حياتنا اليوم

دوائر افتراضية في بركة ماء!

ماذا ينتج عن رؤية كوب ماء مثلج رقمي تم تشكيله على طريقة الواقع الافتراضي وقد اكتسب جاذبية الكأس الفعلية نفسها، ويعطينا إلى حد بعيد الانفعال الحسي نفسه الذي ينتج عن رؤية مثل هذا الكوب على مائدة أمام أعيننا وفي متناول يدنا؟ كيف يؤثر هذا على ميول الإنسان العاطفية ونوازعه ورغباته؟

أخذت هذه «الرقمية» تحيط بنا وتحتل حيزاً أكبر فأكبر من نطاق وجودنا وفضاء أحاسيسنا البصرية والسمعية، من دون أن نستطيع أن نجد سبيلاً لمعرفة تأثيرها على الإنسان على المدى البعيد. وكأن الحدود ما بين ما هو «رقمي» وماهو «حسي» قد بدأت تضطرب، ويزداد معها انخراط أحاسيس البشر بكيان رقمي مصنوع. والمفارقة الصعبة في القضية هي أن الإنسان إذا ما تعرَّض لتحول ما في كينونته البشرية لا يعود يحكم على حالته الجديدة بمقاييس ما كان عليه، بل بما انتقل إليه, وليس لدى أي كان الحق في إدانة أي حكم يصدر عن «إنسان متحول»، لأنه ليس من دليل حكمي على أن ما نحن عليه الآن من مفاهيم وأفكار بل وأحاسيس هي الأسلم أو الأفضل. وربما يكون من أوجه هذا التخوف الأساسية أن هذه الدنيا الرقمية تتصل بالمتعة الحسية العامة عند الإنسان، منتقلة منها وعبرها إلى نفسه وفكره وخياله.

وإذا أخذنا ما هو أقرب من الكأس مثالاً، مثل علاقة الإنسان بالكتاب والجريدة، وهي أشياء يمكن للإنسان أن يعيش من دون التعلق بها كأشياء ملموسة، وكم من ملايين الأميين من الناس يعيشون بدونها، فهل يأخذ قارئ الجريدة عن الشاشة الرقمية، نفس ما يأخذه حامل الجريدة الورقية المطبوعة؟ هل الكتاب هو كلماته فقط، أم هو أيضاً حجم وورق وغلاف حاضر في عملية انتقاله إلى نفوسنا؟

وهل إذا كونَّا شخصاً رقمياً ألقى علينا قصيدة مخرجةً بصوتٍ مكون من ذبذبات رقمية ننفعل بها كما لو كان شاعراً إنساناً أمامنا بالفعل، حتى ولو كان أمامنا على شاشة المحطة الفضائية الرقمية لا المنبر الفعلي؟ وهل يؤثر ذلك على مشاعرنا تجاه الإنسان مع مرور الزمن وتكرار التجربة؟

ما الفرق بين رسام يكوِّن لوحةً بالألوان والفرشاة على قماش «كانفاس» خشن أو جدار أملس، وبين آخر يشكلها على شاشة إلكترونية؟ ماذا ينشأ عن هذه المسافة بين الإحساس باللوحتين؟ وربما ضمن هذا التساؤل علينا أن نقف عند سؤال وسط. ما الفرق بين الشاشة الإلكترونية والشاشة السينمائية التقليدية؟ وهل ينشأ الوئام نفسه بين الأولى والثانية، بعد أن حدث هذا الوئام وامتد لعقود عديدة، بين السينما وخشبة المسرح؟

شئنا أم أبينا، فإن المشهد الموجود على الشاشة الإلكترونية، ساكناً كان أم متحركاً (كحوض الأسماك الافتراضي)، أصبح حقيقة فاعلة في نظام إحساسنا. أين نذهب به؟ وكيف سيكون حال الطفل الذي يستنفد جزءاً كبيراً من طاقته للعب واللهو ضمن الكهف الإلكتروني.. يسابق فيه زملاء افتراضيين ويلعب كرة على عشب افتراضي ويحرك السيارات والطائرات في فضاءات مشَكَّلة بالنقاط الرقمية. وبماذا سيختلف عن جيلين سبقاه كان لهوهما كرة تقع على الأرض ودراجة تتدحرج على التراب وحجر يلقى في الماء فيحدث دوائر وأصواتاً موحية غير افتراضية؟

أضف تعليق

التعليقات