بيت الرواية

سؤال الهويَّة وتمزُّق الذَّات
في رواية “زرايب العبيد”

تتمحور رواية “زرايب العبيد” للروائية الليبية نجوى بن شتوان حول موضوع العبودية في ليبيا، وقد ذكَّرتني فصول هذه الراوية ومداراتها السردية بما يُطرح الآن من رؤى نقدية جديدة، خاصة على مستوى التنظير للدراسات الثقافية، وتيارات ما بعد الحداثة التي ظهرت في ستينيات القرن الماضي، ومن هذا المنطلق، يمكن اعتبار الرواية موضوعاً للدراسات الثقافية، أي تلك الشواغل التي تجعل أي عمل أدبي خاضعاً لرؤية نقدية تتوسَّل بأدوات إجرائية وقرائية جديدة.
ولعلَّ ميسم هذه الرواية، يتساوق كلياً مع المنظور التعدُّدي للدراسات الثقافية، إذ تنفتح السرود على الآخر ذي اللون الأسود، وما يشوب هذا الآخر المختلف من مظاهر الانتقاص والدونية داخل المجتمعات العربية.

حادثة ثقافية
لقد ألمح الناقد البحريني نادر كاظم في كتابه الموسوم بـ”تمثيلات الآخر، صورة السود في المتخيل العربي الوسيط”، إلى أن المتخيل الثقافي العربي، سعى إلى رسم صورة نمطية عن هذا “الأسود”، وجرى تداول هذه الصورة على نطاق واسع، وعبر مختلف الحقب التاريخية العربية.
مفهوم الصورة وتشكيلها ودرجات تمثيلها لم يتغير، رغم تغير العقليات، ومستويات الفهم والإدراك. سوف نقرأ النصوص الأساسية التي شكَّلت التمثيل السردي والشعري. وذلك بوصفها أحداثاً ثقافية، لأنهاـ وببساطة، تجعل الأشياء والأحداث تقع في عالم الواقع، فظاهرة كالرق مثلاً يمكن أن تكون ممكنة لا بفضل الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية فحسب، وإنما كذلك بفعل إسهام النصوص وبلاغة الخطاب الثقافي والأدبي، كما أنها قد تتحوَّل إلى ظاهرة عنصرية خبيئة، ومن ثم مستحيلة، بفعل بلاغة الخطاب تلك. ولا شك في أن بلاغة الخطاب، تعمل على توريط هذه التمثيلات الثقافية في مفارقات عديدة، وتصير أكثر قابلية للإدراك والقراءة والتأويل، خاصة إذا جرى التعامل معها بوصفها أنساقاً ثقافية وليست نصوصاً أدبية، وهذا لا يعني أيضاً، أنهما متعارضان ومنفصلان، فكل إنتاج أدبي هو حادثة ثقافية في الآن نفسه.

مصادفة وبصمة خاصة
يحسب للكاتبة نجوى بن شتوان جرأتها على اقتحام موضوع العبودية، وإن كان موضوعاً مكروراً ومستهلكاً على مستوى التمثيل السردي، ففي السنوات الأخيرة، تواترت الأعمال السردية في هذا المجال، وفي هذا السياق، نتمثل بروايتي “شوق الدرويش” للروائي السوداني حمور زيادة، “طعم أسود، رائحة سوداء” للروائي اليمني علي المقري. ومن باب الصُّدفة، فتح الموضوع على مصراعيه عالمياً هذه الفترة بعد ظهور مشاهد لأسواق لبيع العبيد في ليبيا، يقوم بها مهرِّبو البشر من إفريقيا إلى أوروبا. وتكرار الكتابة في هذا الموضوع، يضاف إلى ما يجري اليوم على المستوى العالمي من استغلال لطالبي اللجوء إلى أوروبا، لا يلغي البصمة الخاصة للروائية في ما يخص بناءات السرد والرفد من ينابيع إبداعية أخرى كالفلسفة والأنثربولوجيا والتاريخ والموسيقى، وغيرها. مما يعطي الانطبـاع على قدرة الرواية بوصفها “إمبراطورية السرد” على خلق جسورٍ حميمية مع حقول إبداعية أخرى.

الحبكة والنسب
إن الحبكة أو الدال الأكبر للسرد في الرواية، تدور حول قضية “إثبات النسب”، نسب عتيقة بنت تعويضة التي يجري في عروقها دم مختلط، وهذه القضية يمكن اعتبارها “حادثة ثقافية” إذا ما تم النظر إليها من زاوية الدراسات الثقافية، وأيضاً من خلال معلومات حول تاريخ الرق عربياً، خاصة إذا علمنا أن المحرك الأساسي لكتابة هذه الرواية، هي صورة فوتوغرافية لعبيد على شاطئ بنغازي التقطها رحالة إيطالي مجهول بداية القرن العشرين، وهذا كما أسلفنا الذكــر، السبب في كــون المهمش من الذاكرة، قد يكون عامل تحريض على كتابة مثل هذه الأعمال السردية.
لقد راهنت نجوى بن شتوان على فعل التداعي من أجل التأسيس لخطاب روائي ذي أسلوب بسيط وسلس، من دون أن يكون هناك جنوح نحو “فن تطريز الكلام” أي تلك المنمنمات التي غالباً ما تطفو على سطح أي منجز سردي. لكن بالمقابل، هناك اشتغال على الهوامش للشرح والتفسير، بحيث تحفل الرواية بكثير من الكلمات الدارجة الليبية، أو الاشتغال على مكون الثقافة الشعبية من خلال الأغاني الشعبية، وهذا يوضح بجلاء مدى حرص الروائية على “تخصيب” الخطاب، وحمله على الاستعانة بمكونات خطابية ونصية أخرى.

حرمان وخيبات
حين نطالع فصول الرواية، تبزغ صورة المرأة من بين السطور، وهي مغموسة في حبر من الطقوس البائدة، التي حاولت الكاتبة التطرُّق إليها بكثير من الوعي والذكاء السردي أيضاً. ولعلَّ اتخاذ عملية السرد تقنية الفلاش باك في تأثيث السرود، خاصة على مستوى سرد العوالم الخفية العتيقة، وما يقع من أحداث داخل زرايب العبيد كنوع من التعويض عن حرمان ما، أو عن خيبات ما مقابل تغوُّل الآخر وتغلغله في الذوات الأخرى.
إن هذه الرواية تعكس تمزقاً داخلياً ولو أنه قُدِّم بشكل محتشم ومهادن، قد يصل أحياناً إلى حدِّ البساطة والسذاجة في سرد المحكيات، وعلى الرغم مما قيل وما يقال عن هذه الرواية، فهي تبقى في الأخير عملاً سردياً يحتفي بالمهمشين، والمنذورين للبؤس والشقاء.

أضف تعليق

التعليقات