كان إيليا أبو ماضي عضواً في الرابطة القلمية بنيويورك في العشرينيات من القرن الماضي، إلى جانب جبران خليل جبران، وميخائيل نعيمة، ونسيب عريضة والآخرين. وقد أخذ عليه أدباء عصره ومنهم طه حسين، شيوع الركاكة في شعره، وعدم اهتمام الشاعر بأساليب البلاغة والبيان. الناقد جهاد فاضل يختار هنا عينات من شعر أبو ماضي ، مبيناً من خلالها امتلاكه لشاعرية متوقدة.
عندما أخذ الدكتور طه حسين على شعر إيليا أبو ماضي ركاكته وقلة احتفاله بالشكل الشعري، كان من جملة ما ردّ به الشاعر المهجري قوله: إنك تدور حول البيت:
لستَ مني أن حسبتَ
الشعر ألفاظاً ووزناً
والواقع أن شعر إيليا أبو ماضي، وإن لم يكن متيناً كشعر البارودي وشوقي وحافظ ومطران، وقد عاش في عصر هؤلاء، إلا أنه شعر جميل وجد صدى واسعاً في زمانه، وعَبَرَ من ذاك الزمان إلى أزمنة أخرى. وليس هناك ما يدل على أن هذا الشعر – في قسم كبير منه – سيمرّ عليه الزمن وسيطاله البلى، بدليل أن الدراسات عن أبي ماضي وشعره يتوالى صدورها ما بين وقت وآخر، في كل العواصم العربية التي تحتفل بشعره أيما احتفال. فأبو ماضي رغم رحيله قبل نصف قرن تقريباً (توفي عام 1957م) إلا أنه ما زال لشعره مكانة كبيرة في الشعر العربي المعاصر، وما زال ينطلق بعضه عفواً على ألسنة الناس معبراً عن هذه الفكرة، أو عن هذه الحالة النفسية. وهذا من علامات عافية الشعر والشاعر.
عُرف أبو ماضي بقصائده التأملية والفلسفية. وقد قرّبته هذه القصائد من القارئ ولم تُبعده عنه، وذلك على عكس ما يحصل عادة في شعر التأمل والفلسفة.
كما عُرف بفلسفته الداعية إلى التفاؤل. في قصيدته المشهورة ابتسم يدعو إلى الابتسامة والفرح، لأن كل ما في الحياة زائل:
قال البشاشة ليس تُسعد كائناً
يأتي إلى الدنيا ويذهبُ مرغماً
قلت: ابتسمْ ما دام بينك والردى
شبرٌ، فإنك بعد لن تتبسما
وتشيع الدعوة إلى الغبطة والفرح في أعمال شعرية كثيرة له منها قصيدته الغبطة فكرة المنشورة في ديوانه (الخمائل):
أيها الشاكي الليالي إنما الغبطة فكره
ربما استوطنت الكوخ وما في الكوخ كسره
وخلت منها القصور العاليات المشمخرَّه
تلمس الغصن المعرّى فإذا في الغصن نضره
وإذا رفَّت على القفر استوى ماءً وخضره
وإذا مسّت حصاة صقلتها فهي درّه
لك، ما دامت لك، الأرض وما فوق المجره
فاذا ضيعتها فالكون لا يعدل ذره.
وفي قصيدته فلسفة الحياة (من ديوان أبو ماضي) يوجه الشاعر كلامه إلى كل متذمر من متاعب الحياة:
أيُّهذا الشاكي وما بك داءٌ
كيف تغدو إذا غدوت عليلا؟
إن شرّ الجناةِ في الأرض نفسٌ
تتوقى، قبل الرحيل، الرحيلا
وترى الشوك في الورودِ، وتَعمى
أن ترى فوقها الندى إكليلا
هو عبءٌ على الحياة ثقيل
من يظن الحياة عِبئاً ثقيلا!
ومن هذه القصيدة:
أحكم الناس في الحياة أناس
علّلوها فأحسنوا التعليلا
فتمتْع بالصبح ما دمتَ فيه
لا تخف أن يزول حتى يزولا
إنه يدعو إلى التمتع بجماليات الحياة وفوائدها وعدم تأجيلها والنظرة إليها بتفاؤل. وهو بذلك يذكّرنا بما دعا إليه عمر الخيام:
لا تشغل البال بماضي الزمان
ولا بآتي العيش قبل الأوان
واغنم من الحاضر لذاته
فليس في طبع الليالي الأمان
ويتخذ من بعض مظاهر الطبيعة دليلاً على ما يذهب إليه. فالطيور قد عرفت حقيقة الكون وأدركت سير عيشها تسرح في الحقول ولا يهمها أملكتها أم لم تملكها.
إنها تغرّد رغم أنها مهددة بالخطر من الصقور والصيادين .. ومع ذلك فهي تغني وترتل همسات الحب غير آبهة بكّر الزمان. وأبو ماضي يطلب من الإنسان أن يكون شبيهاً بالأطيار:
فاطلب اللهو مثلما تطلب الأطيار
عند الهجير ظلاً ظليلا
وتعلّم حب الطبيعة منها
واترك القال للورى والقيلا
فالذي يتقي العواذل يلقى
كل حين في كل شخصٍ عذولا
وعلى الرغم من أن الشاعر في قصائد كثيرة له ينحو هذا النحو الفلسفي أو التأملي، إلا أن الشاعرية لم تَجْفُ الشاعر ولم تَخُنْهُ. فهو شاعر في هذه القصائد كما هو شاعر في قصائد تنحو مناحي أخرى كالغزل أو الوطنية.
إذا أخذنا أشهر قصائده وهي قصيدة الطلاسم (لستُ أدري) وجدنا شاعرية أبي ماضي تتفتق عن ألف معنى وألف صورة يعوزها اليقين ولكن لا يعوزها الجمال، وروعة المعنى، ويفاعة الشاعرية وخصوبتها:
قد سألتُ البحر يوماً هل أنا يا بحرُ منكا؟
أصحيح ما رواه بعضهم عني وعنكا؟
أم ترى ما زعموا زوراً وبهتاناً وإفكا؟
ضَحِكتْ أمواجه مني، وقالت:
لستُ أدري.
هذا البحر بالرغم من كونه مصدر الحياة، فإنه بنظر أبي ماضي أسير لا يملك أمره إذ مهما ثارت أمواجه واشتد غضبها، فهي لا تستطيع أن تتعدّى ثبوتها حدود شاطئه:
أنت يا بحر أسيرُ آه ما أعظم أسرك
أنت مثلي أيها الجبار لا تملك أمرك
أشبَهَتْ حالُك حالي، وحكى عذريَ عذرك
فمتى أنجو من الأسر وتنجو؟
لستُ أدري!
ولا تجفوه الشاعرية في قصائد أخرى ذات نفس طفولي. ففي قصيدة له بعنوان الأسرار يتمنى لو كان باستطاعته أن يتحول إلى لصٍ ليسرق من النسيم الساري في الضحى سرّ لطافته وانشراحه. وفي هذا المعنى ينوّع على فكرته الأثيرة عنده: الغبطة والفرح:
يا ليتني لصٌّ لأسرق في الضحى
سرّ اللطافة في النسيم الساري
وأجسّ مؤتلق الجمال بإصبعي
في زرقة الأفق الجميل العاري
ويبين لي كنه المهابة في الربى
والسرّ في جذل الغدير الجاري
وبشاشة المرج الخصيب، ووحشة
الوادي الكئيب، وصولة التيار
وإذا الدجى أرخى علي سدوله
أدركتُ ما في الليل من أسرارِ
ويبدو أن أبا ماضي قد آلى على نفسه أن يكون رسول الطبيعة ليدل على مواطن الجمال فيها، وليحبب العيش بين أحضانها، والتقرب من كائناتها. فإذا ما وجد الناس يشكون الفقر، عاقبهم أشد العقاب، وأنبّهم أرق التأنيب:
كم تشتكي وتقول إنك معدم
والأرض ملكك والسما والأنجمُ
ولك الحقولُ وزهرُها وأريجُها
ونسيمُها والبلبلُ المترنمُ
والنور يبني في السفوح وفي الذرى
دوراً مزخرفة، وحيناً يهدمُ
فكأنه الفنان يعرض عابثاً
آياته، قدَّام من يتعلّمُ
ولو أخذنا قصائد أبي ماضي في فنون الشعر الأخرى، المنشورة في دواوينه المعروفة مثل الجداول و النهائل ، لتأكد لنا أنه امتاز في بستان الشعر العربي المعاصر بنكهة خاصة جعلته ثمرة متفردة في هذا البستان. وإذا كان كثيرون قد أخذوا عليه مآخذ شتى، فقد استعاض عن ذلك بقمم كثيرة رادها، وبمعانٍ جليلة، ورؤى ثاقبة قَصُر عن بلوغها شعراء كثيرون في زمانه.
هامشي هو الدمع يأسرها
شعر / طلال الطويرقي
وحدها
لاتحب البكاءَ
ولا تعشق الدمع في أول النص ِ
لكنها حين تترك دمعتها
يمطر النص……
***
وحدها
لا تحب حنين الدموع لأول جرح ٍ
تشذبه في مخاض القصيدةِ
لكنها كلما كبرت دمعة في الوريد ِ
تدثرني…..
***
هكذا حين تكتب أول نصٍ
لجرح بريء وترحل ضاحكة ً
في ضباب شفيفْ .
***
الأنوثة تملؤها بالجمالِ ِ
وتملؤني بالقصائد ِ
والدهشة المترفةْ .
وفيما أحاول جمع القصائد بالجرح ِ
تبكي …….
***
طفلة في النصوص المقفاة ِ
تكبر نصاً قصيراً
وعند النصوص الطويلة ِ
تذبل أمنية ً.
طفلة لا تراوغ إلا على الشعر والرمز ِ
تكبر في المشهد الهامشيِّ
لنص قصيرٍ
لئلا تبوح على وترين لقلب جريحْ .
***
طفلة لا تحب البكاء َ
ولكنها تحتفي
بالنصوص القصيرة دمعاً