحضارة الصناعية: ضد صيادي الحيتان اليابانيين، وضد ناقلات النفط في عرض المحيط، وضد القطارات المحمّلة بالمواد النووية في سهول أوروبا. إنه «البِزنس» ضد البيئة.
لكن، وفي خضم هذا الصراع الذي نزعم كلنا أننا نتفهم مبرراته، يبرز سؤال بسيط: من هو الطرف الخيّر؟ ومن هو الشرير؟ الإجابة عن هذا السؤال ليست بديهية. بعضنا سيستحضر تلقائياً مناظر البقع النفطية المتسرِّبة من الناقلات، ومداخن المصانع وعوادم السيارات التي تنفث الدخان الأسود في الهواء، ومشاهد الغابات المحروقة والعمّال الأطفال في المصانع كي يؤكد على أن الصناعة هي وحش أعمى مدمِّر للبيئة ويحطِّم كل ما يواجهه ليضمن تدفق المال على جيوب الأثرياء. لكن هذه في الواقع نظرة قاصرة لأكثر من سبب. فنحن ندين للمنظومة الصناعية الحديثة بكل عناصر الرفاه والوفرة والصحة التي نرفل بها. كما وأن أكثرنا سيتملص من اتهام الصناعة حين يكتشف أنه هو شخصياً، بصفته «مستهلكاً»، يمثل القوة الأولى الدافعة والمحرِّكة للمجهود الصناعي. بل إن أحدنا لو أراد أن يثبت خيريته المطلقة في هذا الصدد؛ فإن عليه أن يتخلى عن كل مصادر «سعادته» الحالية: لا سيارات ولا منتجات بلاستيك ولا أحذية رياضية ولا مواد تجميل ولا كمبيوترات دفترية ولا مكيفات فريون. كل واحدة من هذه المنتجات هي أداة شريرة في نظر البيئيين الأقحاح! لذا، فإن ثمن الالتزام غير المشروط بالمعسكر البيئي يبدو أفدح من أن يتحمله أي منا.
المعسكر البيئي «الأخضر» بدوره لا يبدو منزهاً عن الخطأ. بل إن الكثير من الممارسات البيئية المعتمدة حالياً من قبيل (إعادة التدوير) هي ذات تأثير سلبي كبير على المدى الطويل لأنها أدت بشكل غير مباشر إلى تراكم النفايات في الكوكب، ناهيك عن كونها عمليات معقَّدة ومكلِّفة بشكل يصد مجتمعات عدة عن الأخذ بها.
يتناول هذا المقال فلسفة وسطية جديدة تدعو إلى إعادة النظر في الطريقة التي نصنع بها الأشياء، ولاعتماد سياسات تصنيعية وحياتية جديدة تماماً، تتكامل مع الاستحقاق البيئي ولا تتعارض معه، كما تضمن استمرار الحياة المعاصرة على النمط نفسه من الرفاه والإنتاجية، وألاَّ تتراجع إلى حدها الأدنى كما يطالب أصحاب النظريات الموغلة في الخضرة!
كل مُنتج هو نفاية بانتظار الرميّ!
في كتابهما المعنون «من المهد إلى المهد» (Cradle to cradle) يقر المؤلفان وليم ماكدونو ومايكل برونغارت بأهمية الثورة الصناعية في ازدهار الحضارة البشرية، قبل أن ينسفا كامل منظومتنا الصناعية باعتبارها مصدراً مطلقاً للخطر. وهما يضربان مثالاً بأحد أكثر المشاهد وداعة وطمأنينة: مشهد أحدنا وقد استرخى على أريكة وثيرة بمنزله يطالع كتاباً، في حين يتوزع أفراد أسرته من حوله.. بعضهم يطقطق على حاسوبه الدفتري.. أما الأطفال فيلهون بألعابهم البلاستيكية. هذا المشهد الحالم حافل بالرؤى الكابوسية. إذ إن كل منتجاتنا الصناعية هي قنابل موقوتة تهدد البيئة وتهدد صحتنا ذاتها. فنسيج الأريكة يحوي مواد مطفّرَة أو محورة وراثياً، وفلزات، وكيماويات وصبغات خطرة ومضرة جداً. ونحن نستنشقها ونحتك بها ويطلقها أحدنا في الهواء كلما ارتمى على الأريكة.. الكمبيوتر بين يدينا فيه مواد وصبغات من بروم وكروم وكوبالت وزئبق داخلة في تركيبه. الشيء نفسه بالنسبة لألعاب الأطفال التي يضعونها في أفواههم وترافقهم خلال مراحل نموهم. وإذا جادل البعض بأن كل هذه السموم مُعالجة على نحو «يخفف» من تأثيرها علينا، أو بأنها لا غنى عنها في تصنيع تلك البضائع وبيعها بأسعار منخفضة، فإن علينا أن نتذكر أننا خلال بضع سنوات سنرمي بهذا الكمبيوتر وبتلك الأريكة لصالح واحدة جديدة.. فكيف ستتفاعل هذه النفاية مع البيئة؟!
المثال أعلاه يحوي نقطتين محوريتين في أزمة تعاطينا مع البيئة. ويمكن اعتبارهما كذلك أخطاءً جذرية في الثورة الصناعية التي تطوَّرت عبر السنين.. إنما ليس كما نحب.
فنمط التصنيع والاستهلاك الحالي -أولاً- يشجع على تكديس النفاية بل وقائم على خلق النفاية. وبحسب الإحصاءات فإن %90 من المواد الخام المستخدمة لتصنيع السلع في الولايات المتحدة تتحول لنفاية آنياً.
وحتى بعد التصنيع، فليتخيَّل أحدنا ماذا سيصادف في أي مقلب قمامة: تلفزيونات وأحذية وأثاث وكمبيوترات وبلاستيك ومواد عضوية كالحفاظات والطعام والخشب. هذه مواد تكلَّفت المليارات لتصنع. المواد العضوية ستتحلل وتعود إلى الأرض. لكن كل شيء سواها سيُترك لتزدرده البيئة وتغص به على مهل. عليه، يمكننا أن نعتبر وبكل راحة ضمير أن كل منتج وسلعة تخرج من مصانعنا اليوم هي موجَّهة في نهاية المطاف نحو مكبّ النفايات. المستهلك ليس هو خاتمة السلسلة الإنتاجية التي تبدأ من المادة الخام مروراً بالمصنع فالمتجر فالمشتري. هذا المشتري ليس سوى محطة (ترانزيت) مؤقتة للسلعة التي ستواصل مشوارها نحو سلة المهملات. وهذه ملاحظة مهمة ينبغي أن نعيد على ضوئها قراءة فلسفة «من المهد إلى اللحد» (Cradle to Grave) التي تشرح دورة حياة المنتج. وهي ليست دورة كاملة، بل هي مجرد عملية خطيّة أحادية الاتجاه. ثم أين هو هذا اللحد؟ حين نتخلص من منتج ما قديم فإننا نلقي به «بعيداً» ليختفي من حياتنا. لكن أين يقع هذا «البعيد»؟ إنه لا يزال في كوكبنا. والنفاية الجديدة ستعيش لأعوام وأعوام لتفرز مكوناتها الكيميائية في التربة والمياه والهواء.
لايمكننا أن نلوم المستهلك وحده هنا. فالمنظومة الصناعية والاقتصادية بأسرها مصممة على نحو يجبرك على شراء الجديد عوضاً عن تصليح القديم المعطوب. بل إن شراء منتج جديد هو في أحيان كثيرة أرخص ثمناً وأوفر في الوقت والجهد من محاولات التصليح.
مأزق إعادة التدوير
النقطة الثانية التي تشكِّل أزمتنا مع نمط التصنيع الراهن هي في عبثية سياساتنا البيئية المتبعة. وهذه ملاحظة سيثور لها البيئيون على اعتبار أنهم يمثلون الجانب الخيّر في المعركة ضد الغول الصناعي. لكن الواقع يشهد بأن أكثر الممارسات الصديقة للبيئة انتشاراً ليست فعَّالة كما نظن.
فأنت حتى لو كنت فخوراً بكونك تمارس إعادة التدوير (Recycling)، فإن هذه العملية قد ثبت أنها كذلك تضر بالبيئة بطريقتها الخاصة. فمقالب النفايات حافلة بالبضاعة القديمة المستعصية على إعادة التدوير. كما أن الدول والمجتمعات القادرة على ممارسة هذا النشاط قليلة ومحدودة. ثم إن هذه النظرة بحد ذاتها قاصرة. ووفق النظرية نفسها المذكورة سابقاً، فإن كل منتج نصنعه والحال كذلك هو في طريقه إلى إعادة التدوير ويتوقف في منزل أحدنا على سبيل الترانزيت.
التقنيات الحديثة لإعادة التدوير تنتج عنها خامات أقل جودة من الأصلية. البلاستيك المعاد تدويره يتم خلطه بمركبات كربونية أخرى لينتج بلاستيك أقل جودة لن يستخدم لتصنيع المنتج نفسه ولكن سيوجه إلى منتج آخر أقل أهمية. الشي نفسه بالنسبة لحديد السيارات القديم والذي سيتم خلطه مع معادن أخرى وأصباغ مستهلكة لينتج حديداً أضعف وأردأ -قد- يتم تدعيمه بمعادن أخرى لتقويته.. لكنه لن يستخدم أبداً في تصنيع سيارة جديدة. وهكذا فإن «إعادة التدوير» هي في حقيقتها حلقة تنازلية من تخفيض قيمة وجودة المادة الخام (Downcycling)، لاشك في أنها ستنتهي بنا إلى نفاية لن نجد لها استخداماً لائقاً. بل إن هذا النمط من إعادة التدوير القائم على إضافة المقويات والكيماويات الداعمة للمادة المعاد تدويرها ينتج عنه في الواقع نسخ أكثر سُميّة وضرراً من سابقتها.. وهذا ثابت تحديداً في البلاسيك وورق الجرائد المعاد تدويره والذي ولّد أشكالاً جديدة من أمراض الحساسية.
ويستمر مأزق إعادة التدوير مع الكلفة العالية للعملية الكيميائية ذاتها. مما يعني أن دولاً ومجتمعات عدة لن تمارس هذه العملية لضيق ذات اليد، وستكتفي بتخزين القمامة والبضائع المستهلكة. ما يعود بنا للمربع الأول.
إلا أن المشكلة الحقيقية في الفلسفة البيئية الحالية تتخطى نشاط إعادة التدوير وحده. فـ «فكرة» حماية البيئة الشائعة ليست قائمة على اجتثاث الضرر تماماً.. بل على «التقليل منه».. وهي فكرة مقبولة عالمياً على نحو مدهش. أن تكون أقل شراً لا تعني أنك صرت طيباً. فنحن نقلل من إفراز الغازات المسببة للسرطان، ونقلل من تلويث البحار والمحيطات، ونقلل من استخدام الكيماويات القاتلة في ملابسنا وأثاثنا. نقلل، إنما نستمر في بث الضرر. فلسفة «الفعالية البيئية» (Eco-efficiency) هذه في التعامل مع الخطر تبدو أقرب إلى الجنون ومع ذلك فإنها مقبولة ومعتمدة على نطاق واسع!
ماذا عن خطر البيئيين؟
قد يبدو أن الممارسات البيئية لم تؤت أكلها -بل وتسببت في المزيد من الضرر- لأن القائمين عليها لم تتح لهم الفرصة كاملة لتنفيذ مشاريعهم. فرأس المال هو المحرك الأساس للسياسات والخطط الحكومية، ومصلحة رأس المال تتعارض كما رأينا -ظاهرياً- مع المصلحة البيئية.
هل سيكون الحال أفضل لو أن البيئيين تمكنوا من زمام المبادرة وأتيحت لهم الفرصة الكاملة لرسم سياسات التصنيع والطاقة ونمط الحياة الاجتماعية بما يتماشى ومصلحة الحياة الفطرية؟
الجواب عن هذا السؤال ليس بالبداهة التي نتوقعها.. بل إنها ربما كشفت لنا أن البيئيين المتطرفين قد لا يكونون أقل خطراً على مسيرة الحضارة من الصناعيين المتطرفين في استهلاك موارد الكوكب. فإضافة إلى فلسفة الفاعلية البيئية المذكورة أعلاه، التي تلتف على خطر الملوثات لتقلله عوضاً عن أن تنفيه، فإن هناك فريقاً من البيئيين يؤمن بأن السبيل الوحيد لوقف التلويث البشري هو في وقف النمو الحضاري تماماً. يرى هؤلاء أن الإنسان هو الكائن الوحيد الهادم في النظام البيئي بأسره.. لأنه الوحيد الذي يأخذ أكثر مما يعطي! هذه نظرية لا يمكن إثباتها في الواقع. وهناك دراسات عدة تقول إن الأثر «التخريبي» للسلالات البشرية يُعد هو الآخر أصيلاً في خلق بيئة الأرض ومناخها عبر القرون. لكن لِنساير تلك النظرية البيئية المتطرفة علَّنا ندرك المراد منها.
يقول مناهضو الوجود البشري إن «الأقل هو أفضل»، وبالتالي فهم يدعون إلى نمو سكاني أقل وإنتاجية أقل وبالتالي استهلاكاً أقل للطيبات. وهذه دعوة انتعشت في الثمانينيات من القرن الماضي بعدما نشر بول إيرليك كتابه الشهير «الانفجار السكاني» مستنتجاً فيه وجوب وقف النمو السكاني على الكوكب «بأسرع ما يمكن وبأكثر الوسائل إنسانية»!
إن فهم هذه الفلسفة البيئية يبرِّر لنا مدى الرعب الذي يتعامل به الصناعيون والساسة مع دعاة حماية البيئة على حساب البشر. فـ «التباطؤ» الذي يدعو له هؤلاء البيئيون هو كابوس أسود عند صناع القرار لأنه يعني لهم تضخماً في سعر العملة وزيادة في البطالة وانخفاضاً في الإنفاق، كما أن إنجاب بشر أقل يترجم في النهاية لانخفاض في القوة العاملة والقدرة التنافسية. ولا يمكن لوم أصحاب رؤوس الأموال أيضاً على ذعرهم لأن إنجاب بشر أقل سيعني استهلاكاً أقل للبضائع وإنفاقاً أقل للمال وتضاؤلاً في الأرباح.
بعض النظريات البيئية هي بالفعل مغرقة في الرومانسية المثالية. كتب المفكِّر والناشط البيئي الأمريكي ألدو ليوبولد مرة: «حين أسلّم أفكاري المكتوبة هذه إلى المطبعة، فإني أسهم في قص المزيد من الأشجار. وحين أضيف القشدة إلى فنجان قهوتي فإني أسهم في تجفيف المزيد من المسطحات المائية كي ترعى فيها الأبقار. وأسهم أيضاً في انقراض المزيد من طيور الأمازون. وحين أقود سيارتي الفورد فإني أستهلك حقل نفط آخر، وأسهم في انتخاب مسؤول إمبريالي آخر يضمن لي المزيد من المطاط لإطاراتها».
إلى أي حد ينبغي على الواحد منا أن يتلبس الهاجس البيئي؟ هل يعقل أن نعيش في حالة تأنيب ضمير أزلية وذعر كلما قضى أحدنا مشواراً بسيارته أو قرأ بريده الإلكتروني أو أنجب طفلاً جديداً؟ هل يعقل أن نفصل أنفسنا عن المنظومة الاقتصادية والاجتماعية التي ثبت ضررها على البيئة؟ وأي منهج بيئي سنتبع، إذا كانت كلها قاصرة عن درء الخطر الماحق الذي نجلبه على الكوكب.. بل وتزيده أحياناً كما رأينا؟
غني عن الذكر أن الاستغناء عن المواد الصناعية بالكلية والاعتماد التام على العناصر الطبيعية في التصنيع هو أمر مرفوض في هذه المرحلة من عمر البشرية. فالطلب الهائل على الخامات الصناعية سوف يستهلك كافة المحاصيل العضوية بحيث لا يبقى منها شيء للتغذية.. كما كشفت لنا الأزمة الغذائية العالمية خلال العام 2008م.
ألا يمكن أن ندمج الفلسفتين: الصناعية والبيئية لنخرج بنمط جديد كلياً يحقق نسبة %100 من إلغاء الضرر، ولا يعود بحضارتنا قروناً للوراء؟
مطلوب ثورة صناعية-بيئية جديدة
في كتابهما «من المهد إلى المهد»، يستهل المؤلفان المقدمة بالجملة التالية: «هذا الكتاب ليس شجرة». وهما بهذه الجملة يلمسان نقطة بيئية حساسة. إذ إن القراءة في حد ذاتها، كواحدة من أكثر الممارسات البشرية رقياً، لم تسلم من كونها مؤذية للبيئة، لأن مادة الكتاب -الورق- مصنوعة من خشب الشجر. والمزيد من القراءة سيستتبع مزيداً من الأشجار المقطوعة ومزيداً من الكربون في الجو وتصحراً أكثر وتنوعاً حيوياً أقل.. إلخ. وهذه متوالية كارثية معروفة جيداً.
إلا أن مؤلفينا لم يكتفيا بطرح التساؤل الأزلي حول بديل الورق الأكثر رأفة بالبيئة.. بل تجاوزا ذلك بتقديم حل ملموس يحمل الجواب عن السؤال، ويقدِّم مثالاً على نظريتهما المطروحة لبديل ثوري لأنماط التصنيع البيئية الحالية.. والجواب كان هو كتابهما ذاته.. والمصنوع من مادة غير ورقية.. أو ورق غير تقليدي!
هناك ثلاثة أنواع من الكتب كما يذكر المؤلفان: هناك الكتاب التقليدي. وهذا عملي جداً في استخدامه وحافظ على مكانته عبر مئات السنين. لكنه كما ذكرنا منتج معادٍ للبيئة. ثم ماذا سيحل بهذا الكتاب إذا استغني عنه وألقي كنفاية. الورق قد يتحلل حيوياً. لكن الحبر الذي يكوِّن الكلمات والصور مكون من مواد كربونية وأصباغ معدنية. وإذا تجاهلنا الورق فماذا عن الغلاف والمكون من لب خشبي ومبلمرات والمزيد من الأحبار المعدنية. هذا الكتاب والحال كذلك مضر بالبيئة جداً قبل استهلاكه وبعده.
ما يقودنا للكتاب الثاني: وهو كتاب مصنوع من ورق معاد تدويره. ما قد يمثل انتصاراً بيئياً.. لكن هذا الكتاب يبدو كئيباً. فورقه سيء الجودة -لنتذكر- خفيف رقيق وذو لون باهت. كما أن الحبر يتسلل من ظهر صفحته ليشوش القراءة على وجهها. ولأنه كتاب «صديق للبيئة» فقد تم الاستغناء عن غلافه والاستعاضة عنه بطبقة ورقية تعسة.. ما يعني أن هذا الكتاب سيعيش أقل من الأول.
هل هذا الكتاب هو حقاً صديق للبيئة؟ ليس تماماً: فالذين صمموه قرروا أن يستغنوا عن مادة الكلور في أوراقه تحاشياً للضرر الذي تحدثه هذه المادة. لكن الورق المعاد تدويره الخالي تماماً من الكلور، يحتاج إلى مزيد من لب الشجر في تصنيعه للتغلب على نسبة الكلور في الورق الأصلي.. ناهيك عن أن الكلور متواجد طبيعياً في لب الشجر! وعملية تنظيف الورق من الكلور ستنتج ملوثات عدة سيتم التخلص منها غالباً في المجاري النهرية. وغالباً فإن هذا الورق قد بلغ منتهاه ولن يمكن إعادة تدويره مرة ثانية. ناهيك عن أحباره العضوية المصنوعة من مادة الصويا والتي عليها ما عليها بيئياً هي الأخرى.
على ما يبدو، نحن بحاجة إلى إعادة النظر في مفهوم الكتاب ككل. ليس فقط من الناحية الوظيفية، ولكن جمالياً. وكما يليق بهذه الممارسة الراقية.. أليس هذا هو شرطنا في الثورة الصناعية البيئية الموعودة؟
سيقترح البعض أن ننتقل إلى الكتاب الإلكتروني الذي يمثل جهاز «Kindle» طلائعه. وهذا اقتراح مقبول نوعاً. لكننا سنصر على الحميمية والسهولة التي يمثلها تداول الكتاب الورقي بشكله الحالي.
ماذا لو نقلنا تفكيرنا إلى المادة الورقية ذاتها عوضاً عن التفكير بشكل كتاب المستقبل؟ ماذا لو جئنا ببديل كلي للورق يغنينا عنه ويقوم مقامه؟ لنتخيل كتاباً مصنوعاً من رقائق بلاستيكية أو مبلمرات لا نحتاج معها لأن نقطع أية شجرة. ولا أن نبيضها بالكلور. الأحبار مصنوعة من مواد غير سامة ويمكن غسلها بواسطة عملية كيميائية بسيطة أو بماء شديد السخونة.. ويمكننا في أي الحالتين إعادة استعمال محلول الحبر ذاته لنفس الغرض. الغلاف مصنوع من طبقة أشد سمكاً من نفس المبلمرات البلاستيكية والصمغ الذي ثبتت به الصفحات مصنوع من مواد مقاربة بحيث أن الكتاب بأسره يمكن إعادته إلى الناشر.. وليس رميه مع النفايات.. ليقوم بتفكيك مادته وتحويله لكتاب جديد بنفس الجودة مرة بعد مرات.
هذا السيناريو أعلاه ليس كله حلماً. فالمادة الورقية التي صنع منها كتاب (Cradle to Cradle) تفي بهذه الأغراض كلها وأكثر. فالورق الجديد ناصع وجميل. وهو مقاوم للماء مما يعني أنك تستطيع قراءته على الشاطئ أو في مغطس حمامك. والتركيبة البلاستيكية التي صنع منها هي نتاج جهود عديدة لأكثر من جهة، لتكوين مادة ورقية يمكن إعادة تدويرها مع العبوات البلاستيكية لمستحضرات التنظيف.
دورة كاملة من المهد إلى المهد
إن الفلسفة الصناعية الجديدة التي يقترحها هذا الكتاب تعتمد على تطوير أنماط التصنيع وإدارة نواتجها، بحيث تكون مخلفات العملية الصناعية مفيدة للبيئة، وذلك عبر تخليق مركبات كيميائية سهلة التحلل ومغذية للتربة والنبات كما السماد الكيميائي. إضافة إلى تبني خطط ذكية في تصميم المدن والمجمعات السكانية والصناعية تتكامل فيها الصناعة مع البيئة. يدعو الكتاب إلى الوعي بحقيقة أنه لا يوجد «بعيد» حينما نلقي بشيء ما بعيداً.. لأن المردود عائد لنا نحن سكان هذا الكوكب في النهاية. وأن ندرك أن التخفيف من الضرر ليس إنجازاً.. لأنه لن يلغيه.
الكتاب حافل بالمقترحات والآليات التي تصب في هذا التوجه. على سبيل المثال لا الحصر، فإن الفوسفات المعدني يستخدم لتخصيب وتسميد التربة. لكن عملية استخراج الفوسفات هذه من محاجره هي عملية بشعة
لا تسر العين ومضرة بالبيئة. وعلى الطرف المقابل، فإن مياه الصرف الصحي التي تلقى في البحار لتلوث البيئة المائية وتهدد الصحة البشرية غنية جداً بهذا الفوسفات أيضاً. والتصرف المنطقي في هذه الحالة أن يتم تدوير مياه الصرف الصحي لاستخلاص كل العناصر العضوية منها، فيما تبقى محاجر الفوسفات بدون تكسير ولا تلوث. على النمط نفسه يمكننا تصميم عبوات سوائلنا وأكياسنا ومواد أثاثنا وملابسنا بحيث تتحلل عند انتفاء الحاجة إليها أو تتم إعادة تدويرها بسهولة.
إن الفرق الأساسي بين هذه الفلسفة البيئية وبين الأسلوب المتبع حالياً هو أن البيئة لا تشكِّل هماً أولاً عند معظم الكيانات الصناعية الكبرى.. كما وأن الأنظمة والقوانين لا تجبر هذه الكيانات على سلوك ثمة اتجاهات. فبعض الشركات الكبرى تخشى تغيير أنماط عملها لأن ذلك سيكلفها ملايين الدولارات من الأبحاث والتغيير الإداري. لكن الحقيقة المدهشة أن هناك قصصاً واقعية لشركات مثل «3M» و«BP» كسبت أضعاف ما خسرته ووفرت المليارات في مقابل تبني سياسات إنتاجية (خضراء).
إنها مقاومة التغيير على مايبدو التي تدفعنا إلى إساءة فهم بعضنا أكثر.. وإلى الإضرار ببيئتنا وأنفسنا أيضاً!