حياتنا اليوم

لنسقِ أطفالنا حلاوة العلم شهداً

ارتمت بين أحضان والدتها باكية تنهمر دموعها بعد انتهاء معاناة الطالبة الجامعية «شهد» على مدى أربعة أشهر عاشتها في تدريس طلبة الصف الثالث الأساسي في إحدى القرى النائية.

اختلاط عبارات الحمد والثناء والدموع لم يكن لانتهاء فترة التطبيق العملي لمشروع تخرجها في تخصص تربية الطفل، وما عانته خلالها من متاعب وصعوبات.. وإنما كان ببساطة لنجاحها في مهمة مستحيلة شكك أعضاء الكادر الإداري جميعاً في تلك المدرسة بقدرة الطالبة العشرينية عديمة الخبرة على تخطيها.

«شهد» طالبة جامعية، لكي تتمكن من إنهاء تخصصها الجامعي عليها أن تدرِّس عملياً في إحدى المدارس الابتدائية، عقدت الدهشة لسانها عندما وجدت أن طلبة الصف الثالث الأساسي في تلك المدرسة «لا يجيدون القراءة».

لا يقرأون، في الوقت الذي يتنافس فيه أقرانهم في أماكن أخرى في مسابقات المطالعة والشعر والنثر!، ولم تكن أميتهم ناتجة عن ضعف عام أو سلوك مشاغب، وإنما ببساطة لأن من ينال راتباً لقاءَ تعليمهم، لا يقوم بعمله.

تصف «شهد» التجربة وتلخصها بقولها: «أصبح الطلبة يعانون من مشكلة صعوبة التعلم نتيجة إهمال معلمين لواجبهم الأساسي وخيانتهم للأمانة، ولحسن الحظ أنني عرفت عن هؤلاء الأطفال صدفة، ولكن ماذا عن عشرات أو مئات الأطفال الذين لم تتوافر لهم الفرصة ليأتي أحد ما من المجهول ويمنح قليلاً من وقته لهم».

أن يكون هناك طالب ضعيف وتحصيله العلمي متواضع هذا أمر طبيعي وقد يحدث في أي مكان، ولكن أن يصل طلبة إلى الصف الثالث وهم غير قادرين على القراءة فهو طامة كبرى، ولا عذر لمعلم يرى واقعاً كهذا ولا يبادر إلى تغييره متذرعاً بتراكم أخطاء من سبقه وتقصيرهم، أو قلة الراتب أو بُعد مكان الخدمة.

أهملت «شهد» محاور مشروع التخرج باستثناء محور تقنيات تحديد صعوبات التعلم لدى الصغار وآليات معالجتها، وأفرغت غرفة الصف من المقاعد الشاحبة التقليدية وسط ذهول المعلمات وحنق الإدارة.. واستمرت في عملها دون أن تعطي بالاً لأحد.

وبدأت الطالبة التي ودَّعت هي نفسها مقاعد المدرسة قبل سنوات قليلة، بالتواصل المباشر مع الأطفال بالحديث الصبور المتأني، واستخدام المتاح في البيئة المحيطة والبدء معهم من النقطة صفر للتعرف إلى الأحرف الأبجدية من جديد وتذوق حلاوة أول الكلم ومستهل الوحي.

وقسَّمت الصفَّ إلى مجموعات، الذي يتخطى إحداها يغادر إلى أخرى متقدمة، وكل مرحلة تميزها النجوم والشرائط متعددة الألوان وهدايا صغيرة مما تستطيع «شهد» تأمينه من مصروفها الخاص.. كل ذلك وإدارة المدرسة ومعلماتها يواصلن رفضهن لأي تغيير أو محاولات تغيير لواقع مستحيل على حد تعبيرهن.

في آخر المطاف أصبح أكثر من نصف طلبة «شهد» العشرين، قادرين على القراءة من الصحيفة، وتجاوز الباقون مرحلة الأمية ليَعبُروا جميعاً إلى وهج المعرفة ويفتحوا باباً يضعهم على مشارف الاكتشاف والاكتساب والتجربة.

وبقدر نعمة المعرفة ومتعة التعلم اللتين حصل عليهما هؤلاء الصغار، فإن ما أعطوه لمعلمتهم الطالبة يتجاوز ذلك بكثير.. سلام داخلي وتصالح مع الذات ورضا حقيقي عن النفس وشهادة كل من عرفها بأنها غيَّرت بإصرارها حال تلك المدرسة وأصبحت مثالاً رائعاً لا يملّ أستاذها المشرف على تخرجها من الحديث عنه حتى الآن.

قصة «شهد» هي دليل استخدام وفك شيفرة لعبارات منتقاة منشاة في المؤتمرات والندوات والدراسات: «ضمان التحاق الأطفال بمدارس تحظى بتمويل جيد، يعمل فيها معلمون مدربون ومتحمسون، وعلى الحكومات تحفيزهم ضمن سياسات الإشراف والمساءلة».

وهي فرصة ليعرف الآباء والمعلمون ومديرو المدارس أن عبارة «تحسين الجوانب النوعية للتعليم، بحيث يحقق الأطفال نتائج معترفاً بها وقابلة للقياس»، تعني أن يستطيع الأطفال القراءة والكتابة والحساب والمهارات الحياتية الأساسية التي تجعل حياتهم أفضل.

أن نخْرج من جمود النصوص إلى جمال الأفعال وحرارتها هو قمة الإبداع في الحياة بكل جوانبها، فكيف إذا كانت أثناء أجمل مراحل الحياة (سنوات الدراسة) ليصحو الطالب كل يوم متفائلاً بأنه ذاهب للمدرسة ويجد معلماً صالحاً ومؤهلاً لأن يكون قدوة ومثالاً يُحتذى.

وكما أن هناك «شهد» في كل مدرسة في هذا العالم، فإن هناك تربويين لا يزالون يحملون فكراً أشد من العلقم مرارة، ويمكنك أن تقرأ ما أمر أحدهم بتعليقه على باب مختبر الحاسوب في مدرسة ما: «يُمنع الطلبة منعاً باتاً الدخول إلى مختبر الحاسوب واستخدام الأجهزة.. تحت طائلة المسؤولية»!

أضف تعليق

التعليقات