حياتنا اليوم

محمد الحمد
الإرادة والشغف بالمعرفة

كيف يمكن لشخص لم يقطع غير شوط قصير في الدراسة أن يتعلَّم برمجة الحاسب الآلي لينجز سبعة برامج جديدة خلال ربع قرن من الزمن، إضافة إلى ما اكتسبه من مهارات حِرفية عديدة؟ شمس علي تجيب عن هذا السؤال من خلال صورة محمد الحمد، المعبِّرة عمَّا يمكن للشغف بالمعرفة والإرادة أن يفعلاه في حياة الإنسان.

ولد محمد علي طاهر الحمد عام 1379هـ في الأحساء. وبعد أن أصبح في سن الدراسة، ألحقه والده بكتَّاب «المطوع». لكنه لم يستسغ أجواء الكتَّاب، إضافة إلى الوحشة التي تملكت قلبه الغض، نتيجة قيام مغسل للموتى بتعليمهم أثناء غياب معلمهم. وهذا ما دفعه إلى الهرب والتغيب عن المطوع. وكثيراً ما كان والده يحمله بين ذراعيه إليه, لكنه في النهاية استسلم لرغبة ابنه في تركه, وألحقه بالمدرسة، بعد نصيحة أسداها إليه قريب، بيَّن له من خلالها، أهمية أن يتقن الرجل الكتابة. وهكذا التحق الطفل محمد بعد بلوغه التاسعة من العمر بمدرسة عبدالرحمن بن عوف بحي الشعبة بالمبرز, وأظهر طوال سني دراسته تفوقاً لافتاً أبهر معلميه، وكان ترتيبه الأول دائماً.

صياغة الذهب
أحب محمد الصياغة منذ نعومة أظفاره. واستهواه اللعب بعدة الصياغة في بيت خال والده أحمد بوخليل. وساعده على ذلك أن أسرته والجيران كانوا في غالبيتهم يحترفون صياغة الذهب, وكان زقاقهم يبدو أشبه بورشة كبيرة تحتل كل زاوية منها دكاكين الصياغ. ولأن والده الصائغ، نزح من محافظة الأحساء إلى مدينة الثقبة، من أجل لقمة العيش، وحرص على أن يصطحب ابنه معه في العطل الصيفية، أتيحت الفرصة أمام محمد لممارسة الحرفة. وبعد أن أتم دراسته للمرحلة الابتدائية، وفي عطلة عام 1395هـ، ظفر بعمل في محل لبيع الذهب قريب من محل والده. وحاز في وقت قصير ثقة صاحب العمل، ما دفعه أثناء سفره إلى أن يأتمنه على إدارة المحل بمفرده.

وبعد نهاية العطلة عاد محمد إلى الأحساء للدراسة، وليتولى أثناء غياب والده شؤون الأسرة. وفي العطلة التالية، دفعه حس المغامرة للإقدام على أعمال في الصياغة، كانت توكل عادة للأكبر منه سناً والأكثر خبرة. وسرعان ما ظفر بمنصب نائب مدير أحد المصانع بعد فتره وجيزة من ترك النائب السابق للعمل، متجاوزاً بذلك أقرانه.

ومع انتهاء العطلة الصيفية، وبداية المرحلة المتوسطة، أخذ يدرس في الصباح، ويعمل في الصياغة في المساء. مما أثر على دراسته بشكل كبير. وفي النهاية ضحَّى بالدراسة من أجل الصياغة! ويصف محمد قراره ذلك، بأنه «كان قرار فتى غر لم يكن والده أو والدته الأميان يريان للاستمرار في الدراسة أية أهمية بعد إتقانه للقراءة والكتابة». وبعدها بعدة شهور، عمل بائع ذهب في محل أحد أقاربه في الهفوف، حيث كان هو المسؤول الوحيد في المحل، ويعطى نصف المكسب مقابل العمل. بعدها افتتح محلاً خاصاً به للصياغة في أحد أزقة الشعبة بالمبرز، حيث ترعرع. وكان يصوغ حَلَقاً للأذنين (تسمى تراكي) ويبيعها على محلات بيع الذهب في الهفوف.

النقلة الكبرى
في عام 1397هـ شجعه ابن عمه على مغادرة الأحساء إلى الدمام. ووعده بتوفير رأسمال له كي يتمكن من فتح محل لبيع الذهب خاص به. لكنه لم يتمكن من الوفاء بوعده، وإن كان وقف إلى جانبه وقام بنفسه بعمل ديكور للمحل، لكن الله قيض له من شاركه، وهو رجل أصبح فيما بعد أيضاً جداً لأولاده، ومن هنا انطلق محمد في تجارة الذهب.

البرمجة
في عام 1404هـ تعرف محمد على علم البرمجة عن طريق صديق له تلقى دورة في البرمجة بلغة «البيسك»، كانت نظَّمتها غرفة التجارة. ما شجَّعه على اقتناء كمبيوتر صخر بقيمة 2000 ريال، إضافة إلى شريط «كاترج» يضم لغة البيسك العربية بقيمة 300 ريال، كما اقتنى كتباً لشرح البرمجة بتلك اللغة. وأخذ يقرأ ويحاول تطبيق ما يقرأه عملياً، ويجري التجارب، ويعمد إلى تخزين جميع ذلك في أشرطة «كاسيت». ثم اتخذ له جهاز أقراص مرنة 3.5 قام بشرائه بـ 1000 ريال. والتحق بعدها بمعهد اللغات بالدمام لدراسة اللغة الإنجليزية من المستوى الثالث إلى المستوى السادس (أربع دورات كل منها شهر ونصف الشهر), إلى جانب اشتغاله على برامج صغيرة لحسابات المحل, ثم اشترى أول كمبيوتر حقيقي مع معالج، وتعلم بذلك التعامل مع نظام دوس (DOS) والبرمجة باللغة الإنجليزية بلغة (GW-BASIC) ثم بلغة (QBASIC) ثم بلغة (VISUAL BASIC) وكل ذلك بمجهود ذاتي.

وفي مرات قليلة جداً، كان يلجأ فيها إلى الاستفسار عن بعض النقاط التي تستعصي عليه، من قريب له تمكن من أخذ دورات في البرمجة ومارسها وأنتج برامج. كما فتحت شبكة الإنترنت لمحمد آفاقاً, فشرع في مطالعة منتديات البرمجة، وأخذ يبحث عبر محرك البحث الذي مكنه من الاطلاع على أمثلة تطبيقية من أصقاع المعمورة. ولم يكن ليعرقله عن المضي في تحقيق هدفه أن يكون المثال الذي يأتي به المحرك أحياناً بلغة «البيسك» التي يفهمها، فيما الشرح بلغة لا يعرفها، مثل اللغة اليابانية أو غيرها.

وبالتدريج تحولت البرمجة إلى هوس حمله على أن يصرف جل وقت فراغه، وجزءاً من أوقات العمل، وبعضاً من أوقات الراحة عليه. فكان يشعر وهو في انغماسه ذلك، وانقطاعه عما حوله بأنه يعيش متعة لا حدود لها، خاصة بعد الانتهاء من البرنامج وتقديمه. وعلى الرغم من أن العائد المادي لم يكن مجزياً مقابل الجهد المبذول، لكن العائد المعنوي في المقابل كان يعني لمحمد الكثير. وهذا ما دفعه إلى أن ينفق بسخاء, على شراء أجهزة الكمبيوتر، والطابعات والكتب المعنية بالبرمجة.

ويؤكد محمد بأن ما منعه عن حضور دورات في البرمجة أنه لم يسمع عن دورات متقدمة في هذا المجال, كما أن الوقت لم يكن ليسعفه. ويؤكد أن البرمجة للحسابات تحتاج أولاً إلى إحساس بالمحاسبة، ومن ثم إلى قراءة كتب محاسبية، والاستفسار من المحاسبين, والقدرة على ابتكار حلول عملية لما يعترض المبرمج من صعوبات فنية.

أول برنامج تجاري
لم يفكر محمد أبداً في إنتاج برامج يستخدمها الآخرون, فقد كانت جميع برامجه للاستخدام الشخصي أو لحسابات صندوق العائلة الذي كان أمين صندوقه. ولكن تحت إلحاح أصحاب ورشة للذهب طلبوا أن يصمم لهم برنامج محاسبة، بعد فشل مبرمج عربي مقيم كانوا قد استعانوا به لهذا الغرض. فقد فشل ذلك المبرمج نتيجة تعقيد حسابات الذهب ومنها تعدد العيارات، واختلاف أنواع الفواتير, لذا انعقدت آمال كبيرة على محمد من أبناء مهنته، خاصة وأنه ابن المهنة, الملم بخفاياها. وصبروا في سبيل الحصول على مبتغاهم على انشغالاته بعمله الأساسي في تجارة الذهب وبأسرتيه الصغيرة وكذلك الكبيرة، خاصة بعد مرض والده، والذي امتد سنوات طويلة حتى وفاته، فكان محمد بذلك نِعْمَ الابن لأمه، والأخ لأخوته، والعضو الفاعل في المجتمع.

حرص محمد أثناء تصميم برنامجه على أن تكون النسخة شاملة تغطي حاجة المحلات، والورش، ومكاتب الجملة، خاصة وهو المطلع على برامج سبقت في هذا المجال, وقدَّم عام 1410هـ أول نسخة تجريبية، للذين طلبوا منه ذلك. وجاء انطباعهم أنها أفضل مما توقعوا، واستمر محمد يجري عليها إضافات وتعديلات حتى غطت كافة الاحتياجات، بحيث صارت تستخدمها حالياً أكثر من مئة مؤسسة, بعدما مرَّ هذا البرنامج بعدد من مراحل التطوير.

البرامج التي أنجزها
خلال ربع قرن
وخلال ربع قرن، أنجز محمد وضع برامج جديدة، هي:
1 – برنامج منال سوفت للذهب – وهو مسجل في وزارة الإعلام
2 – برنامج خاص بالألماس
3 – برنامج خاص بالأسهم
4 – برنامج المحاسبة وإدارة المخزون
5 – برنامج المنال للخياطة الرجالية – مسجل في وزارة الإعلام
6 – برنامج لطباعة استمارة الجوازات – مكتب العمل
7 – برنامج لإدارة الأملاك وهو يختص بالإيجارات

وحتى اليوم، ما زال محمد يمارس البرمجة بين الحين والآخر لإدخال إضافات، أو تعديلات على برامجه المنجزة، وتقديم الدعم الفني لبعض من يتعامل مع برامجه تلك. وبلغ عدد مستخدمي برامجه المئات. وفي مجال الذهب، تبوأ محمد قبل فترة قصيرة فقط منصب رئيس لجنة الذهب في غرفة الشرقية، وما زال يمتلك من الإرادة والطموح الكثير.

أضف تعليق

التعليقات