العلم خيال

متى ستفتتح الحديقة الجوراسية؟

dino1في رواية مايكل كرايتن الشهيرة «الحديقة الجوراسية – Jurassic Park»، التي تم إنتاجها عام 1993م فِلماً سينمائياً، قام العلماء بإعادة إيقاظ الديناصورات من سباتها الطويل، الذي دام لأكثر من 65 مليون سنة، عن طريق استخراج جزيئات الحمض النووي لكائنات ديناصورية، كانت محفوظة في الدماء التي امتصتها حشرات تنتمي إلى تلك الحقبة وعثر عليها متحجّرة في أحافير الكهرمان منذ ملايين السنين. قد تبدو هذه حبكة مقبولة لنص رواية خيال علمي.. لكن ما مدى مقاربتها للواقع؟

إن الانقراض ليس بظاهرة غريبة على كوكبنا. إذ تشير التقديرات إلى أن الغالبية العظمى من الأحياء التي وُجدت على مر التاريخ قد انقرضت في النهاية ولم تستمر. بل إن آلاف الأجناس التي تشاطرنا الحياة اليوم تمثل أقل من الواحد بالمئة من تلك التي عاشت على سطح هذا الكوكب.

قد يتبادر إلى أذهاننا على الفور بعض موجات الانقراض الجماعية تلك كانقراض العصر الطباشيري-الثلاثي الذي يسمى بـ «انقراض الديناصورات»، لكن يتضح لنا في الواقع أن %95 من حالات الانقراض كان مردها فشل الكائنات في التكيّف مع التغيرات الطفيفة التي تحل ببيئاتها.

إن إعادة إحياء المنقرض هو فرع من فروع علم الأحياء. كانت نشأة هذا الفرع أمراً حتمياً بعد الأشواط التي قطعها العلماء في علوم الأحياء الجزيئية والكيمياء الحيوية والوراثة، بالإضافة إلى التطورات المتسارعة في تقنيات تسلسل الحامض النووي (DNA) والاستنساخ. كما يعد هذا المجال من أكثر المجالات البحثية المثيرة للجدل الأخلاقي كذلك.

لكن، بعيداً عن رغبتنا الجامحة وفضولنا في رؤية التيرانوصور رِكس (سحلية الرعد) الشهير بكل هيبته، هل توجد هناك أسباب أخرى تدعونا لإعادة الأنواع المنقرضة إلى الحياة؟

shutterstock_192344210أحد أهم هذه الأسباب يكمن في عقدة الذنب..! فنحن كبشر كنا ولا نزال عوامل سلبية أدت إلى انقراض كم كبير من أشكال الحياة الأخرى، لأسباب مباشرة كالصيد الجائر واستغلال الموارد الطبيعية، أو لأسباب غير مباشرة كاتساع الرقعة السكنية وإدخال كائنات مجتاحة طارئة على البيئة كما حصل في الأمريكتين وأستراليا ونيوزلندا، ومؤخراً، نتيجة للاحتباس الحراري. لذلك، ومن منطلق تصالحي بحت، فنحن ملزمون بتصحيح الضرر الذي أوقعناه بها وبالنظم البيئية التي تنتمي لها. وجزء من عملية التصحيح هذه هو استعادة هذه الأنواع وإعادة إحيائها مجدداً.

الفكرة تبدو جنونية بعض الشيء، لكن إلى أي مدى يمكن لها أن تُطبق؟ وهل من الممكن أن نعيد الديناصورات من انقراضها الطويل؟ هناك ثلاث إجابات علمية لهذا السؤال.

الانتخاب الصناعي
وهو انتقاء الأصلح من الصفات من أجل الوصول إلى نتيجة معينة، كصفة إدرار الحليب وكثرة اللحم والصوف بالنسبة للماشية. هذا السلوك المتوارث منذ آلاف السنين أخرج لنا الكلاب من الذئاب، والبقر من الثيران البرية، وكثيراً من الخضراوات والفواكه.

يمكن أن نستخدم الطريقة نفسها لإحياء الأنواع المنقرضة، عن طريق انتقاء الصفات التي تمثل تلك الموجودة في الكائنات البائدة. لنقل مثلاً إننا نريد إعادة إحياء الثور البدائي المعروف بالأُرْخُص (Aurochs) المنقرض منذ ما يقارب 400 سنة. الأُرْخُص هو السلف البرّي للبقر المستأنس الذي تنحدر منه جميع الأبقار الأليفة اليوم. وبالتالي فمن المتوقع أن نصل إلى نوع شبيه بالسلف عن طريق اختيار صفات شبيهة بصفات الأُرْخُص. أي أن يتم انتقاء صفات كطول القرن، وضخامة الحجم والجمجمة من البقر المستأنس لكي يصل بنا المطاف بعد سنين إلى الأرخص أو لنوع شبيه به.

وهذا ما فعله العلماء في مشروعهم الذي بدأت بوادره في عشرينيات القرن الماضي في ألمانيا، وتكلل بالنجاح بعد أكثر من خمسين عاماً من العمل الدؤوب، ليعود لنا الأُرْخُص من جديد. لكن، وعلى الرغم من هذا النجاح، تبقى هناك بعض التساؤلات التي لا يمكن الإجابة عنها. ربما نجح العلماء في إعادة نوع شبيه بالأُرخص من الناحية الشكلية فقط، لكن ماذا عن النمط الجيني والسلوك؟ هل ما حصلنا عليه من الانتقاء الصناعي هو الأُرخص الذي انقرض منذ أربعة قرون؟ وكيف لهذه العملية أن تعيد لنا الديناصورات من انقراضها؟ الانتخاب الصناعي يشترط وجود سلالات منحدرة من السلف، والديناصورات بالطبع انقرضت هي وسلالاتها المباشرة. وهذا ما ينقلنا إلى الطريقة الثانية من طرق إعادة إحياء المنقرض.

الاستنساخ
وهو استخلاص المادة الوراثية من نواة خلية كائن منقرض، لنقل مثلاً مما تبقى من جلد الماموث ووبره، ومن ثم إدخالها مرة أخرى في بويضة أنثى كائن حي قريب للماموث من الناحية الجينية كالفيلة، ليخرج لنا من رحمها جنين الماموث. بهذه الطريقة تمكن العلماء في الحديقة الجوراسية من استنساخ الديناصورات من بقايا أحماضها النووية المحفوظة في أحافير الكهرمان.

dino2بدأ مشروع الاستنساخ بداية مدوية قبل نحو عقدين مع النعجة دوللي (أول حيوان ثديي يتم استنساخه بنجاح من خلية جسمية). لكننا اليوم قد تخطينا النعجة دوللي بمراحل، وأصبحنا أفضل في عملية الاستنساخ. بل أضحى الاستنساخ في متناول اليد وبأسعار زهيدة، ليس عليك سوى إرسال الحمض النووي الخاص بحيوانك الأليف لمركز أبحاث كوري (مركز SOOAM) لينتج لك نسخاً مطابقة منه. لكن كالنعجة دوللي، سرعان ما تواجه الكائنات المستنسخة مشكلات صحية في حياتها تؤدي في غالبيتها إلى الموت السريع. ويصبح الاستنساخ أكثر صعوبة عندما يتعلق الأمر بالكائنات المنقرضة، لسبب مهم تغافل عنه كاتب الحديقة الجوراسية. وهو أن الحمض النووي له تاريخ انتهاء، وهو ما يعرف بمنتصف العمر. فبعد موت الكائن الحي، تبدأ الروابط الكيميائية لمكونات الحامض النووي بالتكسر بمعدل متزايد، حيث يفقد نصف مكوناته كل 521 سنة تقريباً. هذا يعني أن متوسط عمر الحمض النووي هو 6.8 مليون سنة، وهذه مدة قصيرة مقارنة بالوقت الذي مضى منذ انقرضت الديناصورات. لذلك يُعد من المستحيل الحصول على حمض نووي ديناصوري.

في الرياضيات، يرمز الحرف الإغريقي روه (ρ) لما يعرف بالعدد أو الثابت البلاستيكي. هذه التسمية المضحكة تشير لعلاقة القربى التي تربط الثابت ρ بالثابتين فاي (φ)، الخاص بالنسبة الذهبية، ودِلتا (δ)، الخاص بالنسبة الفضية، اللذين سبق استعراضهما هنا. لكنها علاقة وثيقة غير متكافئة، فالنسبة البلاستيكية أقل استمساكاً بمعايير الجمال الرياضي من ابنتي عمومتها. إنها بالكاد تمثل حلاً وحيداً للمعادلة:

x3 = x + 1

أما القيمة التقريبية لهذا الثابت البلاستيكي فتساوي تقريباً: 1,3247179572 .. وهكذا إلى المالانهاية كما هو ديدن الأعداد النسبية كما بتنا نعرف.

مثلما هي النسبة الذهبية مقترنة بمتتالية معروفة في الرياضيات اسمها «متتالية فيبوناتشي»، فإن النسبة البلاستيكية مقترنة بمتتالية أقل شهرة هي متتالية «پادوڤان»، التي تعرف وفق القانونين التاليين:

P0 = P1 = P2 = 1 و Pn = Pn—2 + Pn—3

وبالتالي فعناصرها العشرة الأولى هي: 1,1,1,2,2,3,4,5,7,9,…

تنسب هذه التسمية للرياضي دوم هانز فان دير لان، الذي لم يقصد أي تقليل من قيمة الثابت ρ حين نعته «بالبلاستيكي» عام 1928م، بل أراد أن يشير إلى خصائصه المرنة والتعددية لكونه يقدم حلاً لمعادلة من الدرجة الثالثة.

تنويه واعتذار:

عنونَّا هذه الزاوية خطأ في العدد الماضي بالثابت روه (ρ)، والصواب أن العنوان هو دِلتا (δ)الخاص بالنسبة الفضيّة. عليه ننوِّه ونقدِّم اعتذارنا لهذا الخطأ التحريري!

ونواجه المشكلة نفسها مع كائنات منقرضة مؤخراً كالماموث. فالحمض النووي الذي حصلنا عليه لم يتفكك بشكل كبير، لكنه يبقى ناقصاً، مما يجعل مهمة الاستنساخ أمراً مستحيلاً كذلك، إلا إذا استطعنا ترميم ما فقدناه من هذا الحمض. وهذا ينقلنا إلى طريقتنا الثالثة لإعادة إحياء المنقرض.

الأحياء التركيبية (الأحياء التخليقية)
أي إعادة تركيب وهندسة الحمض النووي من لبناته الأساسية. لنقل مثلاً إننا استطعنا الحصول على %80 من جينوم الحمام المهاجر المنقرض منذ أكثر من قرن، عن طريق مقارنته بجينوم أقرب كائن حي له من الناحية الجينية (في هذه الحالة الحمام ذو الذيل الريشي) نستطيع تحديد الجينات الناقصة وبالتالي صناعة ما تبقى منها مخبرياً. يتم بعدها إدخال الجينوم الجديد إلى الخط الإنتاشي (Germline) للحمام ذي الذيل الريشي (الخلايا المسؤولة عن إنتاج الحيوانات المنوية والبيوض) ليخرج الحمام المهاجر المنقرض بعد تناسل أفرادها.

من الواضح أن هذه الطريقة مختلفة عن الاستنساخ، فعلى عكس الاستنساخ الذي يحتاج إلى توفر الحمض النووي للكائن المنقرض بشكل كامل، يقوم علماء الأحياء التركيبية بهندسة الجينوم من الصفر. وهذا يفتح لنا آفاقاً واسعة لا تقتصر على بعث الأمل في قابلية إعادة الديناصورات للحياة مرة أخرى، بل قد يصل بنا المطاف إلى إحياء أنواع لم نعلم أبداً بوجودها.

لكن يبقى السؤال الأهم، كيف لنا أن نسيطر على هذه التقنية الجديدة؟
في رواية الحديقة الجوراسية خرجت الكائنات التي يُعاد إحياؤها عن السيطرة، فأصبحت خطراً يهدِّد سكان الجزيرة ويعبث بنظامها البيئي. وهذا أمر يساوي في فداحته مأساة الانقراض نفسها. فإضافة أنواع جديدة أو منقرضة إلى نظام بيئي مغلق ومستقر سيخلّ بتوازنه الطبيعي. فربما يُعد إعادة إحياء المنقرض واجباً أخلاقياً تجاه الأنواع التي كنا سبباً في انقراضها، لكنه كذلك نموذج آخر لتلاعب الإنسان في محيطه الحيوي.

أضف تعليق

التعليقات

ماريا

المقال مبدع !! بل إنه خرافي،! من المقالات التي تفتح عينيك إلى أشياء لم تكن تعطيها تفكيرًا أو تأملًا في السابق!
فعلًا أهني الكاتب على حسن أسلوبه وتبسيطه لمعلومات معقدة كما أشكره على المتعة التي وهبها لنا