حياتنا اليوم

الملابس المحوسبة
قصص الخيال العلمي إذ تتحوَّل إلى حقيقة!

  • iphone_siri_settings_mod
  • iron-man
  • Jawbone-Up
  • shutterstock_140209666
  • google glass
  • google-glass
  • google-glass-800_0

في اعتداد الإنسان بنفسه، فإنه يتحدى الحواسيب والأجهزة الإلكترونية بفقدانها الإحساس، فالأجهزة لا تملك حواساً خمساً ولا تأثير لها. ذلك ما عُهد في السابق. د. مرام مكاوي تقدِّم لنا بحثاً عن الملابس المحوسبة كدماغ ثانٍ للإنسان يمثل حواساً إضافية تمنحه قدرات مذهلة.

الأطفال العرب الذين أدمنوا أفلام الكرتون المدبلجة في الثمانينيات والتسعينيات الميلادية، لا سيما من الجنس اللطيف، ربما سيتذكرون أحدها وهو «الزهرة الجميلة»، بطلته فتاة اسمها سوسن، كان لديها مرآة صغيرة مصممة كدبوس زينة على شكل وردة بيضاء، وما أن توجه سوسن هذه المرآة باتجاه زهرة ما، وتتمنى أمنية بأن تتغير ملابسها لتلائم احتياجاتها الحالية (سفر، حفلة، رياضة، تقلبات الطقس وهكذا) حتى نراها وقد اكتسبت ثيابها لون هذه الزهرة، ويتحول كل ما ترتديه إلى الصورة المطلوبة.

وكان حلم كل فتاة صغيرة آنذاك أن تحصل على مفتاح سوسن السحري، الذي سيعطيها هذا العدد اللانهائي من الملابس الجميلة بالمجان! وحين كبرنا قليلاً وفهمنا الفرق بين الحقيقة والخيال، أصابنا الإحباط لأننا عرفنا استحالة تحقق حلمنا، إلا أنه مع هذه التطورات التي أتت بها التكنولوجيا الحديثة، فإن هذه الأحلام ربما باتت قابلة للتحقق أكثر من أي وقت مضى.

تعددت الترجمات لمصطلح (Wearable Computing) في المصادر العربية على شحها، فتارة تعرف بالملابس المحوسبة، أو الملابس الحاسوبية، أو الملابس التقنية، وفي أحسن الأحوال الملابس الذكية، وصولاً إلى تعبير: الحوسبة التي يمكن ارتداؤها. وكلها تشير في النهاية إلى المنتج نفسه، أي إلى تقنية حاسوبية يميزها عن غيرها من الأجهزة الإلكترونية المكتبية والمحمولة أنها تتحد مع الإنسان بشكل أكثر حميمية، فحين يلبسها تغدو جزءاً لا يتجزأ منه، بشكل لا يتحقق مع أكثر الأجهزة الإلكترونية التصاقاً به في الوقت الراهن وهي الهواتف المحمولة، أو حتى مشغلات الملفات الصوتية مثل جهاز الآيبود الشهير من شركة أبل وأشباهه. وحين نتحدث عن كونه يرتديها، فهذا يشمل وجودها فوق أو تحت الجلد كما هو متوقع مستقبلاً.

يشكل ما سنطلق عليه من الآن فصاعداً الملابس المحوسبة نقطة تحول جذري فيما يعرف بتفاعل الإنسان مع الآلة (Human Computer Interaction) المعروف اختصاراً بـ HCI. ففي البداية كانت الحواسيب عبارة عن أجهزة ضخمة تسكن غرفاً كبيرة مستقلة لا يدخلها إلا المختصون، وشيئاً فشيئاً أخذ حجمها يصغر وقربها من الإنسان يزداد، فالحواسيب الشخصية حملت نفسها إلى مكاتب الناس ثم بيوتهم، والحواسيب المحمولة أخذت مكانها الدائم في تنقلاتهم، حتى جاءت الهواتف الذكية، التي باتت بحكم صغر حجمها وخفة وزنها وتطبيقاتها المتعددة، ترافق المرء في كل مكان وزمان بل وقد تشاركه حتى سريره!

أما الملبوسات الإلكترونية فهي ستجعل الحوسبة جزءاً لا يتجزأ من الإنسان نفسه، شيء لا ينفصل عنه، وتكون النتيجة تعزيز ما بات يعُرف بالذكاء الإنساني (Humanistic Intelligence) أو HI، وهو مصطلح يستخدم للإشارة إلى التغذية المرتجعة (feedback) التي يستفيد منها الإنسان كنتيجة لوقعه ضمن حلقة من العمليات الحاسوبية، حين يتشابك الإنسان مع الآلة على نحو وثيق غير قابل للانفصام. فحتى الآن كانت HCI تتعامل مع الإنسان والآلة ككيانين منفصلين بعكس HI الذي يُعد الملابس المحوسبة كدماغ ثانٍ للإنسان، وكحواس إضافية تمنحه قدرات مذهلة، أي أنها حاسة سادسة، بل ولها تأثير إيجابي حتى على الحواس الخمس الأساسية بشكل أو بآخر. فبعض هذه الملابس ستمكنه من أن يرى أو يسمع أو يتذكر أو يؤدي وظيفة ما بشكل أفضل، لاسيما إذا كان الإنسان مصاباً بقصور في إحدى حواسه أو قدراته الذهنية والجسدية.

ولعل الأثر الأكبر الذي سيترتب على إطلاق بعض هذه الملابس مثل نظارة غوغل – التي سيتم الحديث عنها في جزء لاحق من هذا المقال- هو أن هذا المنحى الجديد من الحوسبة سيحرر المستخدم من قيود المكان والزمان، قيود الشاشات ولوحات المفاتيح، فمن خلالها ستتاح مستويات أعلى وأكثر مرونة من التفاعل والتواصل بين الإنسان والآلة، وذلك عن طريق استخدام التعليمات الصوتية وحركات الجسد وبعض عملياته الداخلية اللاإرادية، مثل حساب نبضات القلب وساعات النوم العميق وغيرهما، فيندمج العالمان الافتراضي والواقعي بشكل يسمح للمرء أن يؤدي أكثر من مهمة عملية واجتماعية وحياتية في الوقت نفسه، مما يفترض أن يرفع كفاءة الأداء ويؤدي إلى استغلال أمثل للوقت.

هناك عاملان مهمان يدفعان باتجاه تصميم وتبني حوسبة الملابس، أولهما، حاجة الناس للوصول إلى البيانات والمعلومات باستمرار، خاصة أثناء حركتهم وتنقلاتهم اليومية. ثانيهما، حاجة الناس الملحة لإدارة هذه البيانات المختلفة، بما في ذلك تخزينها واسترجاعها بكفاءة عالية في أي لحظة.

سيتناول هذا المقال ثلاثة أمثلة من أشهر الملابس المحوسبة، المعروفة التي دخلت سوق المستهلكين، أو ستدخله قريباً، قبل أن يفصل الآراء التي تدعم هذا التوجه نحو الملابس المحوسبة، والأخرى التي تعارضها كذلك.

نظام سيري (Siri) من أبل
مع أن هذه الخدمة موجودة حالياً على أجهزة أبل المختلفة، وليست جزءاً من لباس بعينه يرتديه الإنسان، إلا أنها تذكر كثيراً حينما يأتي الحديث عن الحوسبة الملبوسة، باعتبارها الخطوة الأولى في تحرير المستخدم من قيود لوحة المفاتيح، وتقدم صورة جديدة في التعاطي بين الإنسان والآلة كما تقدم، وفكرتها في التواصل بينهما بأوامر اللغة المحكية، هي نفسها التي سنجدها مستقبلاً في أشهر تطبيقات الحوسبة الملبوسة مثل نظارة غوغل، ولذلك سنبدأ بها.

ابتداءً من الإصدار المعروف بـ (iPhone 4S) على نظام التشغيل (iOS) عرف مستخدمو جهاز الآيفون المحمول خدمة أو تطبيق سيري، قبل أن يصبح جزءاً أساسياً من برامج الجهاز في الإصدار (iPhone 5) ومايليه، وكذلك على أجهزة الآيباد. سيري عبارة عن مساعد شخصي، يعمل بالاستجابة للأوامر الصوتية باللغة الطبيعية المحكية وليس باللغات البرمجية، فيجيب عن الأسئلة، ويقدِّم اقتراحات بشأن أماكن التسلية والتسوق، ويقدِّم خدمة الملاحة للوصول إلى الوجهة المعينة، كما يتولى أمر مهام بعينها عن طريق الاتصال بخدمات الويب (web services)، ويفترض بمرور الوقت مع الاستخدام المستمر أن يتكيف مع احتياجات صاحبه وطلباته، بحيث تصبح التوصيات والخدمات أكثر تخصيصاً، ومراعاة لما يفضله.

واختلف الناس في تقبلهم لـ«سيري» منذ ظهوره على الساحة في العام 2011، وإن كان سوقه راج أكثر في الدول الناطقة باللغة الإنجليزية بطبيعة الحال، مع بعض الانتقادات التي وجهت له حتى من بعض الناطقين بها كلغة أم، من كون النظام لا يستجيب إلى لهجتهم وطريقة نطقهم للكلمات. وقد حاولت النسخ الأحدث من سيري تلافي هذه المشكلة، فهناك دعم لتسع لغات حالياً (ليس من بينها العربية)، وكذلك دعم للهجات المختلفة في اللغة نفسها، فمثلاً هناك أربع لهجات مدعومة للغة الإنجليزية: الأمريكية، والكندية، والبريطانية، والأسترالية. إلا أن سيري كان له صدى جيد لدى المنظمة الوطنية للمكفوفين في أمريكا، فبهذه الخدمة غدا الآيفون، الجهاز الأكثر ملاءمة للاستخدام من قبل هؤلاء المكفوفين، بحيث يتحكمون فيه بوساطة أصواتهم فحسب. وفي أواخر العام 2012 أطلق محرك البحث الشهير غوغل خدمة البحث الصوتي الخاصة بأنظمة أبل وأندرويد وكذلك لمتصفحات كروم (Chrome) على الحواسيب المكتبية والمحمولة، فإذا بها تعمل بكفاءة عالية على أجهزة أبل نفسها، وتتفوق في دقتها -حسب رأي بعض المستخدمين- على خدمة سيري. لكن مما لاشك فيه أن سيري كان نقلة حقيقية في علاقة المستخدم العادي مع الأجهزة الإلكترونية، فبدأ يتواصل معها ويحادثها وكأنها شخص آخر، مع إمكانية قيامه بذلك دون أن يضطر لاستخدام يديه وعينيه، إذا كان مشغولاً بأمر آخر مثل القيادة.

أساور أب (UP) والملابس المحوسبة في مجالات الصحة واللياقة
تعودت الصحافة البريطانية أن تتابع بشكل لصيق أفراد الحكومة والبرلمان، ولا تتردد في فضح أو كشف أي ممارسة تنم عن فساد مادي أو أخلاقي أو سوء استغلال للسلطة، خاصة من الأشخاص المهمين فيها كرئيس الوزراء وطاقمه وكبار مستشاريه ومساعديه، لكن في هذا الصيف أثار أحد هؤلاء الأشخاص المهمين، وهو السيد جورج أوزبورن، وزير الخزانة البريطاني، ضجة في الصحافة المحلية وفي الأوساط المهتمة بالتقنية، ليس لارتكابه مخالفة قانونية أو أخلاقية، بل لأنه ظهر في بعض الجلسات الرسمية وهو يرتدي حول معصمه واحدة من أساور أب (UP) من منتجات شركة جابون (Jawbone)، وهي من آخر تقليعات الصحة واللياقة، التي يرتديها المرء لتقيس له بعض المعلومات الحيوية المهمة بالنسبة له كعدد الخطوات التي قام بها خلال يومه، وعدد السعرات الحرارية التي أحرقها في أثناء ذلك، وعدد الساعات التي نام فيها، وجودة نومه (عدد ساعات النوم الخفيف والعميق، الوقت الذي استغرقه ليدخل مرحلة النوم، عدد المرات التي استيقظ فيها خلال نومه، وهكذا)، وغيرها من المعلومات المفيدة للأشخاص الراغبين في إنزال أوزانهم أو المحافظة على أسلوب حياة صحي.

ومع أن هذه الإسورة التي تنتجها الشركة المذكورة وشركات أخرى لها باع طويل في عالم المنتجات الرياضية مثل شركة نايكي (Nike)، قد بدأت في الانتشار وسط أوساط الشباب المهوسين بالتقنية أو اللياقة أو الاثنين معاً منذ بضعة أشهر سابقة، إلا أن تبنيها من قبل شخص له وزنه في الحكومة، قد أسهم في تسليط الضوء عليها، وعلى غيرها من الأجهزة التي سيرتديها الإنسان بشكل عام، وليبدأ النقاش الأكثر إثارة، حول فوائدها من ناحية، وتأثيراتها الاجتماعية السلبية المرتقبة من ناحية أخرى.

جاء في بعض تعليقات الكتَّاب البريطانيين على هذه الواقعة بأن الأخ الأكبر بات لا يراقبك عبر الكاميرات المثبتة في كل مكان في مدينة لندن تقريباً، وإنما بات لصيقاً بك يحصي عليك أنفاسك، ويتأكد من أنك لا تأكل كثيراً من حلوى الكيت كات الشهيرة!

نظارة غوغل (Google Glass)
بتصميمها الأنيق، الذي يجمع بين الصلابة والخفة، تثير نظارة غوغل شهية كثيرين لامتلاكها بغض النظر عن ارتفاع سعرها المتوقع، لأنها ستتيح لمن يرتديها إمكانات جديدة، وقدرات سحرية تشبه ما كان يراه في أفلام الخيال العلمي الجيدة. الفرق هو أن هذه النظارة ستكون متاحة ليستمتع بها في يقظته وليس في شطحات خياله أو عبر أحلام مناماته.

نظارة غوغل قد تم إنتاجها فعلياً، وحالياً تتم تجربتها عبر مختلف المستخدمين المختارين حول العالم لاختبارها وتسجيل الملاحظات عليها، قبل أن تطلق للبيع تجارياً في العام 2014 كما تشير أغلب التوقعات.

تستجيب النظارة لأوامر صاحبها الصوتية، فتعرض أمام عينيه شاشة تخيلية فيها الوقت أو التاريخ، وتستجيب لندائه بأن تصور (بالفيديو أو بالصور الفوتوغرافية) تعابير وجه طفله وهو يضحك لأبيه في حين ترفعه يداه – غير المقيدتين بآلة التصوير أو الهاتف المحمول- إلى السماء! وتسمح له أيضاً بأن يشارك ما يراه مباشرة (وليكن عرضاً كرنفالياً في ساحة المدينة) مع أصدقائه في الشبكات الاجتماعية المختلفة، وتعرض أمامه خريطة الطريق للمكان الذي يرغب في الوصول إليه، بحيث لا يضطر لإزاحة يديه عن المقود، ولا إبعاد عينيه عن الطريق أمامه، ليختلس نظرة إلى جهاز الملاحة. هذا بالإضافة إلى خدمات إرسال رسائل البريد الإلكتروني، والرسائل الصوتية، والرد على المكالمات، أثناء قيامه بمهام أخرى كالطبخ أو تبديل الثياب أو عبور الشارع.

ولعل الخاصية الأجمل، هي أن نظارة غوغل ستوفر ما يوفره محرك البحث الشهير، ودون لمسة زر واحدة! لنفترض أنك تسير باتجاه منزلكم فتشاهد سيارة جديدة فارهة، فتسأل نفسك عن اسم الشركة المصنعة وتاريخها، بل وسعر هذه السيارة، فيأتيك الجواب سريعاً، كما لو كنت أدخلت هذه البيانات بنفسك على محرك غوغل الذي بات في عصرنا هو مدخل منجم علي بابا العامر بكنوز المعرفة.

ولنفرض أنك قررت السفر للسياحة أو العمل إلى اليابان، ولما لم تكن إجادة اللغة اليابانية واحدة من مهاراتك المتعددة، وأنت مضطر لتسأل ما إذا كان شرابك أو طعامك يحتويان على الخنزير أو الكحول أو على زبدة الفول السوداني (وأنت تعاني من حساسية مفرطة تجاهه) فإنك ستطرح سؤالك بلغتك فتتولى نظارتك العجيبة الترجمة بلغة واضحة إلى لغة الشخص الذي تحادثه، وهكذا يصبح معك مترجمك الخاص الذي يجنبك التورط في مشكلات بسبب سوء الفهم، دون أن تكون مضطراً لشراء وجبة غدائه على حسابك!

الملابس المحوسبة: أنصار ومعارضون
المتحمسون لها الذين يجادلون بأهميتها وفائدتها يتبنون الفكر الذي يرى أن أجهزتنا المحمولة، وعلى رأسها هواتفنا الذكية، تشكل عائقاً عن القيام بالنشاطات اليومية العملية منها والاجتماعية، حيث تتسمر عينا الشخص مثلاً على شاشة جهازه فلا يعود يرى أو يشعر بما حوله. فالهدف إذاً هو إزاحة التقنية كعائق عن طريق الناس مع إبقاء الخصائص المهمة التي كانت تمنحها لهم، مثل مشاركة اللحظات الأهم في حياتهم مع من يريدون. فنظارة غوغل ستسمح لك بالتواصل والحديث مع أصدقائك في المقهى في اللحظة نفسها التي تشارك فيها مقالاً أعجبك مع أصدقائك عبر الشبكة.

وهم يرون أن ثمة فوائد لا حصر لها صحية وعلاجية وتعليمية وترفيهية ستبرز كتطبيقات لهذه التقنية الخلاقة. لنأخذ مثلاً مرضى ألزهايمر، والذين يبدأون في فقدان ذاكرتهم شيئاً فشيئاً حتى يصبحون غرباء عن أنفسهم وعمن حولهم، فبعض هذه الملابس ستمكنهم من تذكر الأسماء والوجوه، وبالتالي ستسهم في تأخير وصولهم إلى المراحل الأخيرة المرعبة من المرض لفترة أطول من الزمن. أما المعارضون فلهم كذلك أسبابهم الوجيهة، وثمة أربعة أمور رئيسة تشكل مصدر قلق فيما يتعلق بالملبوسات الإلكترونية.

أولاً، الجدوى، فهل ستكون هذه النظارات والساعات والقمصان مثلاً مجدية فعلاً للمرء في حفظ وقته وإنجاز مهامه فتستحق تكاليف إنتاجها وامتلاكها، أما أنها لن تكون أكثر من «إكسسوارت» باهظة الثمن؟

ثانياً، تشكل الخصوصية، كالعادة مع أي منتج تقني جديد، الهاجس الأكبر، فهذه الأجهزة اللصيقة بك ستجمع معلومات غاية في الدقة والخصوصية، وستعرف عنك أكثر مما ينبغي أحياناً: معدل ضربات قلبك، عدد ساعات نومك، مشروبك المفضل، عاداتك في المشي، فهل نحن مستعدون لمشاركة كل هذه المعلومات عنا؟ وماذا لو انكشفت لمن نعرفهم أو لا نعرفهم؟

فمن يضمن ألاَّ تنتهي كل هذه المعلومات في المكان الخطأ؟ بل وأين ستخزن؟ حلول حوسبة سحابية مرة أخرى؟ ومن قال إن الهواجس بخصوص هذا النوع من الحوسبة قد انتهت كلية؟ (راجع القافلة العدد 60 وتاريخ يناير – فبراير 2013: الحوسبة السحابية..هل تتغلب الميزات السحرية على الهواجس الأمنية؟).

ويرد على هذه المخاوف بعض المتحمسين بالقول إن عصر الخصوصية انتهى، ويجب تعليم الأجيال الجديدة ليس كيفية المحافظة على الخصوصية عبر التقنية، وإنما المسؤولية الأخلاقية والقانونية التي تكفل قيامهم تلقائياً باستخدام التكنولوجيا بشكل فعال وراشد في نفس الوقت، وأنه حين يخرج المرء للأماكن العامة، فكل ما يتعلق بالخصوصية قد صار متاحاً ومباحاً للعامة، وهو رأي قد يختلف معه كثيرون كلياً أو جزئياً. أصحاب رأي انتهاء زمان الخصوصية يرون أيضاً أن القضايا التي ينبغي تناولها مرتبطة باللباقة والذوق وليس بالخصوصية، ومعظم الناس بشكل عام يتصرفون باحترام ويراعون مشاعر الآخرين ورغباتهم.

ثالثاً، يأتي موضوع السلامة، هل هذه المنتجات آمنة؟ هل سيؤدي ارتداء نظارات غوغل إلى إلهاء المرء عن محيطه، فيتشتت انتباهه مما يمكن أن يتسبب في حادثة له أثناء سيره في الشارع مثلاً؟

ورابعاً، يأتي الموضوع الأكثر إثارة للجدل وهو القبول الاجتماعي. هناك تخوف من أن تتحول هذه الملابس إلى وحش لا يمكن التكهن بتصرفاته، فهناك خط رفيع كما يعتقد المتخوفون منها بين التقنية التي تعكس حياتنا وتسهل أمورنا، وبين تلك التي تسيطر عليها بالكلية. بين أن تكون ذاكرة ثانية تسعفنا لأداء مهامنا، وبين أن تتحول إلى أخ أكبر يراقبنا ويحصي علينا أنفاسنا كما في الرواية الرائعة للكاتب البريطاني جورج أورويل (1984).

وحين نتحدث عن نظارة غوغل وغيرها من الملابس المحوسبة المزودة بآلة تصوير، كيف سيضمن الناس ألاَّ يتم التقاط صورهم دون إرادتهم بل ودون معرفتهم؟ هل سيوجد قانون يلزم الناس بخلع النظارات في بعض الأماكن العامة والخاصة مثل -أجلكم الله-دورات المياه أو عنابر الولادة والمستشفيات بصفة عامة؟ ماذا سيحدث في مجتمعات إسلامية ومحافظة مثل مجتمعنا السعودي مع هذه التقنية الجديدة التي لا تقيم وزناً للخصوصية، لاسيما في التجمعات النسائية التي يفترض أن تكون آمنة من عيون الرجال الأجانب كالمدارس والجامعات وصالات الأفراح؟

هل هناك مبالغة في هذه المخاوف أم أن لها سنداً قوياً؟ أحد الممثلين عن فريق نظارة غوغل قال لمجموعة من الطلبة المتدربين في فترة الصيف، إن كثيرين يتحدثون عن الملابس المحوسبة ويجادلون في كل ما يتعلق بها سواء مع أو ضد، لكن قلة قليلة فقط هي التي تتبنى هذه الآراء عن معرفة حقيقية بطبيعة هذه المنتجات وتأثيراتها. إذ يستقي معظم الناس تصوراتهم عنها مما شاهدوه في أفلام الخيال العلمي، مثل آيرون مان (الرجل الحديدي) الشهير، والتي تلجأ غالباً للمبالغة في تصوير قدرات وإمكانات الملابس المحوسبة خدمة لعامليّ التشويق والإثارة المطلوبين في السينما.

خاتمة
مما لاشك فيه أن الملابس المحوسبة ستترك تأثيراً بالغاً في حياة الناس وفي كيفية تفاعلهم مع بعضهم ومع بيئتهم المحيطة، ولعل أقرب تأثير لها، هو ما حصل مع الشبكات الاجتماعية في المحيط الافتراضي التي أصبحت فجأة ودون أن ينتبه أحد، تمثيلاً ثانياً للمرء، بالإضافة إلى تمثيله الجسدي لنفسه على أرض الواقع. وفي النهاية، الناس هم من سيقررون مستقبل الملابس المحوسبة، سواء المضي بها ومعها قدماً إلى المستقبل مع التغلب على سلبياتها المرتقبة، أو إيجاد طرق خلاقة للتعامل معها على أقل تقدير. أما الطريق الثاني الذي قد يسلكونه فهو إفشال هذه التقليعة الجديدة من أجل حياة أكثر بساطة وأقل تطوراً، وهو ما تشير أغلب التقديرات بأنه أمرٌ مستبعد الحدوث. فعجلة التقدم تسير للأمام دوماً، وطالما نجح الإنسان في التكيف مع منجزاته الحضارية المختلفة بإيجابياتها وسلبياتها.

أضف تعليق

التعليقات