لمناسبة موسم الحج إلى بيت الله الحرام في عام 1395هـ (المصادف في يناير 1976م) نشرت القافلة استطلاعاً مصوراً بعنوان «مكة المكرمة، دوحة الإسلام وأرض السلام»، بقلم الأستاذ عوني أبو كشك. نعيد هنا نشر مقتطفات منه.
وتيمم شطر بطحاء مكة فيشايعك الإشراق والتجلي، وتطفر جوانحك بالبشر والإيناس، ويسري في حناياك إحساس من الخشوع فيطوي الروح ويهدهدها ويضفي عليها فيضاً من الطمأنينة، وتداعب جوارحك أنسام عِذاب تسيل رقة، كلها من نسيج الصفاء والإيمان فيشيع في كوامن النفس حياة ناصعة تملأ القلب نوراً وهدى.
ولقد عشت هذا الإحساس عندما أكرمني الله بالعمرة، في ربيع الأول من هذا العام، ووقفت في رحاب البيت العتيق وقفة المسلم المؤمن، المتأمل الواعي، أرقب بخشية وخشوع من حولي، في إيمانهم وخشوعهم، في لهفتهم يشرئبون نحو الخالق، يلبُّون طائعين، ويكبِّرون خاشعين، ويدعون ضارعين، ويبتهلون قانتين مهطعين، متذوقين لسر الله في جمع هذه القلوب على إيمان واحد والتفافهم حول أول بيت وضع للناس مباركاً وهدى للعالمين، يشق التهليل أعماق الصدور وتُبح الحلوق بالتكبير تحنقهم العبرات.
تسميتها
قلَّما اختلف اللغويون والمؤرخون في اسم مدينة من المدن واشتقاقها وتعدد أسمائها كما اختلفوا في اسم مكة.. فقد جاء في «القاموس» للفيروز آبادي أن فلاناً مك فلاناً، أي أهلكه. ويقال إنها سميت مكة فلقلة مائها وذلك أنهم كانوا يمتكون الماء فيها أي يستخرجونه. ومن وجوه اشتقاق اسم مكة أنها تمك الذنوب أي تزيلها من قولك «امْتكَّ الفصيل ضرع أمه» إذا امتصَّ ما فيه، أو لأنها تمك أعناق الجبابرة. وقال الجوهري في «الصحاح»: وسمي بطن مكة ببكة لازدحام الناس فيه لأنه من «بكَّة» أي «زحمة».. ومن الوجوه في اشتقاق اسم مكة قال سعيد بن جبير: سميت مكة «بكَّة» لأنهم يتباكّون فيها يزدحمون في الطواف.
ولمكة أسماء كثيرة، أكثرها سماها الله بها في كتابه العزيز، فهي: مكة، وبكة، وأم القرى، والبلد الأمين، والبلد، والبيت العتيق، والبيت الحرام، والنساسة، وأم رحم، ومعاد، والحاطمة، والرأس، والحرم، وصلاح، والعرش، والقادس، والمقدسة، والناسة، والباسة، وكَوْثى، والمذهب، كما جاء في قول بشر «وما ضم جياد والمصلى ومُذهب». هذا وقد كان الجغرافي اليوناني «بطليموس» يعرفها باسم «ماكورابا» لكنها كانت معروفة قبل زمانه بمدة طويلة.
مكة على ألسنة الشعراء
تغنَّى الشعراء، قديماً وحديثاً، بمكة وبطاحها وآكامها تلهمهم القداسات، وتحلِّق بهم التجليات، وتثير قرائحهم الحرمات. من أمثال هؤلاء، حسان بن ثابت، وأمية بن أبي الصلت، وابن الفارض، وقصي بن ربيعة، وكعب بن زهير، وغيرهم كثيرون.
ومما قاله أبو اليمن بن عساكر في مكة:
يا جيرتي بين الحجون إلى الصفا
شوقي إليكم مجمل ومفصَّل
أهوى دياركم ولي بربوعها
وجد يؤرقني وعهد أول
ويزيدني فيها العذول صبابة
فيظل يغريني إذا ما يعدل
ومن الشعراء المعاصرين الذين شحذت قرائحهم أرض القداسات والمكرمات أمير الشعراء أحمد شوقي إذ يقول:
تجلَّى مولد الهادي وعمت
بشائره البوادي والقصابا
وأسدتْ للبرية بنتُ وهْبٍ
يداً بيضاء طوقت الرقابا
فقام على سماء البيت نور
يضيء جبال مكة والشعابا
صناعة الكسوة الشريفة
ظلت كسوة الكعبة المشرفة، لقرون طويلة تُصنع خارج المملكة العربية السعودية إلى أن أمر جلالته المغفور له الملك عبدالعزيز، طيَّب الله ثراه، بأن تنعم قبلة المسلمين بأول كسوة تُصنع في أم القرى، مهبط الوحي، ومبعث النور، وتُحاك بأيدٍ وطنية. وقد تم هذا الحدث التاريخي والعمل الإسلامي الجليل في غرة محرم 1346هـ، حينما أصدر جلالة المغفور له الملك عبدالعزيز أمره السامي بإنشاء دار خاصة في مكة المكرمة تُعد للكعبة في كل عام كسوة بهية أنيقة يشهد بروعتها ودقة صنعها كل من استطاع إلى حج بيت الله الحرام سبيلاً. وفي التاسع من ذي الحجة من كل عام، تزهو الكعبة المشرفة بثوبها البهي، وتتسربل بسربالها الدمقسي، ناطقة بالجلال والوقار، يزينها حزام تحلِّيه الآيات الكريمة والنقوش المطرزة بالقصب المموَّه بالذهب حتى إذا ما أشرق العيد وعاد الحجاج إلى بيت الله الحرام ليطوفوا طواف الإفاضة، بدت لهم في حلتها القشيبة وكأنها تشارك عباد الله الصالحين بالعيد السعيد بعد أن شهدوا منافع لهم وذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام.