تكدّس وتراكم لانهائي..
فهد القثامي – فنان تشكيلي
كتبت قبل سنوات بياناً فنياً ربما يجيب عن هذا التساؤل. وذكرت فيه أنه كلما تضخّمت الأوامر التي تتلقاها مراكز الاستقبال في المخّ، أصبحت هناك حالة من التكدّس والتراكم اللانهائي، مما يسهم في صنع مزيج معقَّد وغير مفهوم يصعب تمييزه.
تفكيك مواقف الحياة وتحليل رموزها كلياً أصبح اليوم عملية شبه مستحيلة، لأنه يعني استيعاب تفاصيلها بشمولية وموضوعية تامة.
كما أن التفكيك للرموز لا يأتي إلا بتضافر الخبرة الشخصية مع الصفاء الذهني الكافي الذي نفتقده مع تقادم السنين.
فبقدر ما يقدِّم لنا هذا العصر من رفاهية مجبولة السرعة والاتقان بأقل مجهود بدني، نجده يطالبنا بإلحاح بإعمال وإجهاد مضاعف للذهن. حيث نعيش متأهبين لاختزال الأفكار الغزيرة المتناقضة واختزانها. وهذا ما يبقينا في حالة من التأهب المستمر للالتقاط و«الفلترة» والتقييم لما تستقبله عقولنا وحواسنا اليوم. لذا لم يعد موضوع أوقات الفراغ هو ما يدفعني إلى التساؤل. ففي عصر السرعة الحالية حتى في وقت الفراغ تكون في حالة فعل شيء. ما أبحث عنه في يومياتي هو البطء. وأتساءل هل من الممكن أن يعود للبطء مجده في يوم ما؟
وقت فراغ؟ ماذا يعني وقت الفراغ؟
ميرنا زعيتر – مديرة قسم الاستقبال في أحد الفنادق
يمكنني القول إنني ولدت في عصر السرعة، ولا أعرف ما كان قبله. أعرف السرعة فقط، ولا أعرف معنى ما اتفق الذين عاشوا قبل عصر السرعة على تسميته بالبطء. فأنا لا أعرف صندوق البريد الذي توضع فيه رسالة مكتوبة على ورق داخل مظروف، ثم ترسل هذه الرسالة إلى شخص ما، فتصله بعد عدة أيام. منذ أن فتحت عيني، وأنا أرسل بريداً إلكترونياً فيصل إلى صاحبه في لحظته. ولم أعرف تسجيلات الكاسيت التي تحتفظ بها أمي والتي كانت ترسلها إلى أخوالي في بلاد الاغتراب لتسألهم عن حالهم ولتخبرهم عن حالها. فأنا منذ البداية ألقي التحية على شخص في النصف الثاني من المعمورة في الثانية نفسها التي يراني فيها.
لا وقت فراغ في يومياتي. إلا إذا اعتبرنا أن إنهائي عملي اليومي في الوظيفة، ثم عودتي إلى منزلي وجلوسي أمام شاشة الكمبيوتر وتصفح مواقع التواصل الاجتماعي، والتواصل مع أصدقائي عبر عدة وسائل تواصلية، بعضها بالصوت وبعضها بالصورة أو الفيديو، عبارة عن وقت فراغ. حينها يمكنني القول إن عصر السرعة بالنسبة لي هو الوقت الذي أمضيه في العمل، وأن وقت الفراغ هو الذي أكون فيه خارج العمل، لكن منشغلة بأموري الخاصة، وهي عبر وسائل التواصل الاجتماعي وشبكة الإنترنت كثيرة جداً، والفراغ منها لا يكون إلا بالنوم. رغم شعوري أن النوم نفسه بات موصولاً بعوالم الواقع وآلاته وأساليبه. فينام المرء بينما هو نصف نائم أو نصف واع يحضّر في رأسه المشاريع التي سينفذها في اليوم التالي في الوقت الآتي، وهو ليس وقت فراغ، بل وقتاً مملوءاً بشيء ما ولو كان لا شيء.
وقتنا المسلوب..
سمر سكري – كاتبة سعودية
أتفق أن هذا عصر السرعة، وأن أبناء هذا الجيل ولدوا ليستخدموا أصابعهم، في طي المسافات باستخدام التكنولوجيا الحديثة والإنترنت فى جميع نشاطات حياتهم اليومية. لكن الأمر الذي كان يفترض حدوثه، أن تؤدي هذه السرعة إلى توفير الوقت، وهذا ما لا يحدث، في ظل تكاثر وسائل الاتصال السريعة، والخدمات الإلكترونية، معي على الأقل.
نعم، استطعت أن أشتري وأسافر وأقرأ وأتراسل عبر الإنترنت، لكن هذا التكاثر أوصلني إلى نقطة تضييع الوقت في محاولة إدارة هذه المهام المتراكمة. والاختزال الوقتيّ الذي نعيشه بسبب السرعة أمسى «خطاطيف» تجر أوقاتنا لمتاهات ضائعة. وإن كان عصر السرعة هذا منحنا الفراغ الحقيقي، فهو أيضاً سلبنا الوقت افتراضياً.
نحن الفقراء ضحايا التكنولوجيا..
باسم صباغ – مصمم غرافيكي
حقاً هل يترك لنا عصر السرعة وقتاً للفراغ لاستكمال أحلامنا؟ ليس من الصعب التقاط المفارقة القاسية في هذا الجانب، ذلك أن عصر السرعة العتيد، بقدر ما اختزل من وقت في بعض من جوانب حياتنا، فقد سرق الكثير منه في جوانب أخرى.
عندما هاجت الحرب في الشام كنت أعتقد أني سأبدِّد الوقت بمتعة الرسم، وسيصبح لديَّ فائض من الوقت لأنجز مشاريع أُجِّلت لسنوات طويلة في رأسي. في الحرب تصبح كأي قطعة أثاث رئيسة من ديكور المنزل. هكذا دون مقدمات، جهزت 10 لوحات خام بيضاء قياس 120×120 وسندتها على الحائط. أصبح لديَّ بحر من الوقت لإنجاز مئات الأعمال التي تتطلب النَّفس الطويل واحتمال الجدران الأربعة ومخزوناً لا بأس به في الذاكرة. قبل أن تبدأ الحرب في الشام كان الفيسبوك يعلو صوته بقوة فوق أي وسيلة إعلام أخرى. كان الحراك ينتقل سريعاً، من تونس إلى مصر ثم ليبيا إلى اليمن. الصفحات الزرقاء كانت تنقل الأخبار في أقل من ثانية. بدأت متعة الاسترخاء والكسل، تأمل الحرب أمام هذا الكائن العملاق الأزرق (الفيسبوك) الذي وُجد لاختصار الوقت وتلبية الاحتياجات السريعة والتواصل الاجتماعي الهادف. أصبح لون اللوحات الأبيض يميل إلى الصفرة بعد سنة كاملة من الجلوس خلف اللابتوب. الوقت سريع والحرب تمر بطيئة تحت النافذة لدرجة أني أهملت هوايتي للغرافيك الذي أساس أدواته اللابتوب. كنت أقضي أمام الكائن الأزرق عشر ساعات يومياً وأنا أعتقد أنه ما زال لدي المجال لأعمل على مشروع الرسم.. وهكذا بدأ نزوح الأصدقاء ولجوؤهم إلى دول العالم الشاسع. العالم الذي اختصرته بشاشة زرقاء مساحتها 21 بوصة، قتلت فيها حلم الرسم ومساحة الفراغ التي جَهزتها الحرب لإنهاء مشاريع مؤجَّلة منذ سنوات.
سرعة البطء.. وبطء السرعة..
مأمون أحمد – خطاط ومصمم حروف طباعية ومحاضر
في صباي الباكر كان عدد أصدقائي محدداً. بالطبع كانت صداقات رائعة عمَّقها تلاقي الهوايات والنشاطات وقد استغرق بناؤها زمناً، تم فيه التمحيص والانتقاء ثم الالتقاء. هذه الصداقات لا تزال ترن في خاطري ولا يزال تأثيرها قوياً حتى اليوم. اليوم أستطيع بسهولة وسرعة تكوين شبكة من آلاف الأصدقاء. وبسرعة الكهرباء.
هذه السرعة تجعل الأصدقاء مثل سطح تم مسحه وعرفت كل مواصفاته وبسرعة الضوء. وسرعان ما تجدني وقد استنزفت واستهلكت كل الأصدقاء، فلم يعد فيهم ما يدهش. انطفأت الجذوة التي اشتعلت بسرعة هائلة ثم لا شيء. أما صداقاتي القديمة البطيئة النمو، فكانت كمن يستكشف كوكباً بعيداً غنياً لا تنضب أسراره!
في بلادي كنت أسافر بالقطار آلاف الكيلومترات، فأحس أنني أمتلك الأرض وأدرك تنوعها. اليوم أسافر بسرعة الطائرة من نقطة إلى نقطة دون أي إحساس بالأرض وما عليها. وكانت الحكمة تقول: من السهولة تعلّم القيادة بسرعة، لكن من الصعوبة تعلّم القيادة بهدوء. ولأننا جميعاً مسرعون صباحاً في الوصول إلى العمل، يزدحم الشارع، فنتباطأ جميعاً.
السرعة جيدة فيما نحتاجه منها، لكنها تبطئ تقدمنا الحقيقي. إنها تجعلنا نقدِّم أعمالاً عاجلة باهتة بعد أن فقدت مثلث تعاون الروح والذهن والوقت. تذكرت حامد الآمدي خطاط القرن العشرين الذي صورته الأفلام وهو يغفو ويصحو داخل امتداد حرف الألف. واليوم أرسم الحروف على الشاشة والزبون المتعجل دوني. لكني في أعماقي أحس أن هناك خللاً عظيماً أخجل منه، سببه السرعة. وكأننا نستحيل إلى آلات تشارك الآلات التي صنعناها، لدور محدَّد، المفهوم نفسه.
الطبخة الجيدة تُطبخ على نار هادئة حقاً. ولو كان لهذه السرعة قيمة حقاً فهي في جعلها الأعمال التي تنجز بتأنٍ هي الأعلى والأغلى!