كيف يصدِّق الناس الشائعات التي قد تبدو سخيفة للغاية؟ ولماذا تنجح حملات التحريض دوماً وبشكل أسرع وأنجع، بكثير من حملات التسامح؟، كيف يعقل أن نكون مخطئين تماماً وبشكل قاطع في حين أننا مؤمنون جداً بأننا على صواب، ولسنا مخدوعين؟ أسئلة عديدة قد تبدو لك سهلة وذات إجابات واضحة، ولكنها في الحقيقة مصدر كبير للقلق، فهد هادي الحازمي، خريج جامعة الملك فهد للبترول والمعادن، الذي يحضِّر لدرجة الماجستير في علوم الحاسب في الولايات المتحدة، يتناول في هذا المقال ظاهرة الشائعات وأساليب انتشارها، ودور الأفراد في تعزيز مناعة المجتمع ضدها.
لدينا إيمان خفي بأننا نتلقى المعلومات بصورة واعية، ونفكِّر بمنطقية في أغلب الأحيان، وأن آراءنا نتيجة لهذا. ولكن الحقيقة التي أحب إيضاحها في هذا المقال أبعد مايكون عن ذلك. إذ إن أدمغتنا تدفعنا إلى اختيار المعلومات التي تتوافق مع مواقفنا المُسبقة. وفي أحيانٍ كثيرة نعجز عن ملاحظة التناقضات الصريحة في الأفكار بسبب عواطفنا. بل إنّ أدمغتنا أحياناً تتصور أحداثاً لم تقع أبداً.
بيولوجياً، أدمغتنا مبنية بطريقة تجبرنا على «الوقوع في الخطأ». فنحن نبحث دوماً عن التناسق وعن الأنماط، حتى لو لم نرد ذلك. ونكوّن أثناء استقبالنا للمعلومات المختلفة فرضيات متناسقة، لا نريد أن ننقضها، حيث نفسِّر المعلومات الجديدة بما يتوافق معها ويعززها أو نتجاهلها إن لزم الأمر. وهذا السلوك (الذي يُسمى في علم النفس بالانحيازات الإدراكية) مدفوع بشبكة عريضة من المؤثرات والمرشحات التي تتحكم في طريقة تفاعلنا مع الواقع، سواء كانت خارجية كالبيئة والجماعة، أو داخلية كدوافع الخوف والرغبة.
العرض المنحاز للمعلومات
يتجاوز العرض المنحاز للمعلومات مجرد اختيار المعلومة إلى أسلوب عرضها. حيث أثبتت سلسلة من التجارب أن الناس في العادة يختبرون الفرضيات بطريقة أحادية، وذلك باستحضار المعلومات التي تتوافق مع الفرضية المعروضة. فبدلاً من البحث في كافة المعلومات المتوافرة واستنتاج الفرضيات منها ، يميلون إلى طرح أسئلة تضمر أجوبة إيجابية وتأكيدية تسمى بالاختبار الإيجابي. فحين نسأل «هل فلان منفتح؟» نحاول الإجابة عن السؤال بالبحث عن المعلومات المنحازة، والمؤكدة للسؤال، بحيث نجد أن فلاناً منفتح «ونستحضر في ذلك عدداً من المواقف التي تؤيد ذلك، في ظاهرة تسمى بالذاكرة المنحازة» على الرغم من أن تصرفات ذلك الشخص معقَّدة وفيها جوانب عديدة متضاربة أكبر من أن نحصرها في جواب. فبحثنا عن أي معلومة تؤيد فرضية من إحدى فرضيتين سيكون ناجحاً في الغالب.
إحدى الدراسات التي استعرضت هذا التأثير سجلت ارتياحاً أكبر عند أولئك الذين يُسألون «هل أنت سعيد بحياتك الاجتماعية؟» مِنْ أولئك الذين يُسألون بالعكس.
وحتى لو سلَّمنا بأن المعلومة تُعرض بشكل محايد وكامل، إلا أن هناك تأثيراً آخر قوياً يجعلنا نختار ما نشاهده، وهو يسمى بالعمى اللاإرادي وهذه التقنية تستخدمها الحكومات والوسائل الإعلامية بشكل مكثَّف. حيث أجرى دانيال سايمون ورفاقه سلسلة من التجارب العجيبة كتجربة التركيز الانتقائي. وقد كشف دانيال سايمون عن هذه التجارب ودلالاتها في كتاب اسمه الغوريلا الخفية (The Invisible Gorilla).
فإذا كنت قاصراً عن إدراك الأحداث التي تشاهدها أمامك وتحضرها بنفسك وإدراكك لها يظل محل توجس كبير، فما بالك بالأحداث التي يرويها الآخرون أو التي يرويها الآخرون عن آخرين؟ خصوصاً أننا نكوِّن أغلب معارفنا بالأخذ عن الآخرين.. وكذلك ما بالك بالأحداث التي كتبها مؤرخون قبل مئات السنين بناءً على قصص سمعوها وتناقلوها كذلك؟ أسئلة مفتوحة للأيام القادمة.
التفسير المنحاز
في تجربة عجيبة ومثيرة لكل أنواع الجدل أقيمت إبان الانتخابات الرئاسية الأمريكية في عام 2004م على عيِّنة مقسمة بين أفراد متحمسين جداً للمرشح جورج بوش أو متحمسين جداً للمرشح جون كيري. استخدمت في هذه التجربة تقنية الرنين المغناطيسي الوظيفي fMRI التي تصور ما يحدث داخل الدماغ أثناء التفكير، بحيث يعطي فكرة أدق للباحثين عن الأساس البيولوجي لانحيازاتنا. طريقة التجربة كانت في عرض عبارات المُرشّحين بشكل صريح بالإضافة إلى عرض عبارات يمكن استخراج التناقض منها، ثم تصوير أدمغة أفراد العيِّنة أثناء تقييم هذه العبارات. فماذا وجدوا؟ وجدوا أنه حين تُقدم عبارات المُرشح المتناقضة إلى الأفراد المتحمسين لذات المرشح، فإن المراكز العاطفية في الدماغ تنشط، فهم لا يرون أي تناقضات. بينما حين تُقدم عبارات المُرشح الآخر المتناقضة فإن المراكز المتعلقة بالتقييم العقلاني هي التي تنشط إذ يكتشفون تلك التناقضات فوراً. وهذا الأمر تكرر في كلتا المجموعتين. فاستنتج الباحثون أن الأخطاء التي ارتكبها أفراد العيِّنة حين كانوا يقيِّمون عبارات مرشحهم المتناقضة لا تعود إلى أخطاء في الاستدلال العقلاني أو نقص في المعلومات. بحيث لا يفيد معها لو درسوا كل علوم المنطق والفلسفة. لأنهم بكل بساطة لم يكونوا يستخدمونها في التفكير لا من قريب ولا من بعيد.
مشكلات التذكر
إن سلمت طريقة تلقينا للمعلومات وطريقة معالجتنا لها من الانحياز، فلا يعني هذا بأي حال أننا «موضوعيين»، فالحقيقة أن استحضارنا للتفاصيل من الذاكرة لايمكن أن يسلم من الانحياز، حيث إننا نستحضر تلك التفاصيل التي تعزِّز من افتراضاتنا المسبقة. وقد أثبتت دراسات عديدة ومتواترة أن ذاكرتنا ضعيفة جداً، بدرجة عجيبة ولايمكن الاعتماد الكامل عليها.
ففي سياق علاقة الذاكرة القوية بالانحيازات، أُعطي أفراد العيِّنة في إحدى الدراسات قائمة من الصفات لامرأة ما، تتراوح بين صفات اجتماعية وصفات انطوائية. وقسمت العيِّنة إلى مجموعتين ثُم طُلب من المجموعة الأولى أن تقيّم قدرة هذه المرأة على شغل وظيفة أمينة مكتبة، فيما طلبوا من المجموعة الأخرى أن تقيم قدرة هذه المرأة على شغل وظيفة مسؤولة مبيعات. مالت المجموعة الأولى إلى تذكر الصفات الانطوائية للمرأة «والتي تؤهلها لوظيفة أمينة المكتبة» فيما حصل العكس تماماً مع المجموعة الأخرى على الرغم من أنهم تلقّوا نفس المعلومات إلا أنهم تذكروها بشكل مختلف.
لماذا يُطلقون الشائعات؟
تختلف الدوافع التي تدفع البعض إلى إطلاق الشائعات الخطأ مهما كانت غير منطقية، ومهما كانوا يعرفون أن الحقيقة ستظهر ولو بعد حين قصير. لكن هناك مؤشراً لا ننتبه إليه غالباً وهو أن مستوى تصديق عبارة مفبركة لا يعود كما كان -بعد كشف زيف الأدلة- إلى التكذيب الكامل، بل تبقى احتمالية التصديق والرصد موجودة، وهذا ما يسعى إليه مطلقو الشائعات. هذا يسمى بتأثير بقاء التصديق ويمكن أن يُفسَّر بظاهرة الانحياز التأكيدي. وقد أجريت سلسلة من التجارب التي أثبتت وجود هذا الأثر. حيث يُعرض عديد من العبارات أمام العيِّنة بأدلتها ثم يقيّم أفراد العيِّنة مستوى تصديقهم لها. وبعد ذلك تُعرض الطريقة التي زيفت بها الأدلة وكيف أنها خطأ تماماً ثم يقيم أفراد العيِّنة مرة أخرى مستوى تصديقهم؛ حيث يثبت أن مستوى من التصديق يبقى على الرغم من كشف زيف الأدلة. وفي المقابلات الموسَّعة التي أجريت مع العيِّنات، وصف أفراد العينة في إحدى الدراسات بأنهم يثقون فعلاً بأن الأدلة كانت مزيفة، ولكنهم قالوا إن الأدلة على أية حال لا تبدو ذات علاقة بتصديقهم ومعتقداتهم الشخصية. فهم حتى على الرغم من اكتشاف زيف الأدلة أكدوا أن الميل إلى التصديق يبقى لأسباب شخصية أخرى.
المسؤولية الشخصية
كيف نحمي أنفسنا من الزلل ومن تسلل أمور غير منطقية إلى عقولنا وإدراكنا ؟ بالتأكيد لا توجد وصفة لكني أملك بعض الاقتراحات البسيطة التي (قد) تجعلك تفكر بشكل أكثر مناعة:
–
حينما تتأمل في أية مسألة فعليك أن تسأل نفسك: ماهي الوقائع التي حصلت، وماهي الاستنتاجات أو التحليلات التي تعززها تلك الوقائع. التفريق بين الاثنين مهم جداً، لأن الثانية ذاتية وتعتمد بشكل كلي على التفكير والتحليل، بخلاف الأولى. فحين أرى أمامي كرات بلياردو تصطدم ببعضها فأنا أعرف أن الواقعة التي حصلت هي مجموعة كرات اصطدمت ببعض وتفرقت. وسيصف هذا المشهد أي شخص الذي عاش قبل 1000 سنة أو سيأتي بعد 1000 سنة. أما الاستنتاج فقد يختلف من شخص إلى آخر ، فالساحر قد يراها تأثيرات شيطانية، والفيزيائي سيستخدم قوانين الحركة في تفسير ما حصل، والعالِم الذي سيأتي بعد 1000 سنة قد يستخدم نظرية مستقبلية تفسر الحركة في إطار جديد تماماً. كل هذا التحليل مستقل تماماً عن الواقعة الأصلية التي حدثت والتي نتفق عليها.
–
من المفيد جداً القراءة في المغالطات المنطقية والانحيازات الإدراكية. أما ميزة المغالطات المنطقية فهي إشارات طريق للتفكير السليم وليست قوانين قطعية. فحين تكون العبارة سليمة منطقياً من كل أنواع المغالطات، فهذا لا يعني أنها صحيحة أبداً بقدر ماهي سليمة إلى حد كبير. أما الانحيازات الإدراكية فهي أشبه بمؤشر لهوى النفس، وما تميل إليه من حجج، وتعلمها يسهل عملية تفحص تلك الحجج وتحييد تلك الأهواء.
–
وأخيراً لا تتوان عن التشكيك والتوقف والتأمل والبحث في أي قضية قبل أن تتخذ موقفاً ما. فهذا التشكك الدائم سيكون في صالحك. ولا يغرك أولئك المتحمِّسون الذين يعتقدون أنهم يفهمون جيداً وقائع الأمور، وأن عليك أن تتبعهم، لأنهم إما أن يكونوا أغبياء للغاية أو أنهم يرون فيك مشروع صيد ثمين. لا أدعوك للحياد المطلق وعدم اتخاذ موقف أبداً، وما أقصده، هو ألاَّ تتخذ أي موقف حتى يكون لديك من الوعي والفهم لموقفك ما يكفيك، كما لا يكون لديك أدنى حرج لمراجعة موقفك بين فترة وأخرى.
وإجمالاً فإن منافذ الضعف البشرية في الفرد طالما استُغلت من قبل رجال الحكومات والدعاية لتوجيه مواقف الناس وتشكيل آرائهم وأذواقهم بما يخدم مصالح الطبقات النافذة. ومنذ العشرينيات -حين كتب إدوارد بيرنيز كتابه (البروباغندا)- وإلى اليوم نرى كيف أن تقدُّم التقنيات وتتبعها دوماً أساليب نفسية أكثر تقدماً في توجيه الرأي العام وترتيب أولوياته، ولا يسلم من هذا عصر الشبكات الاجتماعية. فالأخبار -على سبيل المثال- في زمن الشبكات الاجتماعية لا تبدو مختلفة جذرياً كما كان يُتصور؛ إذ أن القدرة على الحشد والتعبئة باستخدام الصور المؤلمة والمقاطع المفزعة تبدو سهلة جداً. وحيث تتخذ هذه الوسائط والأخبار أشكالاً أكثر قرباً من الواقع، فإنها في غالب الأحيان تكون منحازة جداً وناقصة ولا تكفي أبداً لتكوين صورة متكاملة عن الحدث، أي حدث. فهذا يجب أن يدفعنا إلى مزيد من الحيطة والحذر مع أي تقنيات جديدة تستغل منافذ البشر العفوية في خدمة مصالح معيَّنة. فالوسائل التي عرضتها آنفاً تُستخدم دوماً لتخدم ذات الأغراض، بغض النظر عن الوسيط الذي تجري فيه عملية التواصل.
فهل تخيلت الآن كيف قد نكون مخطئين تماماً في الوقت الذي نعتقد أننا لسنا كذلك؟ أم أن هذه المقالة أيضاً لن تسلم من انحيازاتك؟!