لمسة يد قصة قصيرة حول بيت أقفلته سيدته المطلقة على بناتها الثلاث. ولم يكتف الأديب السوري فاضل السباعي من خلالها باختراق الباب لتصوير الداخل، فجال على كل ما فيه من أمنيات محطمة وخواطر صامتة، وأحاسيس لم يقضِ عليها الزمن الذي حنّط كل شيء من حولها.
في كلّ مرة توعز أمُّها إليها، وإلى أختيها، بالعمل المنزلي، فإنهنّ يُبادرن إليه غير متوانيات، وأما هي فإنها، في هذا اليوم، تُشارك في العمل وهي أكثر رغبة ورضا، وقلقـاً أيضاً.
أعوامٌ وأعوام… وليس لها أن تظنّ أنها انقضت مثل غمضة عين، فذلك يكون في حالة الفرح والسعادة، وهو ما لم يتحقق لها فيما مضى من أيام وأعوام، كانت أشبه بجبال جثمت على صدرها وخُبال سكن في عقلها، فخابت الآمال، وضاعت المنى، وولّـت السعادة إلى غير رجعة!
إنها تسمع:
– أنت، يا نسرين، ألم تَـفْرغي من دقّ الهَبْرة ؟ وأنت، يا ياسمين، البُرْغُل المنقوع في الغدارة ينتظرك!
ولم تر أمَّها ترفع صوتها لتسألها ما إذا كانت قد أتمّت قَـلْـط الحمّام.
فكّرت: ما تعلمه أنّ الناس هجروا منذ دهر دقَّ الهبرة في الجرن، وعدلوا عن جَبْـل البرغل في الغدارة، وأمهنّ لا تزال واقفة عند ما كانت تراه من جدتها في الزمن الغابر، متباهية بأن عندها بناتـاً شاطرات ! ومع أنّ الشقيقات الثلاث يتعاونّ في أداء الأعمال المنزلية بمختلف أشكالها، فإنّ تخصصاً ما قد ساد البيت: فـ نسرين أكثر انشغالاً بالطبخ، و ياسمين للعناية الصحية بالأم العليلة بالدرجة الأولى، ولها هي ــ المسمّاة فُلّة ! ــ شؤون النظافة، من غسل وكنس ومسح وخلافه!
– أنت، يا فُلّـة! أما زلت تعملين في الحمّام؟ كأني أراه أصبح بين يديك مثل الفلّ. تحوّلي إلى أوضة السفرة، يا بنتي.
تذكّرتْها، وما كان لها أ ن تنساها. أوامر وإيعازات، تعوّدنَ تلقّيها، ولكن بدا أنها تُخالطها اليوم خفّة دم : الحمّام نظيف مثل الفُلّ، الذي منه اشتُقّ اسمها!
فكرت وهي تعمل في تلميع مغسلة الحمّام: أمُّنا قائدة عسكرية ! لو أنها خُلقت رجلاً لوصلت إلى رتبة جنرال ، وعندئذ لن نكون نحن بناتـاً لها بل مجنّدات في اللواءْ الذي تقوده! أمٌّ طاب لها أن تستبدّ ببناتها الثلاث. ولكنها سيطرت، قبل ذلك، على زوجها. ظلت تنُقُّ قبل رحيله: اكتبْ لي البيت والرزق، يا أبا البنات، حتى لا يشاركنا في الإرث أهلُك، وليس لك صبيٌّ يمنع توريثَهم! . وكتب لها الأول والآخِر، فكان أن أحكمت القبضة – قبل وفاة الأب وبعده – على الأسرة وعلى بناتها الثلاث.
بعد وفاة الأب رفعت أمهنّ شعاراً: ليس عندي بنات للزواج! . ثم أخذت تسحبهنّ من المدرسة كلما وصلت إحداهنّ إلى الدراسة الثانوية: ليس عندي بنات يتبخترنَ في الشوارع. أبوكنّ مات، وليس في الأسرة رجل! .
وكم من مرة وجّهت من الأوامر: ابتعدي عن النافذة، يا نسرين! ؛ ماذا يريد منّا ذلك الغليظ المتسمِّر في الشرفة هناك، يا ياسمين؟ ؛ اسحبي الستارة حتى آخرها، يا فُلّة! .
وأغلقت عليهنّ النوافذ.
ولكنها أغلقت الأبواب أيضاً، ثم برعت في صَـفْـقها في وجوه طالبي القُرْب !
طلب يدها مختار ابن خالها: عمّتي! أريد بنتك فُلّة، أحبّها! ؛ فصدّتْه: دخلُك لا يطعم خبزاً! ؛ جادلها: صحيح أنا موظف، ولكنّا لم نسمع، يا عمّتي، أنّ أحداً في بلدنا مات من الجوع! .
ضربتهنّ واحدة بعد الأخرى. عَضَـلَـتْهنّ. وما كنّ بالبنات اللائي تستحقّ أيٌّ منهنّ أن تقعد في بيتها بائرة . كان أهل الحيّ قد أطلقنَ عليهنّّ الزهرات الثلاث ، ليس بسبب الأسماء التي استوحاها أبوهنّ من حبّه للطبيعة، ولكن لأنهنّ كنّ الأجمل بين صبايا الحيّ: بياض، وشُقرة شعر، وزرقة عيون، وقامات ممشوقة، وأناقة، ورقّة، تستاهل كلّ منهنّ أن تكون ملكة جمال أو مذيعة في الجزيرة !
عوّدتهنّ على الطاعة. كسرت شوكتهنّ. كسرت عظمهنّ ، وما تركت لهنّ مجالاً للتمرّد أو العصيان! مقدَّراتُهنّ في يدها. تعطيهنّ بالقطّارة. وفُلّة ــ بعد أن انخذل ابن خالها مختار وتزوج بمـن تعذّر عليهنّ معرفتها – أمست تنتابها تصوراتٌ سخيفة وتمنياتٌ غريبة: ماذا لو رحلت أمهنّ مثلما رحل الوالد الكريم! وتعود تستغفر ربّها.
ضاقت دنياهنّ. وما كانت تتّسع إلا لسهرات دورية تقام في البيت، تقتصر على صُوَيحبات الأمّ وعلى من أنجبنَ من بنات. قليل من الطرب، فبعض هؤلاء يعزفنَ على العود وينقرنَ على الدربكّة. ولا شيء ألبتّة من عطر الرجولة. وتحيطهنّ الأمّ بكامل رعايتها ، في السهرات التي تُعقد في بيوت الأخريات. وغير مرة سمعنَ منها همسات تُلقيها في الآذان: قد ادخرتهنّ لشيخوختي! ، وإيّاهنّ، الشقيقات الثلاث، تعني… كيف نسامحك يوم القيامة، يا أمي!
أعوام كثيرة تقضَّت، تضخّم خلالها الحلم، حتى ليصبح في حجم نجم، ولكن في السماء هنالك بعيدَ المنال، قبل أن يَهوي من علٍ مثل شهاب يحترق. ومختار أنجب. سمعنَ وما رأينَ. لم ينجب إلا بنتاً واحدة، شبّت عن الطوق، ولم يقف في وجهها عائقٌ يحول بينها وبين متابعة الدراسة، لا ولم تَجُعْ أمُّها ولا جاعت هي… وهنّ، الشقيقات الثلاث، ظللنَ في جوع وفي ظمأ. وفي الحيّ ، تبدّل اللقب – واحسرتاه! – إلى… العانسات الثلاث !
فرغت فُلّة من الحمّام، وعملت في الممرّ، ثم انتقلت إلى غرفة الاستقبال، وهي الآن في أوضة السفرة، تنحني على الطاولة تمسحها بخِرقة ناشفة. روائح الطبيخ تتسرّب إلى أنفها. والأختان هناك، بقيادة الأمّ التي نسيت اليوم أوجاعها، منهمكاتٌ في العمل.
– لاحظي القِدْر على النار. وأنت، يا نسرين، آن أن تضعي الصينية في الفرن… أقراص كُبّة تؤكل الأصابع معها (ونادت) فُلّة، هل فرغتِ من…؟
لم تدعها تُكمل:
– اطمئنـّي، يا أمي. قاربتُ أن أنجز كل شيء. أنضمّ إليكنّ حالاً.
بعد عشرين سنة أو ثلاثين، تراءى لأمها أن تدعو ابن أخيها مختار إلى وليمة غداء، أجل، فقد زال الخطر: البنات أُحِلْنَ على التقاعد ، ليس من ناحية العمل، فإنهنّ في هذه بناتٌ بارّات ومستخدماتٌ مطيعات!
– اهيّا نقلي صحون المقبِّلات إلى المائدة، يا فُلّة… وزّعيها إلى يمين وشمال… هم ثلاثة، ونحن أربع… لا تنسَي الأزهار، ضعيها في الجام ونسّقيها جيداً، يا فُلّة… يا فُلّة…
ابتسمت فُلّة، وكان ينبغي أن تبتسم: أزهار! أمّها تتحدث عن الأزهار، ونحن ثلاث زهرات ذابلات… أذبلَهنّ تعنـُّتُ الأمّ، أم تعسُّفُ الأيام؟! وليت أمَّها تتذكّر ما بات أهل الحيّ يقولون. إنها لا تدري، أو هي تدري ولكنها لا تريد لهذه الكلمة أن تجري على لسان أو تمرّ عبر أذن!
لسوف يجلس الخطيب الذي كان، هنا، وعلى يساره زوجته، وابنتُه عن يمينه. آداب مائدة تعلّمنَها في هذا البيت. تقابلهم أمُّها، والأختان الكبريان على جانبيها. ويبقى لها هي أن تنفرد برأس المائدة قريباً من الشابة، ذلك يُتيح لها أن تُطيل التحديق إليها، بعيداً عن الأعين… قالوا إنها جميلة، قد ورثت جمالها عن أمّها، وقالوا إنها تتابع دراستها في الأدب الإنجليزي في الجامعة بنجاح.
كانت فُلّة تدرك أنّ الاضطراب سوف يعتري الأخوات الثلاث لحظة تطأ قدم مختار عتبة البيت: رجلٌ، كان مرشّحاً لأن يأخذ إحداهنّ، يدخل بيتهنّ بعد تلك السنين المديدة. وأما الأمّ، فإنّ ما سوف تستشعره من عاطفة لن يتعدى شوقاً إلى ابن أخ لها قد نبذتْه يوماً ما، والآن تحاول أن تُصلح ذات البين!
لحظة قُرع جرس الباب، وفُلّة على مقربة منه، لم تُهرَع إلى فتحه. عراها اضطراب، فالتمست، بنظرة إلى أختها، أن تفعل ذلك.
كانت فُلّة، كنّ جميعاً، في كامل زينتهنّ. حاولنَ جاهداتٍ أن يستحضرنَ كلّ ما تبقّى لهنّ من جمال، ململماتٍ شتاته من هنا وهناك. إلا أنّ عتمة كانت قد استوطنت في العيون، وتغضّنات غير رحيمة غزت الجبين وتموضعت حول العينين، هابطة إلى الوجنتين، والعنق، وإلى النحر الذي كان يَسبي العقول!
وطئت قدم مختار عتبة البيت. رجلٌ – على سِنّه اليوم – منتصبُ القامة ممتلئٌ رجولة. إنه فتى الأحلام الذي كان، قبل أن يتحوّل إلى رجل أحلام قديم!
مصافحة، ومعانقة للضيفتين. وهي بادرت إلى أخذ معطفه، الذي ساعدته في خلعه، مسستنشقة في ذلك رائحته، قبل أن تعلّقه على المشجب بيدين ترتعشان.
– هكذا الأيام، تُبعِد وتـقرِّب!
قالت أمُّها ذلك ثابتة الجَنان، وكأنها ما وجَّهت هي الأيام ولا سيَّرتْها!
وأما هي، فقد احمرّت، ثم اصفرّت واخضرّت… ولكنها بدت لنفسها سعيدة بأن تراه، وأن تستمع إليه، بعد السنين التي اغتُصِـبت من عمرها. تُرى، هل يُضمر لها الآن، من المشاعر والعواطف والخواطر، مثلما تُخبَّئ هي له؟ ولكنّ حياته قد امتلأت، وحياتها هي امتلأت، ولكن بأكداس من الذكريات، تتأجّج، ثم تخبو، ثم تنتعش، ثم….. والآن، وهي تحظى برؤيته، تتمنّى… تتمنّى لو تلمس يده – في غير مصافَحة – لو تعانق كفـُّها كفـَّه ثوانيَ خمساً، أربعاً، ثانيتين اثنتين… لمسة واحدة ترتسم في يدها كالوشم!
تعاونت الأختان في أن تسكبا له وللزوجة، وعُنيت هي بالشابة، ما أجملها! أخذت من أمها ومن أبيها أيضاً… فكرت: كان يمكن لهذه الفتاة الرائعة أن تكون ابنتي أنا، لو أنّ لسان أمي لفظ يوما كلمة: نعم! ولكنها الآن بنتٌ قد تكوّنت في رَحِم امرأة غيري! وأمّها، هل تعرف أنّ زوجها قد طلب يدي وألحّ في الطلب؟ وأنّ الباب صُفق في وجهه؟ وعندما غلبه اليأس خطبها وتزوجها؟ واليوم، اهنئي به، أيتها الزوجة الصالحة.
تحدثوا على المائدة، بما له معنى وبما خلا من أيّ معنى.
وقام الرجل. قام يبغي غسل يديه. فنهضت، هي التي اعتنت بالحمّام، تصحبه إلى الحمّام.
رصدت خطواته. يسير صامتاً مطرقاً: أهو خَجِـلٌ من نفسه لأنه لم يناضل من أجل الحصول عليها؟ انهالت عليها دنيا من الذكريات، في هذا المكان الضيّق الذي يجمعها به بعد… ذلك العمر!
قدّمت إليه قطعة الصابون المعطر بيدها، فتناولها دون أن يتطلّع في عينيها.
إنها تقف إلى جواره، مادّة ساعديها يحتضنان البَشْكير مطويًّا. يسعدها أن تقوم بدور الجارية في حضرته. تحتضن بعينيها رأسه، أذنَه اليمنى. الشيب بدأ يشتعل، إنه شيب الرجولة. قميصه ناصع البياض. ربطة عنقه المدلاة يُحاذر أن تبتلّ بالماء. يتمضمض.
تتابع حركاته. تستسنح الفرصة لتلمس يده. أخذ منها البشكير، يُنشّف به اليدين والوجه. حاول أن يعلـِّق البشكير، ترقبه.
لمّا تحرّرت يداه، أرسلت نظرها إلى عينيه. واتتها الجرأة، فمدّت يدها لتأخذ يده! رأته يستسلم لحركتها. وبكلّ عواطفها الهائمة، القديم منها والمتجدّد، رفعت يده إلى فمها! حدّقت إلى عينيه. الذي فعله أن رفع يدها هو الآخر إلى فمه يقبّلها! همّت بأن تبكي. أحست الدموع تتقاطر على خديها… ثم رأت – والكفّان متعانقتان – دمعاتٍ تتلألأ في عينيه.
….. وترامت إلى مسامعهما خطواتٌ تقترب.
* * *
في الليل، بدت لنفسها سعيدة جداً بهذا القدر من الحبّ، تقتات به بقية العمر.
ولكن… لماذا فعلتِ ذلك بي، يا أمي؟ لماذا فعلتِ ذلك بنا؟!