أين ذهبت الطفولة؟ سؤال لا بد وأن يكون قد طرحه الكثيرون من الأهالي عندما فوجئوا بموقف يصدر عن طفل في السادسة أوالسابعة، في حين أن المفترض بمثل هذا الموقف أن يصدر عن مراهق في الخامسة عشرة من عمره، مثل المعارضة المستمرة للسلطة الأبوية، والتأثر الملحوظ برفاق المدرسة أو الشارع، ونوبات تقلُّب المزاج المفاجئة، وأخيراً تلك القشرة التي تحيط بمظهرهم وتصرفاتهم. القشرة التي تدعي النضج ولا تنجح في الوصول إليه.
فاطمة الجفري تتناول هنا جوانب عديدة من قضية الشريحة العمرية الواقعة بين الطفولة والمراهقة، والمسائل كافة التي يثيرها الاعتراف باستقلالها عن هاتين الفئتين على الصعد التربوية والاجتماعية، وحتى الاقتصادية.
آشلي فيرل فتاة يعرفها كل من تابع البرنامج الغنائي أميريكان آيدول في موسمه السادس، ولم يكن ذلك لأنها كانت ضمن المتسابقين. آشلي، المعروفة بـ الفتاة الباكية ظهرت في حلقات مختلفة من البرنامج تجلس مع أسرتها في صفوف الجمهور، وتبكي بحرقة عندما يبدأ مغنيها المفضل، المتسابق سانجايا مالاكار، في الغناء..
واستثمر القائمون على البرنامج لوعة آشلي ليثيروا اهتمام المشاهدين. فما أن تبدأ آشلي في البكاء حتى تتسارع كاميرات التصوير لالتقاط دموعها. ترى آشلي، قبل انهماكها في البكاء طفلة صغيرة ظريفة في الثانية عشرة من عمرها، أما خلال بكائها، فترى تعبيراً على وجهها قد يصدمك، وقد يضحكك. الصغيرة تبكي بلوعة تتجاوز بكثير سنوات عمرها القصير. فمن أين أتت طفولتها بهذا الفهم، أو هذه المشاعر؟
يروي مدرس الإنشاء في إحدى مدارس جدة أنه طلب من تلاميذه كتابة مقال عن أحلامهم التي يتمنون تحقيقها. وبينما كان يقرأ المقالات، صُدم بمقالة لأحد تلاميذه، يحكي عن حلمه. يحلم أن يقود سيارة فيراري مسرعة في شوارع جدة مع أصدقائه، يستمتع بالهواء وبالموسيقى الصاخبة التي تنطلق من مشغِّل الأسطوانات المدمجة. حتى يصل إلى النادي الليلي، وليحصل على وشم يزيِّن أعلى ذراعه. يقول المدرس: لست بعيداً عن الواقع كيلا أعرف أن هذه الرغبات طبيعية وتراود فتياننا في المرحلتين المتوسطة والثانوية. ما صدمني هو أن تلميذي هذا طفل في الصف الثالث الابتدائي، ولم يتجاوز عمره التاسعة. وأن الموضوع الذي كتب هذه الرغبة في سياقه هو موضوع عن حلم حياته. ما أعرفه عن فتاي أنه من أسرة متماسكة ومتعلمة وتهتم بأبنائها. فأين الخلل؟ .
أولئك الذين يتذكرون ولعهم بعبدالحليم حافظ أو عمرو دياب يرون أن الأمر لا يستحق منا قلقاً أو دهشة. فالأمر على حاله منذ الأزل، وتقلب المشاعر وحدتها ليسا متعلقين بجيل دون آخر. ولكن الأمر ليس كذلك. فمن أغرم بعمرو دياب لم يكن وقتئذ في السابعة، أو الثامنة أو التاسعة. بل أكبر من ذلك بكثير. ولننس برهة ما قاله فرويد عن مرحلة الكمون (latency)، وهي مرحلة في حياة الطفل بين السادسة والثالثة عشرة من العمر للصبيان، يكون الطفل فيها غارقاً في سذاجة الأطفال المحببة، بعيداً عن اللماحية المتوقدة المتربصة والتي يتميَّز بها المراهق فيما يتعلق بمحظورات المجتمع. إذ يبدو للمشاهد المحايد أن أطفال اليوم قرأوا كل الفوازير التي حيرتنا نحن عندما كنا في أعمارهم وعجزنا عن حلها، وظنوا أنهم قد حزروا الحل وإن لم يكن حلاً صحيحاً، وبرعوا في إخبارنا مرةً بعد مرة. أنهم قد تجاوزوها.
وهل نستطيع القول إذن إن الطفولة في حياة هذا الجيل، والأجيال القادمة قد تقلَّصت، بينما امتدت المراهقة لتبدأ من السادسة مثلاً؟ دراسات علم النفس الطفل الغربية تلاحظ ما يطرأ على سلوك الطفل من تغير، إلا أن كثيراً منها يرى أن هذا التغير هو سلوك متوقع، تسارعت وتيرته نتيجةً لتغير اجتماعي واقتصادي. هذه المرحلة التي تقع بين حدود التاسعة والثانية عشرة، يقول خبراء علم نفس الطفولة، هي مرحلة إعداد الطفل لسن المراهقة، فالتحول من طفل إلى مراهق لا يكون بين ليلةٍ وضحاها، وعلى الأهل توقع هذا التخبط بين طفولةٍ حاضرة ومراهقة قريبة.
الضغط على الطفولة حتى هزيمتها
المراهقون قبل الأوان -إذا جاز لنا وصفهم بذلك- جماعة يتزايد عدد الأطفال المنتمين إليها من يوم إلى آخر، وسببها أنماط مختلفة من العوامل الاجتماعية والاقتصادية والديموغرافية. وكان دايفيد الكيند، أستاذ سيكولوجية الطفل، من أوائل الذين أشاروا إلى تيار أنشأته الحياة المعاصرة في الدول الصناعية يقوم على افتراض نضج قبل الأوان في الأطفال. ففي كتابه الطفل المستعجَل الذي صدرت طبعته الأولى عام 1981م يشير إلكيند إلى أن المجتمعات المعاصرة تضغط الطفولة فلا يعود الطفل قادراً على الاستمرار في طفولته مدة طويلة، ويكبر أطفالنا بينما لا يزالون صغاراً يفتقدون النضج العاطفي الذي تتطلبه مسيرة الرشد. الآباء يتسابقون اليوم ليعدوا أطفالهم لما ينتظرهم في الغد، فيزجون بهم في كل ما يرونه ملائماً لشاب العصر الحديث من نشاط يشمل دراسة اللغات والحاسوب، والاشتراك في أنواع رياضة مختلفة، وما إلى ذلك.
في أحد البرامج التي عرضها تلفزيون الشرق الأوسط (MBC) تصور الكاميرا لقاءً مع سيدة سعودية أحرزت نجاحاً كبيراً في حياتها المهنية. وفي معرض إجابتها عن سؤال وجهه البرنامج لها حول توفيقها بين مسؤولياتها بصفتها أماً وسيدة أعمال أجابت المصممة بأنها تعمل بينما يكون أطفالها في المدرسة، وتتناول الأسرة بأكملها الغداء بعد عودتهم، ثم تقضي مع أطفالها وقتاً نوعياً على قولها، ساعة أو اثنتين تطلع فيه على حصيلة يومهم في المدرسة ويتبادلون الحديث، ثم ينطلق كل فرد إلى جدوله، فبينما تعود سيدة الأعمال لأعمالها، يقضي أطفالها يومهم بين دروس البيانو، واللغات، والرياضة. ولذلك، تقول الأم، إن أطفالها أيضاً لا يمتلكون الوقت الكافي لافتقادها. المبالغة في إعداد الطفل لما ينتظره قد تتحول إلى ضغط يمحو من حياته مساحة اللعب والاستمتاع بما تقدمه له الحياة يوماً بيوم، فيتحول يومه إلى جدول لا يختلف في صرامته عن جدول والده. فقد بات الأهل يتوقعون من أطفالهم في السابعة والثامنة من العمر أن يكونوا قادرين على اتباع جدول يومي، والقيام بأكثر من واجب في اليوم نفسه أو في الوقت نفسه، والقدرة على التصرف بكفاءة وترتيب الأولويات.
الطفل العارف!
من ناحية أخرى، ووفقاً لدراسة وضعتها منظمة توجهات الطفل الأمريكية عام 2003م، فإن %15 من الأطفال بين السادسة والثانية عشرة في الولايات المتحدة الأمريكية (3.3 ملايين طفل) يقضون ساعات ما بعد المدرسة في رعاية أنفسهم أو مع أخ أو أكثر من شريحة العمر نفسها. هؤلاء الأطفال الذين تسميهم المنظمة أطفال سلسلة المفاتيح يعودون إلى منزلٍ خالٍ ويفتحون بابه بنسختهم الخاصة من مفاتيح البيت، وهم في نظر آبائهم لم يعودوا صغاراً يحتاجون إلى رعاية الكبير. فهم يستطيعون تحضير فطورهم أو غدائهم، وحماية أنفسهم من المخاطر التي يمكن أن يتعرض لها طفل وحده في منزله، ولديهم الكثير مما يشغلهم من واجبات مدرسية، وبرامج ومسلسلات تلفزيونية، وتصفح إنترنت، وألعاب الفيديو، والمحادثة مع الأصدقاء. ومن تحتفل به وسائل الإعلام هو هذا الطفل. الطفل العارف الذي لم يعد محتاجاً إلى طفولته كما تقول كاي هايموتز في كتابها مستعدون أم لا: ماذا يحصل عندما نعامل الأطفال ككبار صغار؟ . ففي الأفلام والمجلات ومعظم القنوات التلفزيونية والإعلانات يرى الأطفال صوراً لأطفال آخرين في عمرهم وقد تخلوا عن طفولتهم، واكتسبوا معرفةً وخبرة تفوق أعمارهم، وتعاملوا مع العالم المحيط بهم باستقلال وجدوى.
وعلى أرض الواقع، يدرك الصغار أنهم الجيل الأول الذي تتخلى معهم ثورة الاتصالات عن جِدّتها، بل وعن ثوريتها أيضاً، لتصبح جزءاً عادياً للغاية من حياتهم كما هي السيارة للجيل الأكبر من آبائهم وربما أجدادهم. ولهذا، علينا أيضاً أن نضع في الحسبان أن انشغال الآباء عن أطفالهم حالما يظنون أنهم قادرون على رعاية أنفسهم بأنفسهم ليس هو السبب الوحيد لضعف تأثير الأهالي في حياة أطفالهم، فبعض الآباء والأمهات يشعرون أنهم أمام عالمٍ جديد لا يمتلكون أياً من مفرداته. بحر من المفردات والمعلومات والأدوات التكنولوجية لم تكن في حياتهم من قبل، ويتعامل معها طفلهم الصغير بكفاءة تفوق كفاءتهم بكثير. ولذلك نجد أن سلطتهم الأبوية تصاب بشيء من الضعف، وتترك مجالاً لسيطرة الطفل ورفاقه في المدرسة على قراراته تماماً. وبالنظر إلى أن في هذه المرحلة بالذات يبدأ ضغط الأصدقاء والحاجة إلى الانتماء للجماعة، فإن أي تصرف يصدر عن الصبي أو الفتاة يصبح لحياتهم الاجتماعية سلاحاً ذو حدين، فإما أن يستقبله أساطين الجماعة الاجتماعية التي ينتمي إليها بالرضا والقبول، وبالتالي يضمن أو لنقل يسهّل انتماءه إلى الشلة ، أو يكون التصرف الخطأ، ولهذا الأمر عواقب ليس من السهل على الصبي العادي المجرد تحملها أو الاستهانة بها في غياب الدعم الضروري الذي توفره أسرة تقوم بدور فعال في تأسيس توازنه.
بين المدينة والقرية والصبي والبنت
كان ما تقدَّم عن حال الأطفال في المدن، فماذا عن الأطفال في الضواحي والقرى؟ ربما لن تظهر مراهقتهم بقوة مراهقة أطفال المدن الكبرى. إلا أنها موجودة وملموسة أكثر بكثير مما كانت في الماضي. ولن يمر وقت طويل حتى تمتد الظاهرة ليتساوى الأمر في المدينة والريف. والظاهر أن مراهقة الفتيات الصغيرات أكثر من مراهقة أقرانهن من الفتيان، ربما لأن نضج الصبيان الجسدي يستغرق وقتاً أطول. إلا أنهم -الصبيان- ليسوا محصنين بأي حال من الأحوال حيال ما يمر به مجتمع الفتيات من تغير. الحاجة إلى أن يكونوا مراهقين. فبينما كان الصبيان في الصف الثاني والثالث والرابع الابتدائي قبل سنوات قليلة في آخر سلم المهتمين بالأناقة والأزياء، وربما ليسوا على السلم من الأساس، أصبحوا اليوم يهتمون بأنواع المستحضر المثبت للشعر، وآخر صيحات الملابس ولوازمها.
ولكن، وإن بدا هؤلاء الصغار واثقين من خطواتهم، فيجب ألا ننسى أن لديهم رؤية مهتزة عن العالم، أشد اهتزازاً حتى من رؤية المراهقين أنفسهم. ولذلك، فهم يعتمدون بقوة على الآخرين لكي يروا بواسطتهم العالم المعقد حولهم، وكيف يتصورون أنفسهم فيه. وأهم هؤلاء الآخرين الأسرة التي تضم الوالدين والإخوة الكبار بالتأكيد. ولكن للأسباب السابقة الذكر، وجدوا أنفسهم فجأة وقد مُنحوا القوة ليفعلوا ذلك دون الاستعانة بالكبار الأقرب، وهذا يتركهم عديمي المناعة أمام الرسائل المختلفة التي تبثها وسائل الإعلام وقوى التسويق وضغط رفاقهم. وعندما يلحظ الآباء والأمهات التغير الذي طرأ على أطفالهم، نجدهم يسألون.. سراً أو جهراً: ما الذي حدث للطفولة؟
خطوات في شأن مراهقة قبل أوانها
الأساس النظري الأول للتعامل مع مراهقة الطفل قبل الأوان، هو أن يعي الأهل أن صلة الطفل في هذه المرحلة بأسرته تبقى المرجع الأول الذي يعتمد عليه في تقديره لذاته وفي فهمه للعالم من حوله. لذلك، بدلاً من محاولة قمع مظاهر تخليه عن طفولته، على الأهل أن يتفهموها، ويعطوه مساحةً ليعرف الحدود التي يمكن أن يصل إليها. ما يهم أن يتذكره الأهل هو أن هذا الطفل ليس مراهقاً وإن بدا كذلك. وبالتالي، ليس من العدل أو الرشد أن يسمحوا لقشرة النضج الزائفة أن تخدعهم، وتحرمه من حنانهم. فإذا اعتمدنا هذه القاعدة، فهناك بعض الخطوات العملية التي يمكن اتخاذها لتقليص الهوة بين حياة الطفل والأسرة.
أولها أن يبقى الأهل مطَّلعين على أحدث مواضيع اهتمام الطفل وأقرانه. هناك حلقة ضائعة لا يستطيع الأهل إيجادها فيما يتعلق بثقافة الطفل: ماهي الألعاب التي تحظى بشعبية بين المراهقين الصغار؟ ما هي الكلمات والتعابير الشائعة بينهم وإلام ترمز؟ ماهي الدُّرجة هذه السنة؟ ماهي الوجوه التلفزيونية أو الكرتونية التي يتخذونها قدوةً لهم أو يتمثلون بأقوالها في أحاديثهم اليومية؟ ماهو أحدث ما صدر عن هذا الجهاز أو ذاك؟ على الأهل أن يكونوا على دراية بكل هذا، لا بغرض تبنيه من مفردات حياتهم اليومية، ولكن لإنشاء خلفية حوار متجدد قائم على معرفة طرف الحوار بالطرف الآخر.
على الأهل أيضاً عدم الافتراض أن طفلتهم مستعدة لتولي المسؤوليات أو ممارسة الحريات التي يتمتع بها إخوتها الكبار فقط لأنها تتصرف مثلهم. فزائر مراكز التسوق في المدن الكبرى يجد فتيات صغيرات في العاشرة والحادية عشرة يتسوقن مع صديقاتهن، وهن نسخ صغيرة عن الفتيات اللاتي تجاوزن العشرين من العمر في مظهرهن وتصرفهن. وللحظة يمكنك أن تنسى طفولتهن، مع أنها لن تنساهن، ومسؤولية كهذه -التسوق دون إشراف الكبار- مازال مبكراً جداً كي تمنح لهن. مهما طالبن بها، وقلن إن كل الأسر الأخرى في البلد تسمح لفتياتها بذلك.
ويقودنا ما تقدم إلى مسألة أخرى. على الأهل أن يسمحوا لفتياتهم أو فتيانهم بحرية اختلافهم عنهم، التي يكتشفونها أول مرة خلال هذه السنوات. وإن لم يفعلوا، فعليهم مناقشة أطفالهم في وجهة النظر، وليعلموهم أنهم لم يصرفوا النظر عنها لأنها لا تستحق النظر، بل لأن لديهم كذا وكذا من الأسباب المنطقية. مع ذلك، وفي نهاية الأمر، لابد من أن يدرك الطفل أن الكلمة الأخيرة هي للمشرف الراشد الذي يناقشه، وهو يتخذ القرار.
فمن ناحية، على الأهل الاستمرار في إتاحة مساحة لطفلهم كي يمارس طفولته من خلالها بدل أن يختصرها. فيقدموا لأطفالهم فرصاً لا تشير بوضوح إلى طفولتهم هذه، بل تنمي العلاقة معهم دون إجبارهم على ممارسة أشياء لا يحبونها. هذه الفرص قد تكون متابعة الأهل لمسلسل كرتوني يحبه الطفل، واصطحابه في نزهة إلى الحديقة أو مدينة الملاهي، مشاركته في تركيب لعبة أو ترتيب قطع البزل .
ومن ناحية أخرى على الأهل أن يحرصوا على عدم معارضة ملامح نضج أطفالهم المبكر، والابتعاد عن المحاولة المستميتة لإقناعهم بأنهم ما زالوا أطفالاً عليهم الابتعاد عن تقليد الكبار. ليحاولوا أن يصلوا معهم إلى حل وسط، فإن أرادت الطفلة الحصول على مجموعة مساحيق التجميل الجديدة للفتيات، ليُسمح لها بذلك، مع تقنين استخدامها. وفي مقابل كل مرة يرتكب فيها الطفل خطأ يستحق عليه العقاب أو التأنيب، ليتح له الأهل خمس فرص ليحصل على ثنائهم وإثبات جدارته ونضجه. هذا المنهج يساعد الطفل على الإحساس الإيجابي بقيمته، وأنه مخير بين صواب وخطأ. وينمِّي هذا السلوك الرقابة الذاتية التي يمارسها على تصرفه. خطوات كهذه تساعد الأطفال في هذه المرحلة على الانتقال السلس من الطفولة إلى المراهقة، من دون أن يفقد الأهل علاقتهم الطيبة بهم.
المسوِّقون يمنحونهم اسماً
على عكس دراسات علم نفس الطفل التي تبدو ردود فعلها هادئة وقليلة التجاوب حول ما يحير الآباء والأمهات فيما يتعلَّق بسلوك الأطفال-الكبار، نجد أن المسوقين للطفل يظهرون حماساً أكثر مما يجب لأي تغير وإن كان محدوداً أو متوقعاً. فقد أصبح المسوقون أصرح وأوضح، وسموا هؤلاء الأطفال الكبار توينز-Tweens، وإن لم يتفقوا على تعيين مرحلة العمر تماماً. فبعض الأبحاث التسويقية تجعلها بين سن السادسة أو السابعة والرابعة عشرة. والبعض يبدؤها من الثامنة، والبعض الآخر من التاسعة، ولكن معظم الأبحاث تشير إلى أن الفئة المقصودة هي فئة الصبية والفتيات بين الثامنة والثانية عشرة من العمر.
وربما يبدو هذا التخبط في التشخيص الزمني مضراً بخطة تسويق منظمة لإحدى شركات الملابس أو الأطعمة أو غيرها، بينما يفي بالغرض حينما نتحدث عن الفئة بشكل عام، وحينما نواجه ونعرِّف كل طفل على حدة.
في النهاية، نستطيع أن نقول إن التوينز حالة عقلية وشعورية تفرض على الطفل-الصبي التجاوب مع العالم من حوله بوجهين. وجه طفل ووجه مراهق، يتبادلان الأماكن من دون أن يكون لهذا التبادل نمط متوقع أو يمكن التنبؤ به بسهولة. وأدبيات التسويق الغربية تسمي مرحلة العمر هذه Tweens وهي كلمة مشتقة من كلمتي Teenagers أي مراهقين، وكلمة Between أي بين ، ويصف هذا المصطلح مراوحة الأولاد بين الطفولة والمراهقة.
التوينز منجم الذهب للشركات
قد يكون تتبع تغير الأطفال مهماً للآباء والأمهات والتربويين والباحثين الاجتماعيين، ولكن لِمَ على الشركات أن تهتم لها، وما التغيير الذي ينبغي أن تفرضه ملاحظة كهذه على أسلوب التسويق لهذه الفئة؟ هذه الفئة شريحة لا يستهان بها على الإطلاق في العدد ونوع التأثير في قرار الشراء، وهي التي ستقرر الفائز والخاسر في سباق الأفضلية لسنوات عديدة قادمة، وهذا ما يفسِّر التفات الشركات الكبرى لهم.
بدأ الاهتمام بالتسويق للأطفال-الكبار منذ صدور كتاب جيمس ماكنيل الأطفال المستهلكين: نظريات وتطبيقات عام 1987م، وقد عرَّف مكانة الطفل المستهلك، فالطفل في رأي ماكنيل لا يمثل شريحة واحدة فقط من المستهلكين، وإنما هو 3 شرائح في آنٍ. الطفل هو شار-متسوق اليوم، وهو زبون المستقبل الذي يملك القدرة على تحديد أرباح الشركة في السنوات القادمة إذا منح علامتها التجارية ولاءه الخالص، وهو في نهاية الأمر صانع قرار مؤثر وفعَّال فيما يتعلق بقرارات الشراء التي تتخذها الأسرة بشكل عام. ولربما كان عامل تأثير التوينز في قرارات الشراء هو الذي حرك المستثمرين وأصحاب الشركات باتجاههم.
فهم المحرك الأساسي الذي يدفع بعربة الأسرة إلى الشراء من شركة وتجاهل شركة أخرى، ليس فقط فيما يتعلَّق بالألعاب والمواد الغذائية، وإنما بكل المنتجات التي لها علاقة مباشرة وغير مباشرة بهم، كاختيار المطاعم ووجهات الرحلات والتسلية، وحتى السيارات. يمكن للأم أن تشير إلى الجبنة في قائمة مشتريات المنزل كمثال، ولكن توينز الأسرة هم الذين يقررون إن كانت رفوف الثلاجة لهذه العلامة التجارية أم لتلك، وقس على ذلك بقية المنتجات الغذائية وغيرها.
وفي دراسة جميس ماكنيل لمكانة الطفل المستهلك، إشارة إلى أن الأطفال الكبار يؤثرون في قرارات الشراء الخاصة بأسرهم بما يقدر بمئة وثلاثين بليون دولار أمريكي، أو ما يقارب العشرين بالمئة من مجمل ما يدفعه المستهلكون الأمريكيون في السنة. ونستطيع أن نطبق حديث ماكنيل على الوضع العربي بشكل عام. ففي السعودية مثلاً، كما يشير تقرير أصدرته مصلحة الإحصاء العامة والمعلومات عام 2006م، يبلغ الأطفال (منذ الولادة وحتى الرابعة عشرة) %32.9 من مجموع السكان، إذ يبلغ عددهم 7.78 ملايين نسمة. وإن لم يشر التقرير بشكل دقيق إلى النسبة التي يحتلها التوينز، إلا أننا نستطيع القول بثقة إنها نسبة لا يستهان بها.
وتشير دراسات التسويق أيضاً إلى أن تأثير الأطفال الكبار يتعدى قرارات الشراء اليومية ليكون له ثقل ملموس في حال عدم حضورهم الشراء. فللآباء رغبة طبيعية في إرضاء أبنائهم، ولذلك يحرصون على شراء النتاج من العلامة التجارية التي يفضلها الأبناء عند الاختيار. وهذا ليس جديداً. الجديد هنا، نتيجةً للتوجه المكثف لهم من المعلنين، هو أن معرفة الأطفال بالعلامات التجارية زادت على ما كانت قبل عقد خلا، وبالتالي، فإن المساحة التي يحسب الآباء فيها حساب تفضيل الأبناء لعلامة تجارية معينة قد اتسعت، وأصبحت تطال السيارات والملابس والأفلام والحاسوب والأدوات الرياضية وغيرها.
وفضلاً عن معرفة التوينز المتفوق بالعلامات التجارية المتعلقة بالمنتجات التكنولوجية وتسليم الآباء لهم بذلك، تجد الأهل وقد اصطحبوا أبناءهم لأخذ نصيحتهم عند شراء حاسوب شخصي أو هاتف محمول. ففي إحدى الدراسات التي أجرتها شركة ميلوارد براون للتسويق، كان هناك توجه عالمي، ليس محدوداً فقط بالولايات المتحدة الأمريكية، يشير إلى أن التوينز من أبناء المدن يؤثرون في قرارات آبائهم بنسبة %45 فيما يتعلق بشراء الهواتف المحمولة.
من ناحية أخرى، غيَّرت شركات صناعة الألعاب مثلاً توجهها إلى زبائنها، وبدلاً من أن يكون الأطفال منذ الولادة وحتى الرابعة عشرة من العمر هدفاً لبضائعها، تقزم هذا الهدف ليصبح هؤلاء الأطفال منذ ولادتهم وحتى العاشرة. أربع سنوات كاملة، اختصرت من عمر الطفل لتضاف إلى البالغ. أو إلى من يشبهه. فـ توينز اليوم يمضون قدماً، أو يُقادون قدماً أيهما أردت، إلى صياغة صورة ناضجة عن أنفسهم بصفتهم لم يعودوا أطفالاً بعد الآن ، وهم لذلك يتلهفون لأن يتركوا أي رمزٍ لطفولتهم هذه وراء ظهورهم، أكانت ألعاباً أو برامج تلفزيونية، أو حتى الملابس المزدانة بالزهور والجوارب البيضاء البريئة بالفيونكات.
وبدلاً من كل ذلك حلت ألعاب الفيديو وأحدث الأجهزة المحمولة لتصبح لعبهم، وحلت الأفلام والموسيقى والقنوات الموجهة خصيصاً لهم لتكون برامجهم، وسيطرت الملابس ذات العلامات التجارية المعروفة كليمتد توو وتامي على رفوفهم.
تحكي باحثة تسويقية تعمل في الفرع السعودي من شركة تسويق عالمية أن الدراسات والأبحاث التسويقية التي تصممها الشركة بناءً على رغبة عملائها والموجهة لهذه الشريحة تزايد عددها في السنوات الأخيرة، وبدلاً من الألعاب التي كانت الشركة تقدمها هدايا للفتيات والفتية في هذا العمر مكافأةً وتشجيعاً لهم على الاشتراك في الدراسة، أصبحت الهدايا عبارة عن حقائب وأدوات تصدرها علامات تجارية مشهورة.
كلمة ليست الفصل
يرى المربون أن الأطفال الكبار هم أطفال لهم سمات مرحلة الطفولة المتأخرة، إذ يبدأ الطفل خطواته إلى المراهقة. ولا يدعو التسارع في هذه الخطوات إلى تغيير جذري في طريقة تنشئتهم أو طبيعة إدراكنا لنضجهم ونموهم العاطفي والجسدي، بقدر ما يحتاج إلى أبوة متوازنة في تعاملها، كريمة في عطائها.
في عالم التسويق الأمر يختلف. التوينز في هذا العالم أطفال يتجهون بخطى واثقة وفرحة وفخورة بما هي عليه إلى حياة المراهقين. وهم بذلك هدف غني ومغر لكل معلن يريد تسويق بضاعته، ولذلك نجد أن أدبيات التسويق غنية بالأبحاث التي تعيِّن بوضوح خصائصهم وصفاتهم واهتمامهم، وتلتفت إلى أي تغير طفيف في ملامح نشأتهم كي يستطيع المعلنون ووسائل الإعلام النفاذ منها إليهم. فأكبر الأدلة على وجود التوينز -ومفردة توينز في ذاتها- يأتي من الأبحاث التسويقية وربما يكون هذا وحده دليلاً على الدور الذي تلعبه الشركات الكبرى في هوية هؤلاء من الأساس. وقد لا تكون الحال في العالم العربي كحال الوضع في الغرب، لكن المؤكد أن الأمر أصبح سؤالاً يطرحه كثير من الأهالي على أنفسهم وفيما بينهم. وحاولت القافلة في عرضها لهذه القضية طرح جزء من الاجابة، كيلا يبدو الحل عسيراً إلى هذه الدرجة.