حياتنا اليوم

إبراهيم الصحيّح ..
المعاق الذي تحدَّى المستحيل وعشق الساحرة المستديرة

  • C

سيرة هذا المواطن تستحق أن تُروى، لأنها تلخِّص قدرة الإنسان على اجتياز إعاقته الجسدية وتحقيق أحلامه.
زكريا العباد زار ضيف هذا العدد، إبراهيم الصحيّح، ودوَّن جانباً من المصاعب الحياتية والاجتماعية التي مرَّ بها وكشف عن سرّ تعلقه بكرة القدم.

كيف يمكن أن يكونَ حلمُ حياتك أن تكون لاعب كرة قدم، إذا كنت قد وُلدتَ معاقاً؟!

هذا ما حدث للشاب السعودي إبراهيم الصحيح الذي ولد عام 1976م في قرية نائية من قرى الأحساء تدعى (الجفر)، فقد أبصر النور مصاباً بشلل الأطفال الذي دعاه للالتصاق بالأرض، ولكنّ روحه دعته للانطلاق، فأجاب نداء روحه ولم يلتفت إلى قدميه!.

دَرَجَ إبراهيم في أزقة القرية برفقة أترابه الذين شاركوه اللعب، وقد اكتشف في أعماقه حقيقةً زادَ رسوخُها مع الأيام، هي عشقه للساحرة المستديرة التي تتدحرج على الأرض في مستوى منخفضٍ يوازي المستوى الذي يطلّ منه إبراهيم على الحياة، في حين كان أقرانه يطلّون عليه من أعلى حين ينظرون إليه. أدرك مبكراً هذا الفرق، لكنّه أصرّ على تحدّي الحالة التي وجد نفسه محبوساً فيها.

كبُر إبراهيم وكبر معه تحدّيه وحبّه لكرة القدم، ونمت مهاراتُه في ملاحقتها والتحكم بها. كان أهل القرية يقفون مندهشين أمام ذلك الطفل الذي يحبو مسرعاً وهو يجرّ خلفه قدميه، ينطلق كأفعى تطارد الكرة وتوجهها في نواحي الملعب، متجاهلاً خطورة زحفه بين أقدام اللاعبين.
إن نظرت إليه كمعاق، فقد تظنّ أنّهم يشاركونه اللعب لمجرد تعاطفهم معه، ولكنّك تَعجَبُ إن دققت النظر ورأيت خفّة حركته في الملعب، ولا معين له سوى يديه، بهما يسعى وبهما يضرب الكرة بقوة توازي قوّة أقدام أقرانه، وحين تسألهم، فسينبؤونك عن حكاية من التحدي والإصرار والمثابرة، أثمرت لاعباً أساسياً لا يكتمل الفريق دونه.

ينظر إليه أصدقاؤه وأهل قريته بإعجاب كبير، وكأنّه أفضل حالاً منهم، إلا أنه، وعلى العكس منهم، لا يشعر بأيّ تميّز يستحق من أجله أن يُكتَبَ عنه، يقول الصحيّح: «ما الغريب في حياتي؟! ما يراه الآخرون تميّزاً هو ما يجبُ أن يكون عليه الإنسان، هل يفترض أن يستسلم الإنسان للإعاقة ؟!».

عوّض إبراهيم عن نقص جسمه برجاحة في عقله، فخلّد صورته في ذاكرة القرية، يصفه أحد أصدقائه بـ «اللاعب المميّز، وهو كابتن الفريق ومدربه، يضع الخطط والتكتيكات ويختار اللاعبين، ويمتاز بذاكرة قويّة، فهو يحفظ مباريات عالمية قديمة بكامل تفاصيلها، له نظرة كرويّة ثاقبة وفكرٌ راجح، شخصيّته قويّة وجميع اللاعبين يستمعون له ويُنْفِّذُونَ توجيهاته، واللاعبون لا يشعرون بلذّة اللعب إن غاب».

هذا ما يقولونه، أما هو فيقول إنّ عشقه الحقيقي هو للعب كرة القدم والتفنن فيه لا لإدارة الملعب «وليس للمعاق حركياً قدمان يسجّل بهما الإنجاز الذي حلمتُ به. كرة القدم يلعبها المعاق ذهنياً أما أنا فلا ألعبها، اشتركت في لعب الكرة الخاصة بالمعاقين حركياً والتي يلعبونها من فوق كراسيهم المتحركة، ولكنها ليست حلمي».

كبر إبراهيم ولم يوفّق للزواج بسبب إعاقته. هذا النموذج الذي يراه الآخرون فريداً يشعر اليوم بالوَحدة التي لا تتبدد حتّى لو كان الجميع إلى جانبه. كان إبراهيم طيّب المعشر يميل كل من عرفه لصحبته، أمّا اليوم فهو يميل للعزلة.

«كان يحثّنا على الزواج وتكوين الأسرة، فهو يحبّ الأطفال»، هكذا قال أقرب أصدقائه إليه، إلا أنه اليوم «صار يبدو كشخصيّة قويّة وضعيفة في نفس الوقت، مفرط الحساسية، يظهر الحزن على وجهه ويبكي أحياناً، يبكي حين يرى معاقاً لا يجد من يدفع عربته، ويتمنى لو استطاع فعل ذلك، وبالرغم من حزنه، ما زال يرعى المعاقين ويسخِّر علاقاته الاجتماعية الواسعة لخدمتهم».

اقتحمتُ خُلْوَتَه، ورأيت منفضته الملأى بأعقاب السجائر. لا يبدو قوياً كما يصفونه وكما رأيته بنفسي في ملعب الحارة منذ سنوات طويلة، فقد ترك الزمن أثره فيه، إلا أنه أجاب عن سؤالي له عن معنى الحياة فقال « إنها تعني الإنجاز، لا أستحق أن أبقى في الحياة بدونه».

تاريخه المفعم بالعمل ينبئ عن رجل يمقت السكون، فمن دوريّ الحواري الذي كان يديره في القرية، انتقل إبراهيم إلى تنظيم دوري الألعاب الإلكترونية في وقت مبكّر لم تعرف فيه القرية مثل هذه الألعاب، ومنه إلى المشاركة في بطولة المعاقين على مستوى الأحساء، وإلى المشاركة في بطولة أخرى بمدينة الطائف. هكذا بدا رافضاً لفكرة الاستسلام للصعوبات، وأضاف «لا أستسلم للإحباط، الحياة لا تستحق أن تعاش بدون الأمل».

بيد أنّ الإضاءة الخافتة في الغرفة التي استقبلني فيها لم تبد منسجمة مع الحيويّة. فمهما يكن الماضي مفعماً بالحياة والإنجاز، فقد أوقفه على عتبة الحاضر المتجهِّم حين تزوّج جميع أقرانه وبقي هو يطرق الأبواب داخل المملكة وخارجها دون أن يجد الإجابة، لم يستطع الوقوف على قدميه، ولم يستطع تحقيق جميع أحلامه المرتبطة بكرة القدم بسبب إعاقته. عوَّض عجزه عن تحقيق أحلام اللعب من خلال إدارة الفريق ورسم الخطط له، وهو الآن يحلم بطفل لا تعوقه قدماه عن الجري في أنحاء الملعب.

الكرة ومدرسة الحكمة
بين الأمل والألم تنبت أشجار الحكمة. قال إبراهيم إنه يحبّ الأطفال في عمر السنة، إنه السنّ الذي يبدأ فيه الإنسان خطواته الأولى، لعلّه يتذكّر نهاية سنته الأولى التي انتهت دون أن يتمكّن من المشي، هذا هو مكمن ألمه، وهو مبعث أمله فهو ينظر إلى السنة الأولى بأمل وحبّ أيضاً، يقول إنّه بارع في التعامل مع الأطفال في هذه السنّ وجعلهم يضحكون.

في غرفته الضيقة الشاحبة ينتظر نهاية الأسبوع حيث تجتمع العائلة لكي يأتي أخواته وأخوه بأطفالهم ليحظى ببعض لحظات السعادة معهم. يسرح ذهنه بعيداً ويتذكر كيف أنه كان يحب أن يثبت «لمن يشعر بأنني أقلّ منه أنه خاطئ»، وتستعيد ذاكرته موقفاً رفض فيه والداه أن يصطحباه إلى مدينة الهفوف حين كان لا يزال صغيراً «فلحقتهم بالكرسي، وركبت سيّارة أجرة وطلبت من السائق أن يلحق بالسيارة التي ركبا فيها، وحين وصلا إلى الهفوف تفاجآ بي أنادي عليهما ورضخا للأمر الواقع واصطحباني معهما». لم يستسلم إبراهيم لفكرة الإعاقة ولم يرضخ لها، وهو يسعى دائماً لفعل ما يثبت قدرته على تحديها؛ فهو يكثر من السفر وحده لا بغرض الترفيه بحد ذاته، بل ليثبت لنفسه قبل الآخرين أنه قادر على تحدي الإعاقة. وكانت قيادة السيارة واحدة من التحديات التي أصر على تخطيها، رافضاً أن يقود السيارة المخصصة للمعاقين حيث بقي لمدة عام يستخدم قدميه المعاقتين، ويلصق المقعد بالمقود «وأضغط بيدي على رجلي لكي أضغط على الدواسة».

يحرص إبراهيم دائماً على التأكيد من أن الرياضة يجب أن تكون جزءاً أساسياً في حياة الناس لأن الرياضة صحّة، ويقول: «في لبنان رأيت النّاس في عمر السبعين يجرون على الكورنيش وتشعر بأنّهم شباب، والناس في بلدي في هذا العمر يتجمّعون على مصاطب البيوت دون فعل شيء». وهو يشير إلى أن التنافس في الرياضة يجب أن يكون متسماً «بالمتعة والأخلاق معاً»، فهناك أخلاقية في التنافس بين اللاعبين، «وإذا لم تلعب بروح رياضيّة عالية فستخسر لأنك ستفقد التركيز. عليك أن تلعب دون أن تفكّر في الفوز».

ويوجه إبراهيم نقده الصريح لطغيان المادة على عالم كرة القدم اليوم، ويقول بهذا الشأن: «إن التفكير في المادة يسبب القلق والإرباك للاعب، حتى التفكير في الفوز يسبب القلق ويفسد المتعة: هذا ما علّمته للاعبين في الحارة».

أضف تعليق

التعليقات