الثقافة والأدب

التكوين…
سر خفي في جمالية العمل الفني

  • p.8
  • p2
  • p5
  • p7
  • p9
  • p10_Snow Storm-Hannibal-and-His-Army-Crossing-the-Alps-1812
  • p13
  • p15
  • p16
  • p17
  • p18_CÇzanne,_Paul_-_Still_Life_with_a_Curtain
  • pp1

لماذا تُعجبنا لوحات معيَّنة وتجعلنا نُطيل النظر فيها؟ وما السر في العمل الفني الجميل الذي يجعلك ترغب في رؤيته مراراً وتتأمل وتستمتع بكل جزء فيه، كلحن يأخذك إلى عالم رائع ترغب في الاستماع إليه مجدداً؟ وما الذي يجعل عملاً فنياً، عملاً جيداً وناجحاً ومدهشاً؟ أسئلة كثيرة والجواب واحد: التكوين. وهذا ما تتحدَّث الفنانة التشكيلية والكاتبة والمتخصصة في الفيزياء زينب أبو حسين، عن أسراره في هذا المقال، مدعمة مقالها بمجموعة من اللوحات بعضها رسمتها الكاتبة.

قد يكون موضوع العمل الفني واختياره أهم عوامل عناصر نجاح أي عمل فني. لكن الموضوع تليه عوامل عدة لعل أهمها التكوين الناجح.

فالتكوين الذي يُعد من أهم مقومات نجاح أي عمل فني، هو فن صياغة اللوحة الفنية. ويمكن أن نُعرِّفه أيضاً على أنه فن ترتيب الأشكال والألوان في شكل معبِّر وممتع جميل ومرضٍ، داخل إطار اللوحة؛ أي أنه اختيار الفنان لما يضعه في اللوحة وما يستغني عنه من الألوان والأشكال ليقدّم اللوحة في أحسن وضع يجعل عين المتلقي تتأمل داخل إطارها أطول فترة ممكنة من الوقت.

وهكذا يضع الفنان خطة أو خارطة لحركة العين في اللوحة، وهي المسار الذي تتبعه عين المشاهد خلال العمل الفني، متنقلة بين الموضوع والأشكال ضمن إطار اللوحة. والترتيب الذكي للأشكال بطريقة شيّقة وفق خطة مدروسة لحركة العين، يعطي الفنان تحكماً أكبر بكيفية تفاعل المشاهد والمتلقي مع العمل الفني.

وكل هذا يعتمد على قوة التكوين في العمل الفني الذي يتألف من مجموعة عناصر هي: إطار اللوحة، والعمق، والخطوط، والألوان، والفراغات، والملمس أو التأثير، والإضاءة والظلال. وبالتالي فإن التكوين الناجح، هو تطويع لهذه العناصر لإيصال رسالة الفنان إلى المتلقي والمشاهد.

إطار اللوحة
ومن أبرز عناصر العمل الفني «إطار اللوحة»، أي مساحتها أكانت أفقية أم عمودية. وعلى الرغم من أن عدم وجود قاعدة بين التكوينين فإن التكوين الأفقي يُعد أكثر هدوءاً وراحة للعين، لذلك من الأنسب اختياره لمواضيع مثل المناظر الطبيعية. أما التكوين العمودي، فهو أكثر حركة وحيوية، ومن المناسب اختياره للتخلص من الجمود، كما هي الحال في معظم البورتريهات.

وكذلك فإن مجال الرؤية في التكوين، تتم مراعاته عبر تخيل ظهور المشهد. فإذا كان كاملاً يكون التكوين مغلقاً، وإذا كان جزئياً يكون التكوين مفتوحاً. وهنا يجب الانتباه لئلا تنزلق الأشياء من مركز الاهتمام إلى خارج إطار اللوحة، خصوصاً أن المساحة تتحكم في أماكن العناصر وأحجامها داخل التكوين.

العمق
أما العمق أو البعد الثالث، فهو ترتيب الأشياء أو الموضوعات داخل اللوحة ونسبها بعضها إلى بعض لإحداث بعد ثالث غير الطول والعرض. وهذا العنصر يتوقف على اختيارات الفنان. فإذا أراد الحصول على إحساس البعد الثالث، اهتم بمواقع الأجسام داخل اللوحة؛ قربها وبعدها بعضها عن بعض وعن السطح، لإعطاء عمق في اللوحة. أما إذا رغب بتسطيح العمل، ابتعد عن إحساس البعد الثالث.

الخطوط
وفيما يتعلق بالخطوط في اللوحة، فإنها أنواع مباشرة مثل خطوط الرسم، وغير مباشرة مثل خطوط الألوان، أو مثل ضربات الفرشاة. والعين عادة تلاحق الخطوط وتحاول إكمالها، علماً بأن استخدام الخطوط المباشرة أو غيرها يُعد من أبسط الطرق لوضع خارطة لحركة العين داخل اللوحة، وتقودها إلى مركز القوة في اللوحة وتبعدها عما يشتت الانتباه.

الألوان والفراغات
أما الألوان، فلها درجة وقوة وتركيز وتناغم وحرارة. وقد يختار الفنان أن تكون للوحة ثيمة لونية واحدة ذات درجات متقاربة، أو قد يختار أن تكون ذات ألوانٍ متضادة، ويحدد درجة الحرارة اللونية الغالبة. والفراغات أيضاً تكون مباشرة أو غير مباشرة، موجبة أو سالبة. فهي تسمى موجبة عندما تشكِّل فراغات الأجسام المرسومة في اللوحة، وتسمى سالبة حين تكون محيطة بالأجسام المرسومة.

الملمس أو التأثير
ويقصد بالملمس أو التأثير، شكل سطح اللوحة أو مظهره وهو يشمل نوع السطح والخامات المستعملة وما تعطيه من تأثيرات من نعومة أو خشونة أو ثقل أو شفافية. ويشمل أيضاً التأثيرات المتأتية من التقنيات المستخدمة في العمل، كطريقة استخدام الفرش واستخدام التظليل والخطوط.

الإضاءة والظلال (القِيْمَةُ)
يُعد الضوء والتقاطه في اللوحة والتحكم في الظلال من أساسيات العمل الفني. ومعرفة مصدر الضوء، تحدد مكان الظلال وحجمها ودرجتها في اللوحة، كما أن التقاط الضوء على الأجسام فيها يضفي عليها حياة. والفنان المتمكن يسعى إلى الحصول على عمل متوازن من ناحية الظلال، من خلال استخدامه قيماً لونية تتدرج من الظلام إلى النور.

أسرار التكوين الناجح
والتكوين الناجح يكمن في استخدام هذه العناصر بشكل قوي ومريح ومتناسق للوصول إلى عمل فنيّ قيّم. لكن، كيف نحصل على أفضل تكوين لعمل فنيّ؟

في الحقيقة، عندما ننظر إلى أي لوحة أو عمل فني، فإن ما نراه هو موضوع صُوِّر لنا بطريقة جذابة وجميلة. لكن الشيء الأهم من جمال الموضوع، هو جمال اختيارات الفنان واستكشافنا للهدف من هذه الاختيارات، وكيف أنه اخترع أشكالاً جديدة من الموضوع؛ كيف أن كل عنصر في اللوحة، هو مثل أي ممثل في مسرحية، له دور يؤديه ويتقاطع مع بقية الممثلين على المسرح.

حظ أم درس؟
فالأعمال الكبيرة لم تكن «ضربة حظ»، بل هي ناتجة عن خطة مدروسة وعمل متواصل لتطوير التكوين. ففي العادة، يبدأ الفنان بدراسة الموضوع ورسم عدة مخططات أولية يختار فيها أفضل طريقة لعرض الموضوع في اللوحة، كما يختار الحالة المزاجية والمشاعر التي يريد توصيلها إلى المتلقي، ثم يبحث عما قد يشوش المتلقي، وربما يحذف أو يضيف ليصل إلى أفضل تكوين للموضوع.

إن مجرد رسم الموضوع بطريقة ناسخة لما نراه، يجعل جميع الألوان والأشكال داخل التكوين سهلة التوقع والتخمين، ولذلك تصبح اللوحة مملة بصورة سريعة، بينما تعطي الترتيبات المفاجئة وغير المعتادة للألوان والأشكال في اللوحة، متعة وقيمة أكبر للوحة.

أساسيات وليس سحراً
ليست هناك وصفة سحرية لمعرفة أفضل تكوين للوحة فنية، بل هناك أساسيات يفضل مراعاتها والإلمام بها، لأنها تؤثر في نجاح التكوين؛ وأهمها الوحدة أو الثيمة المكررة التي تحافظ على التوافق والتجانس في اللوحة وتظهر جلياً مثل إيقاع مرئي أو مزاج غالب يدهش المتلقي، مثل تكرار شكل معيَّن ولون معيَّن أو توحيد شكل ضربات الفرشاة. بعض الفنانين يقوم باختيار لون معيَّن يمزجه مع كل الألوان التي سيستخدمها في اللوحة من أجل الحصول على الوحدة. وبعضهم قد يختار شكلاً معيناً كالمربع، يضعه في اللوحة بشكل مكرر ولكن غير ظاهر. مثل الثيمة الواحدة في اللوحة كمثل تكرار جملة موسيقية في لحن كامل بحيث تحافظ الجملة على وحدة اللحن وتعزِّز الجو الغالب على القطعة الموسيقية، مثل نمط خفي يتكرر من دون أن يصيبنا بالملل.

معضلة التوازن
ومن ذلك أيضاً ترتيب العناصر في اللوحة بنوع من التوازن. وهذا التوازن عادة ما يكون هدف أي فنان عند رسم أية لوحة، سواء من ناحية قيمة اللون أو الخطوط المباشرة. لهذا، فهو يبحث عن نقطة التوازن التي نادراً ما تكون في مركز اللوحة أو وسطها. والحصول على هذا التوازن ليس شيئاً معقداً. فمثلاً، يمكن موازنة مناطق الألوان الفاتحة الكبيرة بمناطق صغيرة من اللون الداكن. أو موازنة الألوان الدافئة بالألوان الباردة. وهناك قول يتداوله الفنانون كقاعدة للحصول على التوزان هو: ما يبدو جيداً يكون صحيحاً.

ومن أهم شروط التكوين الناجح، عدم وضع الأشياء مركز الاهتمام في المركز أو منتصف اللوحة، لأن ذلك يجعل عين المتلقي تقف في تلك النقطة ولا تتحرك لترى بقية اللوحة. وعدم جعل الأشياء مركز الاهتمام تخرج خارج إطار اللوحة، لأن عين المتلقي وعقله سيحاولان البحث عن الجزء الناقص، مثل قطعة لغز ضائعة وهذا من أكبر الأخطاء التي قد تشوش انتباه المتلقي.

عادة ما يهتم الفنانون بمراعاة موضع خط الأفق وموازنة عناصر اللوحة معه، ويتجنبون وضعه في منتصف اللوحة. من المهم ملاحظة أن خط الأفق بالنسبة لمشاهد من نقطة عالية، يكون مرتفعاً لأنه ينظر للأسفل، لذلك سيكون المنظر مثل سطح واسع أو سجادة في اللوحة. أما خط الأفق المنخفض، فسيعطيك سماءً أكثر في اللوحة ويجعلك تنظر مباشرة في المشهد أمامك وهكذا تبدو الأشياء في الخلفية كبيرة.

وقاعدة الثلث من القواعد التي يتبعها الفنانون للحصول على التوازن، خصوصاً المصورين الضوئيين. هذه القاعدة تنص على أنه يجب وضع الأشياء مركز الاهتمام قرب أحد الخطوط التي تقسم اللوحة إلى ثلاثة أقسام متساوية أفقياً وثلاثة أقسام متساوية عمودياً وهكذا… ويجب كذلك الاهتمام بالفراغات السالبة (الفراغات حول العناصر المرسومة) أو الموجبة (فراغات العناصر المرسومة) داخل إطار اللوحة، لأن تعامل الفنان مع هذه الفراغات بفعالية، يمنح تشويقاً في التكوين، كأن يجعل الفراغات السالبة والموجبة تذوب بعضها ببعض. وقد يجعل الانفصال حاداً و قوياً بينهما، وأحياناً تكون الفراغات السالبة محوراً لاهتمام الفنان وليس الموضوع المرسوم نفسه.

إضافة إلى ذلك، فإن التنويع في الألوان والظلال ودرجة التضارب أو التضاد اللوني، يعطي قوة للتكوين. كما أن مصدر الضوء غير التقليدي، يعطي مؤثرات رائعة للظلال داخل اللوحة ويوجد أشكالاً جديدة وجواً مشوقاً للتكوين.

التحكم بالحركة
إن الاهتمام بحركة عين المتلقي داخل اللوحة ووضع خطة لها، يجعلان التكوين جذاباً ما يجعل المتلقي متلهفاً لرؤية مزيد في اللوحة، علماً بأن حركة العين داخل اللوحة نوعان: حركة سطح وحركة عمق.

هذه بعض القواعد للحصول على تكوين ناجح، وهو ليس أمراً سهلاً لكنه ضروري. إن أي خطأ في التكوين، قد يفقد اللوحة قيمتها الفنية حتى لو كان الرسم فيها دقيقاً ومتقناً. فمعظم الأعمال الفنية الخالدة ذات القيمة، هي أعمال وضعت لها خطة محكمة للحصول على أفضل تكوين يوصل رسالة الفنان. والفنانون الكبار لم يصلوا إلى ما وصلوا إليه، إلا ببذل الجهد وكثرة الممارسة والتعلم وإعمال الفكر، لذلك نراهم يتمكنون من الحصول على تكوين ناجح وكأنه يصدر من غير وعي؛ تماماً كعازف البيانو المتمرس الذي يعزف و هو مغمض العينين.

أضف تعليق

التعليقات