لغويات

“لمّا تشرِق الشمسُ”

لكل لغة أساليبها في تحديد أزمنة الأفعال. ومن الإجحاف المشبوه أن يرمي المستشرقون الأجانب والمستغربون العرب لغتنا الفصحى بالقصور والعجز عن الدلالة على الأزمنة، وأن يزعموا أن اللغات الأوروبية عامة والإنجليزية خاصــة أدق تحديــداً، وتنتهي بهم المقارنة إلى أنَّ حقل الأزمنة في الإنجليزية أرحب من الحقل العربي.
يزعمون أن أزمنة الأفعال العربية ماضٍ وحاضرٍ ومستقبلٍ، ليس غير، وأن الإنجليزية تقسم كل زمن من هذه الأزمان إلى أربعة أقسام، فالماضي على سبيل التمثيل: بسيط وتام ومستمر وتام مستمر، أي هو أربعة أضعاف الماضي في العربية. فما هو مبلغ الدقة في هذا الادعاء، وهل الماضي في اللغة العربية، زمن واحد أو أزمنة متعدِّدة؟
إذا تحدثت عن أخيك فقلت: سافر. فقولك يعادل الماضي البسيط. وإذا قلت: كان سافر، فهذا ماض منقطع أو تام. وإذا قلت: كان قد سافر، فالمعنى أنه سافر في الماضي القريب. وإذا قلت: كان يسافر، فالمعنى أنه تكرار السفر في الماضي أي هو المستمر في الإنجليزية. وإذا قلت: ظل يسافر، أو ما زال يسافر، فقد عينت الماضي المستمر الوقوع في الحاضر، وإذا قلت: أوشك يسافر فالمعنى أنه قارب السفر وتأهَّب له. وإذا قلت: طفِق يسافر، فالمعنى أنه بدأ بالسفر فعلاً.
فإذا أحصيت أزمنة هذه الأفعال وجدتها ضعف الأزمنة الإنجليزية، غير أن لغويّينا لم يفصِّلوا القول في الحديث عنها، ولم يذكروا الفروق الزمنيّة إما لإيمانهم بأن الإنسان العربي يدركها بالفطرة بلا قواعد ولا شواهد، وإما لأن تفصيل القول فيها لا يؤثِّر في حركات الإعراب، لأنه إلى علم المعاني أقرب منه إلى علم النحو.
ولا تكتفي العربية بالأفعال في ترجمة الأزمان وتحديدها، وإنما تحمّل الأسماء الجامدة والمشتقة دلالات زمنيّة فأسماء الأفعال قد تعبِّر عن الماضي مثل: هيهات وشتّانَ، وعن الحاضر ومنها: آه وأف، وعنه مع الامتداد إلى المستقبل نحو: مَهْ وصَهْ. والمصادر قد تعبِّر عن الحاضر كقولك: لبّيْكَ وسبْحانَك، وعنه ممتداً إلى المستقبل مثل: رويْدَك. ونصّت كتب النحو على أن اسم الفاعل النكرة يعملُ فيما بعده حينما يكون للحال أو الاستقبال. ولذلك سمّى الكوفيّون اسم الفاعل “الفعل الدائم” قال ثعلب: “الفراء يقول: قائمٌ فعلٌ دائم، لفظه لفظ الأسماء لدخول علامات الأسماء عليه، ومعناه معنى الفعل”. وفي كلامه دليل قاطع على ما في الاسم من دلالات زمنية.
والإنجليز حينما يريدون الاستمرار لا يكتفون بفعل واحد، بل يضيفون إليه فعلاً مساعداً. أما اسم الفاعل بالعربيّة فإن صيغته وحدها تبث فيه قوة الاستمرار. وسياق الجملة يحدِّدُ الزمان أهو للحاضر أو للمستقبل. فإذا قلت: “أني فاهــم رأيـك ورادٌّ عليه إن شاء الله” فهو حاضر في الأول ومستقبل في الثاني. وإذا قال الشاعر “الطرمّاح”:
وإني لمقتادٌ جواديْ وقاذفٌ
به وبنفسي العامَ إحدى المقاذفِ
ففي مقتاد وقاذف حاضر ومستقبل معاً.
ولا تكتفي العربيّة بالأفعال وبعض الأسماء في تحديد الزمن، بل تستعين بالأدوات والحروف. وهذه الأدوات كثيرة الدورانِ على الألسنة، لا يخلو منها كلامٌ، ولا يزهد فيها متكلِّم، غير أن الناس يسلكونها في الكلام، ولا يفكرون في ما تبثُّ في كلامهم من دلالات زمنيّة.
وهذا يعني أن الأدوات أيضاً مدَّخرات زمنيّة. فالحرفان (لا) و(ما) يخلصان المضارع إلى الحاضر مثل: لا يحسن بك أن تلحن وأنت تكلمني. و(لم) تقلب المضارع ماضياً نحو: لم أكذب قطّ. و(لن) ضدّ (لم) تحوله إلى مستقبل منفيّ مثل: لن أبرحَ الأرض. وحرف (ولمّا) هو من أروع الحروف وأدقها دلالةً، غير أن الكتّاب والشعراء في العصر الحاضر يهملون استعماله. إنه ينفي وقوع الفعل في الماضي، ويجعله متوقّع الحدوث في المستقبل القريب. فإذا قلت وأنت تراقب الأفق: “لمّا تشرقِ الشمسُ”، فهذا يعني أنها لم تشرق في الماضي، وستشرق بعد قليل.

أضف تعليق

التعليقات