عين وعدسة

منزل الكاتب حين يصبح متحفاً

أيام هيمنجواي في كي ويست

frames_1في الطريق إلى كي ويست، المدينة الصغيرة في جنوب فلوريدا التي تحتضن منزل الأديب الأمريكي الشهير أرنست هيمنجواي ومتحفه، كنت أحاول تفتيش ذاكرتي محاولاً رسم صورة عنه. تذكرت بعض ما قرأته من كتبه، السير الشخصية التي كتبت عنه، ولعه المعروف بمصارعة الثيران الإسبانية، رحلاته الإفريقية، وسيرته الآسرة في باريس أو «العيد المتنقل» كما سماه، وأخيراً الرصاصة التي أوقفت حياته عام 1961م في كيتشوم. أعياد كثيرة صنعها هذا الروائي والصحافي والمغامر، وها أنا أحاول اكتشاف بعض أعياده في كي ويست.

179291407كنت أقود سيارتي عابراً مناطق وبلدات، غابات وحدائق، فيما البحيرات وألسنة المحيط تحيط بي، ودائماً الأشجار الاستوائية الملوَّنة والخضراء تملأ البصر وتشيع في النفس احتفالاً بالطبيعة الفاتنة. إلى اليمين خط حديدي قديم محمولاً على جسور تمتد في المحيط ولكن لا حركة عليه، لا هدير قاطرات ولا محطات ولا ركاب. كان عليّ أن أبيت تلك الليلة في أحد فنادق المدينة الصغيرة، الباهظة في عمومها، وغداً أجول في المدينة متأملاً ملامحها ومحاولاً فهم السر الذي أغرى هيمنجواي ليعيش اثنتي عشرة سنة من حياته في هذه البلدة التي أحبها بشغف نادر وكتب فيها ما يقارب السبعين بالمئة من إنتاجه، لكنه تمنَّى ألا يموت فيها.

انطلقت رحلة هيمنجواي الأولى إلى كي ويست، وهي بلدة في أقصى جنوب الولايات المتحدة، من نصيحة أسداها له الروائي الأمريكي المعروف جون دوس باسوس. كان الكاتبان مغتبطين بالحياة في باريس ومنتميين إلى الجيل الضائع الذي تشكَّل من نخبة من الكتَّاب والفنانين الأمريكيين الذين غادروا بلادهم لأسباب متفرقة، كانت بينها موجة الكساد الكبير التي لحقت بالاقتصاد الأمريكي في أواخر عشرينيات القرن الماضي. لم يفضل هيمنجواي الذهاب مباشرة إلى كي ويست، فنزل أولاً في هافانا، المدينة الكوبية التي ستصبح ذات أهمية كبرى في حياة الروائي الشخصية والمهنية.

المنزل الهدية
IMG_0377وصل هيمنجواي وزوجته بولين إلى كي ويست عام 1928م. وسرعان ما أحب الزوجان هذه البلدة الصغيرة وسكَّانها ومطاعمها. وبعد مضي سنتين، تقدَّم عم بولين الثري فاشترى لهما المنزل الواقع على شارع وايتهيد كهدية زواج عام 1931م.

كانت كي ويست بلدة لا تشبه أيَّاً من الأماكن التي عاشا فيها من قبل. كانت مقاطعة مملوءة بالناس الطيبين والبحارة والصيادين والمحامين والتجار الصغار، وهي شخصيات طالما ظهرت في رواياته، وخاصة عمله «أن تملك أو لا تملك» الرواية التي كتبها عن هذه البلدة خلال فترة الكساد الاقتصادي.

frames_8حين دلفنا من بوابة المنزل بين حشد من الزوار، اتضحت سريعاً ملامحه التي بُنيت على الطراز المعماري الإسباني. الأبواب والنوافذ المقوسة والأرضيات والسقوف المرتفعة، كل ذلك يشي بطبيعة المبنى. إنه أحد المباني القديمة التي بُنيت في هذا الشارع، وهو مبنى لا يبتعد كثيراً عن البرج الذي يبدو لي فناراً قديماً اليوم. كان المنزل عندما تسلمه هيمنجواي وبولين في حالة يُرثى لها، لكنهما تمكّنا ببصيرتهما من إنقاذه من الخراب، ليصبح جزءاً من ذاكرة أمريكا الثقافية وأحد المعالم التي يؤمها السياح.

frames_6كان الطقس في منتصف أغسطس حاراً ورطباً، وبما أن منزل الكاتب خالٍ من أجهزة التكييف حفاظاً على ملامحه بجدرانه وسقوفه وأركانه، فقد نصب القائمون عليه مراوح كبيرة في كل حجرات المنزل للتخفيف من حرارة الجو. في صالتي الاستقبال والمعيشة في الطابق الأرضي كانت اللمسات الأوروبية طاغية على قطع الأثاث والتحف التي جمعها الكاتب خلال إقامته في أوروبا. وعلّقت صوره في مناسبات عدة ومع ضيوف مختلفين ومع عدد من زوجاته وأبنائه على الجدران، فيما بدت ملامح الثقافة الإفريقية واضحة على المجسمات والتماثيل التي جلبها معه أثناء رحلاته الاستكشافية إلى تلك القارة، حيث كاد في إحداها أن يُقضى عليه حين هوت به وبزوجته الطائرة التي كانت تقلّهما في أحد الأدغال.

كي وست
keywest-out1هي أبعد المدن في البر الأمريكي توغلاً في الجنوب، وهي تقوم على رأس جزيرة، ضمن أرخبيل يعد امتداداً نحو الجنوب الغربي للرأس البري الذي تكوّنه ولاية فلوريدا.
وُصف مناخها بأنه «بديع»، حتى إن الرئيس الأمريكي هاري ترومان (1945-1953م) اختارها مقراً للبيت الأبيض في فصل الشتاء.
فيها ميناء للسفن السياحية التي تسير على خطوط إلى جزر البحر الكاريبي، والمكسيك وأمريكا الوسطى والجنوبية. وفيها مرفأ لزوارق صيد الأسماك. كذلك فيها مطار دولي.
وقد جاء في وصف كي وست، في كتاب: «أين كانوا يكتبون»، لفرنسيسكا بريمولي- دروليرز، إنها «تقع في أقاصي العالم، آخر منعطف وآخر نقطة في المحيط الأطلسي، حيث زبد البحر يتشظّى إلى عدد من الجزر، قبل أن يختفي في المياه القاريّة. هذه المنطقة عبارة عن شواطئ بيضاء، تعلوها قامات النخيل الباسقة، فوق الرمال الذهبية..».

الحياة عيد متنقل
frames_3في حجرة المعيشة التي تكفي ربما لثمانية أشخاص، كانت الجدران تزدان بالصور أيضاً، بينها صوره في أوروبا وفي كوبا وأمريكا ضاحكاً أو باسماً وسط الناس ممتلئاً بالحياة. لكن البحر كان صديقه الأول والنهائي ولذا تراه واقفاً بحماسة إلى جانب الأسماك الكبيرة التي كان يصطادها وأصدقاؤه من المحيط، فيما يحيط به الناس. وعلى جدار آخر كانت إطارات تحفظ الشيكات التي كانت تُدفع له لقاء ما يكتبه من روايات أو تغطيات صحفية. وفي خزانات مغلقة تم حفظ الطبعات الأولى من بعض أعماله، وظهرت على الجدران ملصقات لأفلام اقتبست عن رواياته لمحت بينها، «وداعاً للسلاح» و«الشيخ والبحر» و«الشمس تشرق مرة أخرى»، وصور من رحلاته البحرية بقاربه الأثير.

IMG_0382صعدنا السلم الحديد إلى الطابق الثاني، وهناك قادنا المرشد إلى حجرة نومه. غرفة متوسطة تحتضن السرير الواسع المغطَّى بألحفة بيضاء، تجاوره من الجانبين منضدتان وعليهما مصباحان مضيئان. لكن ضوء النهار القادم عبر النوافذ الزجاجية الكبيرة كان يختلط بالضوء المدعوم من ثريا السقف المضيئة لتصبح الغرفة مسرحاً للضوء. فوق سريره تماماً نُصبت لوحة مرسومة باليد لواجهة المنزل من الخارج يحلِّق في جزئها العلوي الحمام فيما تفترش القطط أرض الحديقة.

IMG_0379التفت إلى صوت المرشد وهو يدعونا إلى السير وراءه باتجاه مبنى مجاور آخر. كان للمرشد تلك الملامح الشبيهة بهيمنجواي، الوجه المربع، واللحية البيضاء الكثة، والنظرة الدافئة المحدقة في البعيد والجسم الممتلئ. لكن قامته لا تنازع قامة الروائي العالية والجسورة كما قرأنا عنها. فكرت لوهلة أنه أحد أقاربه، ولم أجرؤ على سؤاله عن جذور الشبه بينهما، لكنني قرأت لاحقاً أن هناك مسابقة سنوية تقام في شهر يوليو من كل عام لانتخاب الرجال الأكثر شبهاً بالروائي الكبير، وخمَّنت أن بعض هؤلاء يصبح ضمن الطواقم العاملة في متاحف هيمنجواي ومنازله.

سرنا باتجاه المبنى الخلفي المواجه لبركة السباحة تماماً. صعدنا سلماً آخر ودخلنا ممراً ضيقاً أُغلق بشبك حديدي دون أن يحجب الرؤية. كانت هذه مكتبته، وبدت طاولة كتابته مستكينة وكأن صاحبها غادرها للتو، عليها بضعة كتب وآلته الطابعة وحولها مقعده، ومقعد أخضر كبير أمامه مسندة رجل أعدت للقراءة المريحة. وعلى الجدران تحف وأثريات ذات طابع إفريقي، رأس غزال وسمكة محنطتان ومثبتتان على الجدار، ساعة حائط، وخزانات كتب متوسطة العلو، ولوحة في الركن على مسند رسم، وشنطة يد مركونة تحت الطاولة. هنا في هذا المكان كتب جملة من أعماله الكبيرة: ثلوج كلمنجارو، وموت في الظهيرة، ورجال بلا نساء، ولمن تقرع الأجراس، وتلال إفريقيا الخضراء، وأن تملك أو لا تملك، وغيرها من القصص القصيرة والمقالات.

كان يكتب واقفاً
hemingway-standing-deskفي مكتبته كان هيمنجواي يفضِّل الكتابة واقفاً. كان يقول: «الكتابة وأنا واقف، تساعدني على فقدان السمنة. إضافة إلى ذلك، فالكتابة في هذه الوضعية تمنحني الحيوية. أفضّل كتابة النصوص المتعلِّقة بالوصف، باليد. لكنني أستعمل آلة الكتابة عند كتابة حوارات بين شخصياتي… فلقد لاحظت أن الناس يتكلمون بسرعة الآلة الكتابة نفسها».من كتاب: أين كانوا يكتبون، لفرانسيسكا بريمولي- دروليرز

السعادة حتى آخر بنس
Hemingway_typewriter#744553غادرنا المكتبة نزولاً باتجاه أحد معالم المنزل – المتحف: «بركة السباحة». وقفنا في أحد أركانها وأشار مرشدنا إلى بعض صور البركة قديماً وحديثاً والمثبتة على أطرافها، ثم أردف قائلاً: بدأت خلافات هيمنجواي وبولين من هذا المكان. ففي ثلاثينيات القرن الماضي كانت برك السباحة قصراً على الأثرياء، ولذا كان التفكير في حفرها آنذاك مجازفة من هيمنجواي. الأرض التي أصبحت بركة لاحقاً لم تكن سوى حلبة يتناطح عليها الملاكمون المحليون بمن فيهم هيمنجواي نفسه الذي كان عاشقاً لهذه الرياضة كعشقه لمصارعة الثيران الإسبانية التي صادق أبطالها وحضر بطولاتها، وكتب عنها كتابه «موت في الظهيرة». وعلى الرغم من أنه بادر بفكرة حفر البركة إلا أنه ترك الإشراف على بنائها لزوجته فيما غادر هو لتغطية أحداث الحرب الأهلية الإسبانية التي اندلعت عام 1936م، وقد حُفرت البركة فعلياً في الشعاب المرجانية القاسية بين عامي 1937 و1938م وبلغت تكلفتها آنذاك 20000 دولار، وهو ما أثار غضبه من بولين. وبالفعل فقد أتى المشروع على آخر بنس يملكه الكاتب. وأخذت بولين البنس وغرسته في الحاجز الإسمنتي المحيط بالبركة، أما البركة نفسها فقد أصبحت علامة معمارية في محيطها.

عُرف عن هيمنجواي ولعه بالقطط، وهي الآن بالعشرات تتجول وتتشمس في زوايا المنزل والحديقة والممرات. يلتقط الزوار الصور معها ويداعبونها وكأنها دُرِّبت على هذه المهمة. بدأت قصة القطط مع أحد أصدقاء الكاتب، وهو قبطان بحري كان يملك هراً ذا ستة أصابع وحين فكر بالمغادرة قدَّمه هدية لهيمنجواي. وهكذا تناسلت القطط عبر السنوات ليتبقى منها اليوم حوالي 50 قطاً وقطة، خُصص لها منزل صغير خلف مكتبة هيمنجواي. وهناك الآن شخص مختص يعتني بأكلها وشربها ونظافتها وصحتها بأمر من محكمة المدينة. وقد سمَّى هيمنجواي القطط بأسماء الممثلين والممثلات الشهيرات، وهو تقليد سرى بعده حتى اليوم وأصبح من علامات الألفة في هذا المنزل الذي أصبح متحفاً.

«البيلار».. كلمة الحب السرية
keywest-out2سأل أحد الحضور عن القارب الشهير لهيمنجواي «البيلار» (the Pilar) الذي طاف به المنطقة وكان صديقه في الأسفار الصعبة. فقال إنه في هافانا اليوم في أحد المتاحف هناك. بُني هذا القارب في حوض ويلر لبناء السفن في نيويورك، وقد دفع الكاتب نصف ثمنه عند عودته من إحدى رحلاته إلى إفريقيا، وأطلق عليه هذا الاسم الذي كان كلمة السر بينه وبين بولين في أيام حبهما الأولى. وعلى الرغم من اجتياح إعصار يوم العمَّال عام 1935م تلك المنطقة فقد نجا هذا المركب من الغرق. وعندما تطلَّقا هو وبولين عام 1940م، شحن البيلار إلى كوجيمار، وهي بلدة كوبية لصيد الأسماك في شرق هافانا. وقد ألهمه هذا القارب لاحقاً كتابة روايته الأشهر «الشيخ والبحر» التي نشرها أوائل الخمسينيات، بل إن كابتن هذا القارب، غريغوريو فوينتس، وصديق هيمنجواي الأثير، كان الملهم لبناء شخصية سانتياغو في الرواية، وقد عاش فوينتس حتى عام 2002م ليرحل عن عمر ناهز 104 سنوات.

أضف تعليق

التعليقات