بشكل أو بآخر فإن المعاصرة خاصة بهذا العصر لا غيره. إنها ليست مجرد مجاراة لعصر.. أي عصر، بل عصرنا دون غيره من العصور
ويكاد لا يحق لأي عصر سابق أن يطلق هذه الصفة على فن من الفنون ظهر في زمانه. فالفن الإغريقي سماته إغريقية، وسمات الفرعوني فرعونية وكذلك الروماني والبابلي وغيرها. أما في عصرنا فالفن معاصر!
إيقاع سريع في الموسيقى، أشكال مختزلة وخطوط بسيطة في الفن، مساحات عملية هندسية التكوين في العمارة، المعدات والآليات بسيطة متشابهة في الخارج مع دقة شديدة وتعقيد محكم في الداخل، أما في الكتابة فهناك الدخول المباشر في الموضوع دون مقدمات طويلة، مع إيجاز منظم في طرح الأفكار. هذه بعض سمات المعاصرة!
وتستطيع أن تختصر المعاصرة كذلك بما هو عملي. فالعملي معاصر كما أن المعاصر عملي. فكثير من الأمور في الملبس والمأكل والمشرب تقبل على بساطتها أو عِللها أحياناً لأنها عملية. وغدت الفكرة العملية تطال أموراً حياتية كثيرة، حيث يرضخ الإنسان أحياناً لما هو غير مستحب في ميزان عاداته وتقاليده لأنه «عملي».
وهذه المعاصرة وروحها العملية بدأت منذ قرنين تقريباً مع النهضة الصناعية ومتطلباتها والمكانة التي وضعتها للعمل والإنتاج.
وأبلغ ما أفرزته النهضة الصناعية، هو المدينة المعاصرة بهندسة معمارها ووتيرة حياتها وإيقاع حركتها ونشاطها، فهي الابنة الشرعية للصناعة والتجسيد الأكمل للمعاصرة. فلا معاصرة بلا مدينة، ولا مدينة بلا معاصرة.
وللمرّة الأولى تصبح الإنسانية كلها أسيرة نمط شبه موحد في الحياة لا يكاد يختلف في مكان عن الآخر إلا في تفاصيل عرضية. وللمرّة الأولى تجد نفسها مستسلمة إلى حقيقة أنها لم تعد تقوى على أن تغير في هذا النمط إلا من داخله، لا بل لا تقوى على أن تقاوم جنوح هذا النمط نفسه إلى التغيير الدائم.
إن المعاصرة غيرت وجه العالم كما لم تفعل أية حركة حضارية سبقتها، جعلت التغيير نفسه أرفع مبادئها وقيمها. فكل شيء ينتج عن فكر الإنسان وتصنعه يداه قابل لإعادة النظر والتطوير بلا تردد أو انتظار. وأصبح التغيير هاجساً والجرأة على التغيير حقاً. وأصبح السباق الوحيد الممكن هو بين تغيير وتغيير، وبين معاصرة ومعاصرة، حيث المضمون هو القيمة الفصل.